إن التخلف الحضاري الذي تعانيه شعوبنا العربية والإسلامية بنسب
مختلفة، يلقي بظله الثقيل على مجمل مرافق الحياة ومجالاتها.
ومن المجالات الحيوية التي يصيبها داء التخلف، ويؤثر في حركتها
ونمط تكوينها الداخلي (المجال الاجتماعي).
حيث أن الضعف الاقتصادي، وغياب الاستقرار السياسي، واهتزاز
القيم الأخلاقية والمعيارية. كل هذه الأمور تعكس آلياتها
وتأثيراتها على الحقل الاجتماعي، ولعل في غياب مفهوم الاستقرار
الاجتماعي في المجتمعات العربية والإسلامية، ما يعكس عمق هذه
الأزمة، ويبرز تأثير التخلف الحضاري في هذا الحقل الحيوي والهام.
إذ أن السمة الغالبة للكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية،
هي بروز جملة من الظواهر والنتوءات، التي تعكس وجود خلل خطير في
مسيرة المجتمعات العربية والإسلامية. وبإمكاننا أن نفسر مقولة غياب
الاستقرار الاجتماعي، بالحروب الاجتماعية المغلفة (الكامنة)
والصريحة التي تعانيها مجتمعاتنا تحت عناوين ومسميات مختلفة. مما
أفقد العالم العربي والإسلامي ظاهرة السلم الاجتماعي وثمارها
العميقة على مستوى الداخل العربي والإسلامي والخارج الدولي.
وحينما يفقد التوازن والسلم، تتجه كل الطاقات إلى الهدم لا
البناء، وإلى التقوقع والانطواء على الذات لا الانفتاح والانطلاق
الرحب.
وبهذا تتضخم التناقضات الداخلية، ويصبح هم كل طرف إلغاء خصمه من
الخريطة الاجتماعية. ومن ثم يدخل المجتمع بقواه المختلفة في لعبة
الصراع المكشوف والتصفية الجسدية والمعنوية.
وفي المحصلة النهائية : إهدار كل الطاقات والإمكانات في أمور
وقضايا تزيد المحنة الداخلية وتعمق القيود التي تمنع استعادة
المجتمع لحيويته وفاعليته التاريخية.
ولهذا فإننا كشعوب عربية وإسلامية، أحوج ما نكون إلى توطيد
دعائم السلم المجتمعي، وإنهاء كل الأسباب والمظاهر التي تحول دون
انطلاقة المجتمع في عملية البناء والتطوير.
وإن النواة الأولى لتحقيق سلم اجتماعي، هي إشاعة ثقافة السلم
والتسامح ونبذ التعصب في أرجاء المجتمع. وينبغي أن نستفيد من
المنابر الإعلامية والمؤسسات التعليمية في إشاعة هذه الثقافة، التي
تهيئ الأرضية المناسبة لمشروع السلم الاجتماعي.
وثمة حقيقة أساسية في هذا المجال وهي : أن إشاعة ثقافة التسامح
والسلم، هي التي تؤسس مفهوم الوحدة الوطنية. لأن الثقافة الواحدة
التي تقبل الآخر كما الذات، هي المقدمة الطبيعية للوحدة العملية
والاجتماعية. لهذا فإنه من الضروري الاهتمام بمسألة إشاعة الثقافة
التي تغذي مفاهيم السلم الاجتماعي.
ولا بد من القول أن الأوطان المتقدمة سياسيا واقتصاديا وتقنيا،
لم تبن بلون تاريخي أو قبلي أو عرقي واحد، وإنما هي عبارة عن
مجموعة من المجتمعات التاريخية أو القبلية أو العرقية، التي اندمجت
مع بعضها البعض على قاعدة السلم الاجتماعي والوطن الواحد والمصلحة
المشتركة، ولم تقف هذه الأوطان عند هذه الحدود، وإنما عملت على
تطوير التجربة، وتعميق الوحدة الوطنية بنظام قانوني يكفل للجميع
حريتهم، ويتعاطى مع الجميع على القاعدة الوطنية المشتركة. وبهذا تم
إبطال المفعول السلبي للتمايز التاريخي أو العرقي أو القبلي. عبر
نظام يؤسس السلم الاجتماعي، الذي يصنع عند المواطن حالة نفسية
وعملية تتجه نحو إعلاء المشترك مع الإنسان الآخر، واحترام نقاط
التمايز وإبقائها في حدودها الطبيعية التاريخية والثقافية.
فالولايات المتحدة الأمريكية مثلا، لا تتكون من شعب واحد أو عرق
واحد أو ديانة واحدة، وإنما هي مجموعة من الشعوب انصهرت في إطار
قانوني - سياسي، وفر للجميع المساحة الخاصة التي يعبر فيها كل شعب
أو مجموعة بشرية عن عقائدها وأفكارها.
وفي الإطار العام تسود المجموعات البشرية علاقة السلم الاجتماعي
على قاعدة قانونية ووطنية مشتركة. مما يدفع جميع المجموعات البشرية
إلى الدفاع عن هذا النموذج والسعي نحو إبراز قيمه الأساسية.
وحينما نتمعن في التاريخ وعوامل نشوء العصبيات، ومن ثم تأثيرها
السيئ في الوجود المجتمعي. نجد أن ظروف القهر والنفي والإقصاء
والاستعلاء، هي التي تدفع الآخرين إلى التخندق والتمترس في إطار
عصبوي ضيق. وإن المزيد من الاستعلاء، لا يؤدي إلى تلاشي العصبوية
التاريخية والاجتماعية، وإنما يزيدها أوارا واشتعالا. فالنفي لا
يولد إلا نفيا مثله، والعنف يصنع عنفا مضادا. وهكذا يصبح خيار
القفز التعسفي على التنوع المجتمعي لا يحل المسألة بل يزيدها
تعقيدا.
والمنظور السليم للتعامل مع العصبيات التاريخية، هو المزيد من
السلم الاجتماعي والتسامح الثقافي، الذي يسمح لتلك العصبويات من
ممارسة دورها الايجابي في البناء والتلاحم الاجتماعي.
وإن إنهاء تأثير العوامل الخارجية على الوضع الداخلي المتنوع،
ليس بالمزيد من قرارات المنع والحظر، وإنما بتوفير الأمن الاجتماعي
والثقافي والسياسي. فالمجموعة البشرية التي يتوفر أمنها الاجتماعي
والثقافي والسياسي، لا تضحي به من أجل علاقة متميزة مع الخارج أو
تأثير مفتوح من الخارج بعوامله المختلفة، على الداخل بآفاقه وحقوله
المتعددة.
أما المجموعة البشرية التي تفقد الأمن بكل صوره، فهي لا تخاف
على شيء تخسره. لذلك فهي تكون مهيأة لاستقبال التأثير بكل صوره من
الخارج.
وتأسيسا على هذا نقول : إن الفريضة التي ينبغي تأكيدها والعمل
على تكريسها في واقعنا الاجتماعي والوطني هي فريضة السلم
الاجتماعي. لأنها العاصم من المتاهات والحروب المجهولة المصير.
ولابد من تعميم الوعي والثقافة، التي تؤكد على هذه الفريضة
وتعتبرها من المشاريع الحيوية والأساسية.
وإن التعايش والسلم المجتمعي، لا يعني تطابق وجهات نظر
المواطنين حول مختلف القضايا والأمور. لأن تطابق وجهات النظر بين
مختلف المواطنين من الأمور المستحيلة، ولا تتناغم والنواميس
الاجتماعية.
فما دام الإنسان يمتلك عقلا وقدرة على التفكير، فهذا يعني أنه
يمتلك إمكانية الاختلاف في الفكرة ووجهات النظر والمواقف. وليس من
الطبيعي لعقول مختلفة في الخلفية والرؤية، أن تتطابق وجهات نظرهم
ومواقفهم على كل القضايا والأمور.
ولكن اختلاف الناس في أفهامهم وأفكارهم وتصوراتهم ومواقفهم تارة
يكون سببا أساسيا من أسباب النزاع والتصادم والصراع. إذ يسعى كل
واحد بإمكاناته وقواه، على فرض فكره ورؤيته على الآخرين. والآخرون
بما أن أفكارهم ومواقفهم مختلفة، فهم يقاومون عملية الفرض والقسر
هذه. وبهذا تتأسس عملية الصراع في الوسط الاجتماعي.
وتارة أخرى يكون الاختلاف المذكور، أحد العوامل المساعدة لعملية
التعايش الاجتماعي باعتباره هو الخيار الحضاري الوحيد الذي يكفل
للمجموع حريته، ويحترم اختياراته التصورية والفكرية.
وبهذا فإن السلم الاجتماعي، لا يعني انطباق أفكار وآراء كل
المجتمع. وإنما هو احترام الاختيار الفكري الذي التزم به كل واحد،
والعمل على تشكيل مجموعة من القواعد والمبادئ التي تحترم هذا
الاختيار، وتسمح لجميع الشرائح والقوى الاجتماعية على التعايش على
قاعدة المشترك الأيدلوجي والوطني، مع وجود اختلاف في وجهات النظر،
وتباين في الأفكار والمواقف. |