يمكن القول بان شريحة واسعة من المجتمع العراقي المعنية بهموم
العملية الانتخابية الراهنة لاتملك معطيات كافية تؤهلها لتشكيل
رؤية واضحة عن أحوال المرشحين في الانتخابات المقبلة؛ هؤلاء الذين
سيؤول (للمحظوظين) منهم أمر إدارة - إن لم نقل- قيادة مدنهم
واقضيتهم ونواحيهم.
وأحد التفسيرات التي تحاول الكشف عن ملابسات هذا القضية تحيل
سبب تلك العتمة أو التعتيم الى صعوبة المقارنة بين الطواقم
السياسية والإدارية التي تولت زمام الأمور في المرحلة السابقة وبين
المرشحين الجدد مجهولي الحال بالنسبة لأكثر الناخبين , وما يزيد
الأمر عسرا وتعقيدا في هذا الموضوع هو بث أو نشر شائعات أو أخبار
لايُعلم مدى دقتها حول عدد من الكيانات السياسية الجديدة والقديمة
تمثل بمجموعها تكتيكات انتخابية يعمد إليها بعض المستفيدين من
الوضع السابق ويهدفون منها الى التمويه وتعمد التشويش على أذهان
الناس من اجل حملهم على التصويت لبقاء الأمر على ما كان عليه بحجة
أن "الشين الذي تعرفه خير من الزين الذي تجهله ".
ومن العوامل التي ساعدت في تخلف الوعي الانتخابي عند هذه
الشريحة هو تقصير المفوضية العليا للانتخابات في الوصول الى
الطبقات البسيطة من المجتمع واقتصارها على العمل في حدود الطبقات
المثقفة , ونفس الامر ينسحب الى عدد كبير من منظمات المجتمع المدني
التي ترفع لافتات الحريات والحقوق المدنية.
وثمة تفسير أخر يعلل ضبابية الموقف بكون التجربة الديمقراطية
الناشئة في العراق لم تستطع أن تخلق - حتى ألان - ما نستطيع أن
نطلق عليه بـ "النخبة المستقلة" التي تحدد مسارات الرأي العام
باتجاهات واضحة في القضايا العامة التي يحفها الغموض كما هو الحاصل
في مناسبات الانتخابات , فبفضل وجود مثل هذه النخبة المستقلة تتحدد
معالم الطريق بشكل واضح بالنسبة للعدد الأكبر من الناخبين , ويغدو
بروز النخبة السياسية الجيدة على السطح نتاجا لمثابرة وجهود النخبة
المستقلة , وعليه فبسبب غياب النخبة المستقلة تضعف بصيرة الجماهير
بل تختفي تماما ما يمهد السبيل لوصول نخبة سياسية رديئة الى سدة
الحكم والادارة.
وبالرغم ما يحيط هذا التفسير من مسوغات إلا إن فرضية انعدام
وجود نخبة مستقلة في هذا البلد لاتصمد أمام الواقع فضلا عن حقائق
التاريخ , فطالما اوجد النظامان الديني والعشائري العراقي حلولا
ومعالجات شتى قضت بفض مشاكل الغموض والالتباس التي لازمت عددا
كبيرا من القضايا الدينية والاجتماعية التاريخية , وعلى سبيل
المثال فقد اشار نظام المرجعيات الدينية الى الحاجة لوجود خبراء
يرشدون العامة من الناس الى الأفضل من الفقهاء عند الشك والحيرة في
من هو الأعلم أو الاورع من بينهم , وذلك من خلال ما يعرف بـ(أهل
الخبرة ) , كما اشتهر منذ القدم في العالم الإسلامي ومنه العراق
مفهوم (أهل الحل والعقد ) , الى ذلك ظهرت منذ أمد بعيد في النظام
العشائري العراقي ما تعرف بشخصية "ابن الاجواد " التي تناط بها
وبإقرانها عادة مسؤولية توجيه آراء العشيرة أو القبيلة الوجهة
الصحيحة في مواقف الاشتباه والتردد.
كما لا يمكن إنكار وجود قادة عراقيين بارزين اثروا الحياة
الفكرية العراقية المعاصرة ومنهم علماء ورجال دين وصحفيين وأدباء
وفنانين قاموا بدور التوجيه والإرشاد الاجتماعي على أكمل وجه ,
وماتزال تحتفي بهم الذاكرة الشعبية فضلا عن سجلات المؤرخين التي
أشادت بريادة العراقيين لظاهرة النقد الموضوعي طوال حقب طويلة
وأرخت لمفكرين كبار ولدوا أو عاشوا في العراق.
ومع التسليم بالطعون السابقة على أطروحة انعدام النخبة المستقلة
في العراق نخلص الى القول بان لهذه النخبة وجودا قويا وشاخصا إلا
إن عوامل عديدة ساهمت مجتمعة في الحيلولة دون أداء هذه النخبة
لواجبها المفروض عليها أخلاقيا بشكل مناسب وقد يكون وراء تغييب أو
عزل هذه النخبة أيدلوجيات دينية أو فكرية أو ظروف حياتية قاهرة أو
أجندات سياسية , وما نعنيه بهذه النخبة هي منظومة الواجهات المحلية
الثقافية والفكرية والإعلامية بما تشتمل عليه من شخصيات مستقلة
وبما تمتلكه من أدوات التأثير على طبقاتها الاجتماعية.
وبقدر ما يتعلق الأمر بقضية الانتخابات المحلية التي تشغل
الرأي الرسمي والشعبي هذه الأيام , فلا شك أن العبء يقع على جميع
الهيئات الثقافية وبخاصة مؤسسات المجتمع المدني وأجهزة الإعلام
المحلية في الترويج للمُثل العليا الخاصة بالسياسة والحكم وعلى
رأسها النزاهة والحكمة , بل الذهاب الى ماهو ابعد من مجرد ذكر
الشروط العامة التي يجب أن يتحلى بها المرشح لمنصب عام في المحافظة
أو المدينة ؛ الى تشخيص ورعاية المناهج والبرامج القادرة فعلا على
معالجة الأخطاء الفادحة التي نتج عنها سوء الاختيار في المرحلة
السابقة , فضلا عن تقديم كشف حساب يومي بجميع الخروقات الانتخابية
المرتكبة أثناء وبعد الانتهاء من عملية الانتخابات والتضامن مع
الجهات التي يقع عليها حيف أو انتهاك قانونيا كان أو أخلاقيا.
إن التأمل في ظروف موسم انتخابات مجالس المحافظات والاقضية
والنواحي الحالي يشير الى جملة من العوائق الرئيسة تحول دون وصول
البديل السياسي المناسب للتصدي لمتطلبات المرحلة المقبلة , وبعض
هذه العوائق قد ينبع من أصل دستوري خاطئ أو من نفس النظام
الانتخابي الذي أوصد الباب بوجه بعض المرشحين الأكفاء وفتحه على
مصراعيه أمام بعض الفاشلين , وبعضها يأتي من خلال اتكاء قسم من
المرشحين الواهنين على قوى حزبية ذات نفوذ واسع ,وثمة أسباب تكمن
في ضعف الإمكانيات المادية والإدارية لهذا المرشح أو ذاك , ومن تلك
العوائق ممارسات سياسية هابطة يتبعها بعض المرشح ضد البعض الأخر من
قبيل تمزيق وإتلاف الدعايات الخاصة.
أما أكبر تلك العوائق وأكثرها فتكا وتخريبا فيتجسد بتقاعس دور
منظمات المجتمع المدني وأجهزة الإعلام المحلية وتفريطهم بمسؤولية
توجيه وهداية الرأي المحلي الى الحقيقة الغائبة أو المغيبة وكشف
اللثام عن شعارات الزيف والخداع.
إن الفرصة متاحة أمام منظمات المجتمع المدني ووسائل الصحافة
المحلية لإثبات صدقيتها وحرصها على خدمة مواطنيها بموضوعية وتجرد
وذلك من خلال التعاون على إنتاج برامج تثقيفية مكثفة تفتح ملفات
المرحلة السابقة بما تشتمله من نقاط سلبية وايجابية , واعتقد أن
خير من يقوم بتنفيذ هذه المهمة في مثل هذه الظروف هي محطات الإذاعة
المحلية وذلك لأسباب من جملتها رخص الخدمة الإذاعية وتوفرها في
معظم البيوت والأسواق فضلا عن وجودها في سيارات نقل الركاب على
اختلاف أنواعها وأحجامها وبالتالي القدرة على جذب واستمالة ومن ثم
إيصال الوعي الانتخابي الحقيقي الى اكبر عدد ممكن من طبقات المجتمع
غير المثقفة. وإذا ما أحسن القائمون على إدارة هذه المحطات استثمار
هذه الوسيلة المهمة ببرامج هادفة ودُعمت جهودهم الفنية بتمويل من
لدن مؤسسات المجتمع المدني المحلي فان الاستماع الى محطات الإذاعة
سوف يغدو تقليدا يدأب الناس على ممارسته في كل موسم انتخابي , كما
انه سيساهم الى حد بعيد في إصلاح آليات العمل في منظومة المجتمع
المدني التي اجتمعت على تخريب سمعتها التدخلات السياسية والمطامع
الأنانية.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net |