الحضارة الاترورية المجهولة والفريدة.. بذور شرقيّة تزدهر في الغرب

 

شبكة النبأ: لم تكف اكثر من الفين عام من عمر الزمن لكشف الغموض عن الحضارة الاترورية المجهولة والفريدة التي ترعرعت وازدهرت لأكثر من سبعة قرون، استمرت حتى القرن الاول قبل الميلاد على الساحل الغربي لشبه الجزيرة الايطالية.

وقال أستاذ تاريخ الفنون الايطالي ماريو توريللي في تقديمه لمعرض فني مهم لمجموعة من آثار الاتروسك من مقتنيات كبرى متاحف العالم في "قصر العرض" وسط روما يقام حالياان تاريخ الثقافة التصويرية عند الاترورية يرتبط بعقلية انطبعت بالطموح والجشع في حركة دائبة وقودها مزيج من التطلع الى أوج العظمة والقلق الكامن.

وتنم آثار هذه الحضارة الفريدة فيما تبقى من أعمال فنية تجلت فيها أعلى درجات الابداع الحرفي عن روافد بعيدة لثقافة اختمرت ملامحها ما بين حقبة ما قبل التاريخ البدائية ونهاية عصر البرونز وبين بداية عصر الحديد على تلال وروابي منطقة وسط غرب شبه الجزيرة الايطالية والتي تضم ما يعرف حاليا باقليم توسكانا وجزء كبير من اقليم لاتسيو حيث توجد مدينة روما مهد الامبراطورية الرومانية.

وامتدت "اترورية" أرض الاتروسك على شكل مثلث ارتكز أطول أضلاعه على ساحل بحر "الترينو" حيث قامت ونمت عدة مدن عامرة مثل تاركوينيا وبيروجا وأريتسو وأورفييتو وحتى فيو الجنوبية على أبواب روما القوة العسكرية الناهضة والتي سرعان ما اصطدمت معها.

وبسبب انعزال هذه الحضارة التي سطعت وازدهرت لقرون طويلة متصلة عن محيطها وعدم اتصالا لغتها بأي من اللغات الأوروبية القديمة فمازال الجدل يحوم حول أصل هذه الشعوب ومنحدرها دون التوصل حتى اليوم الى حقيقة علمية دامغة. بحسب تقرير لـ كونا.

ومن أكثر الافتراضات المتباينة العديدة حول أصل وجذور هذه الحضارة القديمة شيوعا تبرز ثلاث نظريات رئيسية تتراوح بين الاعتقاد بنزول هذا الشعب من شمال أوروبا الباردة وبين محاولة التدليل على نموها على هذه الأرض وانتمائها الى الشعوب الايطالية القديمة في الوقت وترجح ثالث النظريات الأصول الشرقية لهذا الشعب الذي يعتقد أنه نزح من آسيا الوسطى

وتبدو فكرة انتماء الاتروسك الى أصول شرقية الأكثر قبولا لدى علماء التاريخ والآثار والفنون الذين لم ينصرفوا منذ قرون عن البحث عن اجابة لهذا التساؤل وذلك بالاستناد الى شواهد عدة أبرزها عادة دفنهم لأمواتهم واقامة المقابر على عكس ما درجت عليه الشعوب الغربية القديمة التي كانت تنثر رماد موتاها بعد حرقهم.

وتتبدى ملامح الأصول الشرقية في مظاهر مختلفة من عمارة المقابر الى صناعة الفخار المعجون التي ميزت حضارة الاتروسك وان كانت لا تخلو من تأثيرات خارجية عبر أدوات كانت تستوردها في تجارتها الواسعة من بلاد أخرى مثل مصر وسوريا وقبرص واليونان وأرمينيا.

ويرى البروفيسور توريللي أن بالامكان الاقرار بأن مقابر الاتروسك وما حوته من أثاث جنائزي مصدره تقاليد محلية متوطنة في حين تعود خصائص أخرى مثل عناصر الزخرفة والرسوم على جدران المقابر الى جذور شرقية.

وتعتبر الفنون الاترورية بشكل عام "ذات طبيعة حرفية" ظهرت فيها على الدوام بعض ملامح الفنون الاغريقية خاصة بعد تجاوز الحضارة الاتروسكية مرحلتها الأولى ما قبل التاريخ وابتداء من القرن السابع وحتى القرن الأول قبل الميلاد بالتزامن مع ما عرف بالحقبة الهيلينية.

وقال العالم الايطالي ان هذا التأثير الاغريقي المتصل "ظل تأثيرا شكليا وسطحيا" حيث تميزت فنون الاتروسك بالعناية بعنصر الزخرفة والتفاصيل والتلقائية بما يمكن تسميته "بالنمط الاستهلاكي" الذي يخلو من البعد العقائدي والايديولوجي الراسخ في التقاليد الفنية وفي الثقافة الاغريقية.

ودفع هذا الحس "العملي" عند الاتروسك في البداية على أقل تقدير الى اهمال عمارة الصروح والتماثيل التي عرفتها الحضارات القديمة الأخرى في الوقت الذي فضلوا فيه فن التشكيل بالصلصال والبرونز الذي تعد المادة السائدة في فنون الاترورية التي عرفت فن التعدين وأجادته.

ومن أقدم وأهم ما تبقى من أعمال البرونز الذي برع الاتروسك في تشكيله واستخدامه على نطاق واسع "اناء الرماد" في نهاية القرن السابع قبل الميلاد.

وبعد أن غلب لفترة طويلة انتاج التماثيل والتمائم الصغيرة من الصلصال المحروق ومن المعدن نزع الاتروسك الذين استقدموا صناعا اغريقيين الى اقامة تماثيل جنائزية كبيرة الحجم كما برع الصناع الاتروسك في أشغال الذهب والعقود فريدة الجمال

وكانت التقاليد الجنائزية في اتروريا في أواخر عصر الحديد الغابر تقضي بحفظ رماد المتوفى في "اناء الرماد" الذي كان يأخذ شكل قمعين متطابقين والرمز كما كانن توضع فوق اناء الرماد للمتوفين من الرجال "خوذة" معدنية ترمز اليهم.

ثم شهدت فنون الاتروسك تحولا قويا نحو تجسيد الأشكال الرمزية وابراز الملامح البشرية في أعمال تذكر بالتوابيت والتماثيل والأواني الجنائزية عند قدماء المصريين وهو ما يبدو جليا على سبيل المثال في اناء "كانوبو دي كانتشيللي" الذي عثر عليه في منطقة سيينا بتوسكانا.

ومع سقوط العصر الملكي القديم سواء في روما وفي اترورية وأفول الارستقراطية في مطلع القرن الخامس قبل الميلاد اتجهت فنون الاتروسك الى تزيين المعابد والبيوت بأفاريز تشخيصية ملونة سابقة التصنيع من الفخار تتسم ببدعة الصنع وبتماثيل في الحجم الطبيعي مثل تمثال الاله الاغريقي"أبوللو" من الفخار الملون المعروف بأبوللو فيو.

ويعد تمثال "عريسين مستلقيين في عناق على أريكة" من القرن الرابع قبل الميلاد رمزا معبرا عن الفن الاتروري في عصر انتعاش ونمو اقتصادي واسع عندما بلغت اوج قوتها العسكرية والتجارية بالتحالف مع قرطاجنة حتى امتدت سطوة الاتروسك ونفوذهم الى أقاليم وسط ايطاليا والى اقليم كامبانيا الجنوبي وحتى جزر سردينيا وكورسيكا وصقلية.

غير أن هذا الازدهار أخذ في التراجع المتسارع خلال أقل من قرن من الزمان عندما أخذت الدولة تفقد مناطق نفوذها التي تساقطت واحدة تلو الأخرى في أيدي الدولة الرومانية المتعاظمة لتنحسر في دويلات صغيرة متقطعة داخل المدن سرعان ما استوعبتها روما لتغرب حضارة الاتروسك نهائيا وان بقيت لغزا عالقا يداعب فضول وخيال المؤرخين والباحثين على مر العصور.

ويعود اخر كشف عالمي تاريخي الى هذه الحضارة الفريدة الى أغسطس 2006 عندما عثر أحد لصوص الآثار بمنطقة "فيو" شمالي روما على مقبرة سميت "مقبرة الأسود الزائرة" نسبة لرسوم لحيوانات تزين جدارية المقبرة التي احتفظت بحالة جيدة شبهها البعض بمقبرة توت عنخ آمون المصري تعد أقدم مقبرة اترورية مزينة الجدران وتعتبر "أقدم صرح لفن التصوير ليس في العصر الاتروري فحسب بل في كل حوض بحر المتوسط الغربي".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 28/كانون الثاني/2008 - 29/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م