النسخة المحلية للديمقراطية

أحمد شهاب

ليست لعنة من لعنات التاريخ أن تتعثر الديمقراطيات في الدول العربية، وليست آخر مطاف الإصلاح السياسي، فمسيرة الإصلاح معرضة للمخاطر والعقبات، المهم ألا تتوقف المسيرة أو تنتهي، وألا تكون الأخطاء التي تقع نتيجة الممارسة الديمقراطية سببا في الانقلاب عليها أو مصادرتها، فأحد أهم فوائد الديمقراطية، إذا أعطيت الفرصة الكافية، أنها قادرة على نزع فتيل التوترات والاحتقانات السياسية والاجتماعية مهما بلغت من حدة.

بل ويرجح فريق من المهتمين بشؤون الديمقراطية أن نزع فتيل التوترات هو أهم أدوارها على الإطلاق، فتنظيم عملية المشاركة الجماعية، وترجيح رأي الأكثرية، والسماح للأقليات بالمساهمة في خلق القرار السياسي، إجراءات من شأنها أن تخفف من الشعور بالغبن السياسي والاجتماعي، وتخفض من حدة التوترات الداخلية، وهو ما يثبت أن أفضل مخرج للأزمات في الدول هو ضخ المزيد من الديمقراطية، لا الانتقاص منها، فعلاج المشكلات التي ترافق إطلاق الحريات في بلد هو دعم الحريات وصيانتها وإطلاق المزيد منها، لا التراجع عنها والتضييق على الناس.

والأمر لا يختلف في حال نجحت الديمقراطية وحققت إنجازات في الحياة السياسية والاجتماعية، فنجاح بعض جوانب الممارسة الديمقراطية في بلد لا يعني أن التجربة اكتفت ووصلت غاياتها النهائية، أو أنها لم تعد بحاجة إلى النقد والتأمل، واستغنت عن التقييم والمراجعة، بل يعني أن الساحة تنتظر إضافة إلى ضخ المزيد من الديمقراطية، تقييم التجربة وإثراءها ونقدها، إن التوجس من نقد الديمقراطية، والقلق من وضع التجربة تحت مبضع التقييم والتشريح، من شأنه أن يصيبها بالعطب والعطل.

داعي نقد الديمقراطية عند البعض هو غياب الديمقراطية ورفض النظام الاعتراف بها، فإذا اعترف النظام بالديمقراطية وأقرها، فمن العبث استمرار النقد، إن ميزة الديمقراطية في نظر هؤلاء أنها تتيح فرصا أكبر للنشاط والمشاركة السياسية، فإذا وجد الحراك السياسي طريقه في الساحة فمن العبث أن تستمر لغة النقد في مواصلة جلدها للواقع القائم.

هذا الاعتراض المتين في ظاهره، واهن في داخله، وإن ميزة الديمقراطية لا تقف عند إتاحتها فرصا أكبر للنشاط السياسي داخل المجتمعات، فهذه أحد مظاهرها، وإنما ميزتها الأساسية أنها تؤدي إلى تفجر الإبداعات الوطنية في كافة الحقول العلمية والإنسانية بلا استثناء، وتحفز على المساهمة في الإنتاج، وتحول جهد الأفراد من خدمة الفئة إلى خدمة المجموع، ومن الدفاع عن أبناء الطائفة والقبيلة إلى الدفاع عن جميع المواطنين وتحصيل المكاسب لهم. لكنها لا يمكن أن تؤدي هذا الدور بنجاح دون أن تستمر حركتها في الصعود والتطور، وصعود الديمقراطية يتم بالمزيد من الممارسة الديمقراطية، وبنقدها، وتقييمها، وتصحيح ما يعتورها من قصور سواء على مستوى النظرية أو الأداء.

يمثل نقد الديمقراطية فرصة لتبيئة الديمقراطية دون الاضطرار لدفع أثمان باهظة من جراء نقلها، وبقول آخر إن النقد يوفر معالجة ضرورية للتباينات التي تحدث نتيجة اختلاف التطبيقات الديمقراطية في البلدان العربية، واختلاف النسخة المستوردة عن الواقع المحلي، ويدفع نحو تطوير نسخة محلية للديمقراطية، تكون أقدر على التعامل مع الوضعيات السياسية والاجتماعية المختلفة في البلد المستهدف.

من المؤكد أن هذه الفكرة تعترضها صعوبات أساسية من أهمها أن عالمنا توقف عن الإبداع في ميدان الفكر والقضايا المعاصرة، إن كل ما يشغله الآن يراوح بين الاستغراق في الماضي التليد والتحسر من تسرب المفاهيم الحديثة إلى مجتمعاتنا المسلمة بصورة فجّة ووقحة، أو العمل على إعادة إنتاج ما أبدعه الغربيون من نظريات والدفاع عنها، وكأنها نظريات سماوية غير قابلة للجدل أو النقاش، أما الجهد التنظيري المحلي فيبدو غائبا بصورة محيرة، وتتزايد هذه الحيرة داخل دول الخليج، الذي تظهر بعض دوله وكأنها تعيش خارج العصر وهمومه، فبعضها لا تعيش ألم التحول الديمقراطي حتى الآن.

ولا يمكن تبيئة الديمقراطية وتنبيتها في مجتمعات تغيب عنها الكفاءات الوطنية التي تساهم في معالجة المسائل المستجدة بتفكير معمق في القضايا المطروحة، وتسعى بهمة لاستنباط مفاهيم ورؤى جديدة للساحة السياسية، خاصة فيما يتصل بالقضايا ذات الخصوصيات المحلية، والتي ترتبط بكل دولة على حدة، أو كل مجموعة دول متماثلة، مثل اللغة والمصير المشترك والقضايا البينية التي تربط دول العالم العربي بعضها بالآخر، أو الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي تربط بين دول الخليج.

لو أخذنا دول الخليج مثالا، فإن ظروف وموقع دول الخليج تفرض عليها خصوصيات تميزها عن غيرها من الدول العربية، في مسألة التطوير السياسي ودعم الديمقراطية، تبرز بعض الأسئلة حول وضعياته الاقتصادية، وهل تُمثل فرصة للتجديد السياسي داخلها من عدمه؟ وحول الهدوء السياسي الداخلي الذي يعم العديد من أقطاره وإمكانية استثماره كمحرض على التنمية البشرية، والتداخل بين الاقتصاد الخليجي والاقتصاد العالمي، خاصة في الأزمة العالمية الأخيرة، ودوره في تدعيم التواصل الديمقراطي مع الديمقراطيات العريقة، وأثر دعم دول الخليج للولايات المتحدة في التخفيف من دعم التحولات الديمقراطية في المنطقة، هذه القضايا وأمثالها ينبغي على المثقفين والمختصين داخل دول المجلس أن يعتنوا بقراءتها وتدارسها، بصفتها السبيل إلى التطوير السياسي.

لا شك أن الانتقال إلى الحال الديمقراطي واستقرار الممارسة السياسية، هو أحد شؤون الدولة، لكنه كذلك من شؤون المجتمع، وتقع مسؤوليته تحديدا على عاتق المفكرين وأصحاب الرأي من جهة، وعلى المؤسسات والجماعات السياسية من جهة أخرى. بالنسبة للمفكرين فينتظر منهم أن يقدموا قراءاتهم للواقع السياسي في بلدانهم بالكثير من العمق، ولاسيما فيما يتصل بالتعارضات التي يمكن أن تُعيق عملية الإصلاح السياسي في بلدانهم.

إن الأطروحات السريعة والمعلبة التي يكثر الإقبال عليها، خاصة في ظل تكاثر وسائل الإعلام المحلية والعالمية، والرغبة في تكثيف الظهور الإعلامي من قبل بعض الناشطين والسياسيين، ليست لها ثمرات حقيقية على مستوى التطوير السياسي في البلدان العربية، فالصراخ والجدل الصاخب لا يجلب الفكرة ولا يطورها، بل يبعدها ويغيبها.

أما بالنسبة للمؤسسات السياسية فلا يكفي أن تنشغل في ضخ الشعارات لأغراض انتخابية وسياسية ضيقة، بل عليها أن تُغذي الساحة بالكفاءات السياسية والفكرية القادرة على التعاطي مع المستجدات والتحديات بوعي ومسؤولية، والمتمكنة من قراءة الساحة بدقة عالية، وتقديم أجوبة للإشكالات التي تعترض باستمرار مسيرة العمل السياسي والتجربة الديمقراطية.

* كاتب كويتي

ahmed.shehab@awan.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 24/كانون الثاني/2008 - 25/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م