تصاعدت وتيرة الحديث خلال الأسابيع الماضية عن انتخابات مجالس
المحافظات القادمة وقد أفرزت الدراسات الميدانية التي تصدت لهذه
القضية واجراها مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية نتائج
مهمة، لعل أهمها تراجع في التأييد الشعبي للأحزاب التي تقود مجالس
المحافظات التي شملتها الدراسة وتفوق الأحزاب التي لم تشارك
بفاعلية في هذه المجالس خلال المدة الماضية، كما يلاحظ هناك رغبة
جيدة لدى الناخب العراقي في الذهاب إلى صناديق الاقتراع والمشاركة
في الانتخابات باعتبار إن العملية الانتخابية وممارستها حق دستوري
تتم عن طريقه عملية التغيير.
لكن الملفت للنظر إن ذلك التغيير الذي رغب به المواطن العراقي
كان من أهم أسبابه هو الفشل (وان كان بنسب متفاوتة) الذي انتاب
أداء تلك المجالس في إدارتها لملف الخدمات والإعمار.
أين ذهبت تحليلات وآراء الخبراء
والسياسيين؟
بعد إعلان نتائج تلك الدراسات تلقفت وسائل الإعلام تلك النتائج
وأخذت تحللها وتعلنها وللأسف كل وفق الاتجاهات السياسية التي
تتبناها والمناهج التي تختطها، فالعلمانيون عدوا الدراسة انتصارا
حقيقيا لهم أو إنها بداية لتحقيق الانتصار في الانتخابات القادمة،
أما الأحزاب الدينية فاعتبرتها دراسة قاصرة وان عبرت عن جزء من
الحقيقة ولكن ليس الحقيقة كلها وان الانتخابات قادمة ستظهر تلك
الحقيقة التي تؤكد علو كعبهم.
وبين هذين الرأيين يلاحظ إن هناك من يقول إن المتغيرات في
العراق هي متغيرات حادة ربما ستزيد من النسب التي أعلنتها الدراسة
أو تعمل على كبحها وتخفيضها.
وعندما نناقش هذه الآراء نلاحظ أنها جميعا آراء محتملة الوقوع،
ولكن الحقيقة في ميدان الديمقراطية والتي يفترض أن تسود هي إن من
يعطي أكثر لناخبيه يحصل على أصواتهم، فما بالنا بانتخابات هي في
محك مع احتياجات الناس ورغباتهم ومطالبهم، وما أكثرها في بلد مثل
العراق الذي يعوز شعبه ملفات ساخنة أولها ملف الخدمات وعلى رأسه
الكهرباء، وملف الاقتصاد وعلى رأسه زيادة وتخفيض الرواتب والسكن
و...
هنا يتساءل المحلل أيا كان مشربه هل يستطيع أي عضو من أعضاء
مجالس المحافظات سواء الحالية منها أم القادمة من تحقيق مطالب
ناخبيه.؟
الحقيقة إن الجواب على هذا السؤال هو أن على أي عضو في مجلس
محافظة أو أي مرشح للانتخابات القادمة أن يكون صادقا مع الناس،
وعليه أن لا يقع في خطأ التنافس الإعلامي والانتخابي الفوضوي الذي
قد يؤدي به إلى إعلان رسم صورة وردية عن المستقبل الذي يعد به
ناخبيه، ومن ثم بعد فوزه يصدم بواقع ربما لا يستطيع تحريك أي خطوة
فيه باتجاه تحقيق وعوده لأولئك الناخبين.
نعتقد إن أصل الموضوع هو هذه القضية التي أدت إلى تراجع شعبية
الأحزاب التي قادت مجالس المحافظات التي شملتها الدراسة، بغض النظر
عن انتماءها الأيديولوجي، إذ إن هذا الأمر سيحصل بالتأكيد مع
الأحزاب التي لم يكن لها حضور قوي في مجالس المحافظات الحالية، إذا
ما مارست نفس الأسلوب في إدارة مجالس المحافظات مع الاعتراف بوجود
النقص التشريعي الذي يعرقل الكثير من الخطط والإجراءات والسياسات
التي ربما ترغب باتخاذها مجالس المحافظات منذ سنوات خلت.
لكن الحقيقة الأخرى الواضحة التي تبرز في إدارة شؤون المحافظات
هي إنها لم ترتق إلى مستوى التحديات التي تواجهها خلال السنوات
الماضية، فتراها ضعيفة وأصواتها خافتة أمام اخطر قضية ألا وهي قضية
الفساد المالي والإداري ولعل عدد من أعضاء مجالس المحافظات قد مارس
الفساد بنفسه من خلال المحسوبية والمنسوبية، مع ترك تلك المجالس
أمر معالجة الفساد للحكومة المركزية وحدها مما جعلها أمام أعباء
كبيرة إضافة إلى أعباء الملف الأمني والسياسي، وحينها أعلن السيد
رئيس الوزراء بان عام 2008 هو عام القضاء على الفساد، وبالرغم من
عدم القضاء على الفساد نهائيا لكنه بالتأكيد انخفض إلى مستويات
أدنى لكنها ليست بمستوى الطموح، وهذا يؤكد حقيقة عدم نهوض مجالس
المحافظات الحالية بمسؤوليتها تجاه الملفات المعقدة وأهمها الفساد.
بالإضافة لذلك فانه قد واجهت تلك المجالس ضعف كبير في إدارة
التخصيصات المالية الموجهة نحو تنمية الأقاليم والمحافظات بالشكل
الذي يسرع من تحقيق عملية إعادة البناء والإعمار بالشكل الذي يرضي
طموحات الشعب.
من هنا نعود إلى رأي المحللين الذين نجد إنهم انطلقوا أما من
حقيقة عدم وجود توازن حقيقي بين ما هو مخصص من أموال لمجالس
المحافظات للنهوض بالواقع الخدمي، أو إنهم انطلقوا من باب التشفي
بمحاولات الإقصاء التي مورست من جهات سياسية ضد جهات سياسية أخرى،
أو إنهم انطلقوا من باب الرد الموضوعي أو التشكيك بجدوائية هذه
الدراسات ومصداقيتها.
أين الحقيقة؟
الحقيقة التي بينتها هذه الدراسات إن العراق قد أفرزت تجربته
الديمقراطية على علاتها وسلبياتها، وجود مراكز بحثية متخصصة من
شانها التصدي لموضوعات حساسة غاية في الأهمية وهي نقطة ايجابية
تحسب لجميع المراكز التي تتصدى لهكذا مواضيع تهم الشأن العراقي.
أهمية مراكز الأبحاث والدراسات في
العملية السياسية بالعراق
يكتسب هذا الموضوع أهمية كبرى في الدول المتقدمة، من كون إن
العديد من مراكز الدراسات في العالم قد ساهمت إلى حد كبير في صياغة
قرارات تاريخية، أو المساهمة في صياغة مشاريع من خلالها رسمت خارطة
العالم السياسية، وهناك أمثلة ونماذج كثيرة في هذا الميدان، ومنها
وليس آخرها تلك الدراسة التي قدمت المشورة والرأي للرئيس الأمريكي
جورج بوش بشان مستقبل وجود القوات الأمريكية في العراق من خلال
لجنة بيكر – هاملتون، وكذلك تلك الدراسات التي قدمها معهد السلام
الأمريكي ومشروعه الشهير مشروع أنبوب المياه الشرق أوسطي، وغيرها
كثير.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد في إنضاج قراراتها
على الدراسات والأبحاث التي تقدمها مراكز الأبحاث، فما بال البلدان
النامية وفي مقدمتها العراق الذي يحتاج بشكل كبير إلى جهود مراكز
الأبحاث والدراسات في إنضاج العملية السياسية أو ترسيخ التجربة
الديمقراطية فيه، وكذلك إعادة نسق البنيان السياسي والاقتصادي
والاجتماعي فيه بعدما خربته الحروب والإرهاب، لذلك تأتي الدعوة في
دعم تلك الدراسات والتوقف عندها باتجاه ترسيخ الأسس العلمية
والموضوعية في اتخاذ القرار وإشاعة الوعي المجتمعي بالاعتماد على
الدراسات في كونها مفتاح لحل المعضلات التي تواجه البلاد في شتى
الميادين.
إن الابتعاد عن ذلك المسار ربما يؤدي إن لم يؤد بالتأكيد إلى
مزيد من الفوضى وخصوصا في ميدان الإعمار والبنية التحتية وإقامة
المشاريع الإستراتيجية التي يلاحظ وبوضوح مدى استخدام اساليب
التجربة والخطأ في الكثير منها مما أدى إلى ضياع الكثير من الجهود
والأموال، كان العراق بحاجة ماسة لها في ظرفه العصيب الذي يعيشه.
مجالس المحافظات ومراكز الأبحاث
كان بود الكثير من الأكاديميين العراقيين أن يقدموا جهودهم من
اجل خدمة عملية إعادة بناء بلدهم، لكنه ولأسباب كثيرة ومتعددة لم
يفلح هؤلاء بتقديم ما لديهم، وربما المحاصصة والتحزب التي انسحبت
على مجالس المحافظات كانت السبب الأكبر في انزوائهم وترددهم فضلا
عن عدم رغبتهم في الدخول بالتنافس السياسي الذي كان السمة الغالبة
في الحركة السياسية العراقية خلال الحقبة التي أعقبت سقوط النظام
السابق، ولذلك كان على مجالس المحافظات احتواء الكثير من
الأكاديميين الذين يتواجدون في مراكز الأبحاث والدراسات وخصوصا تلك
الكفاءات التي تتسم بالمهنية العالية ومن ثم الاستفادة منهم في
تكوين وتشكيل الرؤى والخطط ومن ثم إيجاد السياسات المناسبة إزاء
الكثير من المشاكل التي تواجه عملية إعادة البناء والإعمار في
العراق.
لذلك يأتي مقترح دعم او إقامة وتأسيس مركز أبحاث متخصص في كل
محافظة من أولويات تشكيلات مجالس المحافظات القادمة، حيث يتم من
خلالها احتضان تلك الطاقات العلمية سواء تلك التي تتواجد في الوسط
الجامعي أو خارجه ومن ثم الاستفادة من خبراتها نحو توجيه عمليات
إعادة الإعمار والبناء التوجه الصحيح والعلمي بما يضمن عدم وجود
فساد أو هدر أو تبديد في أموال الشعب العراقي.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات
الإستراتيجية
http://fcdrs.com |