من مصلحة الدول العربية أن تتوقف الآلة العسكرية الإسرائيلية عن
تدمير غزة وقتل الإنسان الفلسطيني في أقرب فرصة ممكنة. إن انعكاسات
الحرب النازية على غزة مؤلمة جدا وفجائعية، لكنها أيضا خطرة على النظام
العربي الرسمي برمته وعلى وجوده، وعلى مستقبل العلاقة بين الأنظمة
الحاكمة وشعوبها.
خلال سنوات الصراع العربي- الإسرائيلي، ومنذ ما يتجاوز النصف قرن
على احتلال فلسطين، كانت الشعوب العربية تأخذ على الأنظمة الحاكمة
تخاذلها عن نصرة القضية الفلسطينية، وصلت في فترة ما إلى حد التهكم على
حال هذه الأنظمة المنتفخة في الظاهر والخاوية من الداخل، التي تُظهر
القوة والشراسة والسطوة على الشعوب العربية المقهورة، بينما تبطن الخوف
والجبن أمام الاستفزازات والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة.
تساءلت الشعوب العربية بعفوية عن صفقات الأسلحة المليارية التي لم
تستخدم طلقة واحدة منها لنصرة أهم قضايا الأمة العربية، أسلحة منتقاة
بعناية فائقة تُخزّن في مخابئ لا يعرف طريقها إلا العدو، ولا تستخدم
حتى تصدأ، وتتحول إلى آلات غير صالحة للعمل، وعن الدبلوماسية العربية
العاجزة عن التوصل إلى حلول مقنعة ومتوازنة للقضايا العربية العادلة،
على رغم علاقاتها وصداقاتها الوطيدة مع الولايات المتحدة والدول الكبرى
في العالم، لكنها في غالبيتها علاقة العبد بالسيد، والتابع بالمتبوع،
الذي لا يكاد يرفع رأسه في حضرة الكبار.
وتساءلت عن الأجهزة الأمنية التي يُنفق عليها الملايين من ميزانية
الدولة لتوظف في النهاية ضد الشعوب، وتلاحقهم في مجالسهم الخاصة، وفي
منتدياتهم الفكرية والاجتماعية، وتتفحص كتابات المثقفين وأصحاب الرأي،
وتلاحقهم بعصا غليظة تضربهم بها كيفما شاءت ومن دون رادع، بينما لا نجد
لهذا الجهاز الأمني أثرا في كل الحروب الاستخباراتية التي تشن من
الجانب الإسرائيلي أو الأميركي ضد العالمين العربي والإسلامي، إلا في
الأفلام والمسلسلات الفضائية التي تحوّل الأحلام إلى قصص وحكايات مغرقة
في الخيالية والمبالغة والانتصارات المزعومة.
اتهمت النُّخب السياسية والثقافية الحكومات العربية، في وقت سابق،
بأنها حكومات كرتونية هزيلة، وأنها مجرد ظاهرة صوتية هامشية، لا يمكن
الاتكاء عليها لتمثيل الشعوب العربية، أو تبني تطلعاتها الطموحة، أو
طرح قضاياها العادلة، وأن اهتمامات أهل الحكم لا تتعدى في الغالب
التخطيط والسعي للوصول إلى كراسي الحكم الوثيرة، ثم الانشغال بالعمل
على المحافظة عليها، وحمايتها من الطامحين.. ويتم ذلك على حساب الكرامة
العربية والمصالح العامة.
وعندما شنت إسرائيل حربها على لبنان وعاثت فيها خرابا ودمارا،
واصطفت معظم الدول العربية إلى جانب العدو الصهيوني في موقف يثير
الشفقة على حال الأنظمة العربية ووضعياتها السياسية، بدأت الأسئلة
الاستنكارية تتناسل من داخل الشارع العربي الحائر، وبالتحديد حول
الأبعاد الحقيقية التي تقف خلف المواقف المريبة لتلك الحكومات؟ وعن
العلاقات والمصالح المشتركة التي تربطها بالكيان الصهيوني الغاصب؟ وعن
نواياها المريبة تجاه القضايا الكبرى؟ لكن تم استيعاب ردود فعل الشارع
العربي بالحديث عن «شيعية المقاومة اللبنانية»، والتحذير من أي انتصار
يُمكن أن يُحسب لمصلحة القيادات والتوجهات الشيعية في الحرب الدائرة.
أما في هذا العدوان، فإن مبررات تواطؤ بعض الأنظمة العربية مع
الكيان الصهيوني أصبحت أمرا مفضوحا، وغير مبرر على الإطلاق، فما هو
التبرير الذي يقف خلف تأييد العدو، وترك الفلسطينيين، فريسة سهلة له
بشكل مباشر أو غير مباشر؟
لم تعد مشكلة الشعوب العربية مع أنظمتها أنها تخاذلت عن نصرة القضية
الفلسطينية، كما كان الأمر خلال نصف القرن الفائت، أو كونها تباطأت عن
الدفاع عن الإنسان الفلسطيني، وصمتت أمام سحق الآلة الحربية جماجم
أطفال ونساء غزة وشيوخها، بل تتمثل المشكلة اليوم في شراكة بعض هذه
الأنظمة المباشرة وتورطها في جريمة غزة؟
المواطن العربي اليوم مهتم بإحصاء الأنظمة التي أعطت إشارة البدء
بالهجوم على قطاع غزة، والتفتيش عن الأنظمة التي كانت على علم مسبق
بالاعتداء على المدينة المنكوبة، لكنهم فضلوا الصمت تمهيدا لإحكام مخطط
القضاء على حماس وقياداتها بالآلة العسكرية الإسرائيلية، إنه يتساءل عن
النظام الذي حمل مبعوثه رسالة ممهورة بختم الدولة تستنجد بالقيادة
الإسرائيلية لتخلصها من قادة حماس الذين بسطوا سلطانهم على غزة؟
هذه الانطباعات خطرة للغاية، فهي من جهة أولى تعزز من حالة الانفصال
النفساني بين الأنظمة والشعوب العربية، بحيث يشعر كل طرف بأن المسافة
بينهما تزداد اتساعا، وأن لغة التفاهم تكاد تكون معدومة. ومن جهة ثانية
تعزز من نمو التوجهات المتطرفة في الساحة العربية، وتستقطب الفئات
المستعدة لقيادة توجهات عنفية ومسلحة كحل لاسترجاع الحقوق والكرامات
المهدورة في غزة والأراضي العربية المنتهكة. فطالما أن بعض الأنظمة
استقالت من دورها، ونصبت نفسها وكيلا عن الكيان الصهيوني والولايات
المتحدة ومُنفذا لسياساتهما في المنطقة، فمن غير المستبعد أن تُبادر
بعض التوجهات النضالية للقفز من جديد إلى واجهة الأحداث والنيل ما أمكن
من المعتدي ومصالحه المنتشرة في العالم.
على الدول العربية بصفة عامة المسارعة للبدء في تدابير فورية تستهدف
ترميم العلاقة المتوترة بينها وبين شعوبها الساخطة، من خلال اتخاذ
مواقف عملية وليست نظرية تجاه ما يحدث على الساحة الفلسطينية، تُزيح من
خلاله تكلس المواقف العربية التي طغت على أدائها طوال الفترة الماضية
من القضايا العربية، فهو السبيل الوحيد لتقليص الجفاء بين الأنظمة
والشعوب، وإلا فإن التداعيات ستكون وخيمة جدا.
ولا أستبعد أن يكون خلق تلك الجفوة هي من بين أهم المخططات
والتدابير التي يستهدفها الكيان الصهيوني في معركته الأخيرة، ويدعم ذلك
التأكيدات المستمرة من قبل المسؤولين الصهاينة بأن الحرب كانت بإيعاز
وتشجيع من بعض الأنظمة العربية ومباركتها، ويبدو أنهم على استعداد كامل
لتحديد تلك الأنظمة وفضحها، فهي حرب واسعة النطاق، ليست موجهة ضد أبناء
غزة ورجال حماس فقط، ولكنها أيضا تستهدف الإجهاز على ما تبقى من شرعية
لبعض الأنظمة العربية.. إن كانت ثمة بقية من شرعية.
* كاتب كويتي
ahmed.shehab@awan.com |