أهمية العملية التربوية في ترسيخ مفهوم النزاهة في سلوك الأطفال

د. غالب محمد رشيد الاسدي

يعد مفهوم النزاهة من المفاهيم التي كثير الحديث عنها في العراق بعد التغيرات التي حدثت عام 2003 م وانتقال البلد نحو الديمقراطية بعد عقود من النظم الدكتاتورية والاستبدادية التي حكمت البلاد. وهو من الأمور الطبيعية وذلك لان الحكم الديمقراطي التعددي يؤمن بإنشاء مؤسسات رقابية رسمية وشعبية لأداء الحكومة وموظفي الدولة، فضلا عن تطبيق القوانين السارية والمشرعة من قبل برلمان الشعب لمكافحة الفساد المالي والإداري بأنواعه كافة، وإذ تعد النزاهة من آليات مكافحة الفساد فان التأكيد عليها وتنميتها تربويا من اختصاص العاملين في الميدان التربوي والمؤسسات التربوية.

 إن بناء أي برامج أو خطة أو فكرة لمناهج تربوية يمكن من خلالها إشاعة هذا المفهوم، وتنميته في الأجيال القادمة ضمن فلسفة الدولة التربوية يتطلب في البدء معرفة ما المقصود بمفهوم النزاهة، إذ إن التحديد الدقيق للمفهوم يُمكن التربويون من إعداد تلك البرامج أو الخطط أو الأفكار للمفهوم حصرا دون اختلاطه ببرامج أو خطط أو أفكار معدة لمفاهيم أخرى قريبة له، كما إن التحديد الدقيق للمفهوم يعد الخطوة الأولى أو المدخل الذي يجعل المتتبع أو المعني يتوقع ما موجود في المحتوى العام لها وبالتالي يسهل نقده أو تصحيحه أو تعديله أو الإضافة عليه بما يعود بالنفع على العملية التربوية التي تدير هذه البرامج أو الخطط أو الأفكار.

 عرف لسان العرب النزاهة والرجل النزيه ((ينزهه عن الشيء إذا تباعد عنه، و فلان يتنزه عن الأقذار وينزه نفسه عنها أي يباعد نفسه عنها، ونزه نفسه عن القبيح نحاها، ونزه الرجل باعده عن القبيح، والنزاهة البعد عن السوء، وان فلان لنزيه كريم إذا كان بعيدا عن اللوئم. وهو نزيه الخلق وفلان يتنزه عن ملائم الأخلاق أي يترفع عما يذم منها. والتنزه رفعه نفسه عن الشيء تكرما ورغبة عنه)) (1).

 وهو تعريف يتضمن المعنى التربوي للنزهة أيضا، إذ إن التربية تنمي كل القيم الاجتماعية المرغوبة في الأجيال التي تتعامل معها، فالنزاهة هي الابتعاد عن كل ما يلوث الفرد من مفاسد مرفوضة من القيم الاجتماعية. وتلعب تربية الأطفال دورا أساسيا في السعي لجعلها مظاهر سلوكية لديهم في مواقف الحياة اليومية كي تنعكس على مواقف حياتهم المستقبلية.

 لذا تعد تربية الأطفال بالشكل الموجه أو المقصود في المراحل المبكرة من المهمات التربوية التي أكد عليها معظم المنظرين وأصحاب المدارس التربوية، وذلك لان طبيعة مرحلة الطفولة لاسيما الطفولة المبكرة تمتاز بوجود استعداد فطري للتعلم عند الطفل فضلا عن غريزة الفضول والتعرف على ما يحيط بعالمه من مؤثرات بيئية وإنسانية مختلفة، لذا تراه يقلد ويحاكي ما موجود حوله من سلوك لاسيما سلوك أفراد الأسرة الأكبر منه سنا، وبالتالي فان هذه المرحلة لابد من استغلالها تربويا إلى أقصى حد ممكن في إكساب الأطفال القيم والعادات الاجتماعية المرغوبة من المجتمع وتعريفهم بها، والتي يعد غرسها غرسا حقيقيا في هذه المرحلة مطلبا ملحا وفقا للمتطلبات التي سيتعامل معها هولاء الأطفال في حياتهم اللاحقة (5). وهكذا قيل قديما (التعلم في الصغر كالنقش في الحجر).

 وعلى الرغم من أن المفاهيم التي يدركها أو يتعرف عليها الطفل في مرحلة الطفولة تقع ضمن المستوى المحسوس من وجهة نظر معرفية (3)، فان هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن ننقل المفاهيم المجردة تربويا في تلك المرحلة العمرية مثل الصدق أو الأمانة أو الإيثار أو النزاهة وغيرها من المفاهيم الأخرى، والتي تعد مفاهيماٌ مجردة يعتمد في اكتسابها أو التعرف عليها أو تعلمها على الخبرة أو الممارسة أو الصفات والخصائص التعريفية لها، والتي يمكن أن توضح معناها. ولكن عملية نقل تلك المفاهيم المجردة والمهمة يحتاج إلى مناهج تربوية معدة بشكل مناسب لتك المرحلة العمرية وهو ما معمول فيه في بلدنا، لكن عملية ترسيخ تلك المفاهيم تختلف عن عملية تعلمها، فالترسيخ هو انتقال اثر التعلم من الجانب النظري إلى التطبيق الحقيقي لها بوصفها عملية أو سلوكا، وهو ما يحتاج إلى برنامج تربوي معد بشكل دقيق وعلمي وله هدف محدد فضلا عن الوسائل التي يمكن استغلالها في مرحلة الطفولة بما يمكن من نقل المفاهيم من حيث المعنى النظري إلى المعنى الإجرائي أو السلوكي في تربية وتنشئة الأطفال.

 إن مرحلة الطفولة من أهم مراحل حياة الإنسان، فخلالها تبدأ عملية تشكيل شخصية الفرد وتأخذ سماتها وصفاتها إلى حد كبير، وتنقل خلالها قيم وعادات واتجاهات المجتمع وربما يصل معظمها إلى مرحلة الاستقرار النسبي مع نهايتها. لذا أخذت المجتمعات الحديثة تهتم اهتماما كبيرا بتربية الأطفال وتوفير الأجواء التربوية المناسبة لنمو شخصياتهم النمو التربوي الصحيح خلال هذه المرحلة المهمة، ولم يعد هذا الاهتمام محصورا على الأسرة وإنما تعداها إلى مؤسسات أخرى مختلفة من أهمها المؤسسة التربوية الرسمية.

 يعود هذا الاهتمام إلى عدة أسباب تتعلق بخصائص هذه المرحلة والتي من أهمها أن الطفل الإنساني يكون خلالها اعجز المخلوقات في الاعتماد على نفسه في تأدية الكثير من المهمات والأدوار التي عليه أن يقوم بها كونها من حاجات الحياة اليومية، خصوصا الحاجات البيولوجية،فيتكل على الآخرين في تحقيق تلك الحاجات لاسيما الوالدين، فلا تمكنه بنيته الجسمانية أو قدرته الحركية من المشي والأكل والدفاع عن النفس بشكل فعال، لذا فانه يحتاج إلى مدة طويلة نسبية مقارنته مع الأطفال الآخرين في المملكة الحيوانية ليتمكن من التكيف مع بيئته والاعتماد على نفسه. (4).

 وهنا يأتي دور التربية الإنسانية في نقل المبادئ التربوية إلى هولاء الأطفال الجدد، إذ إن هذه الخاصية التي تجعل من الطفل لينا ومطاوعا لتقبل أفكار ومعتقدات الأسرة والمجتمع من ايجابيات هذه المرحلة العمرية، وتمكن التربويون والقائمون على رعاية هولاء الأطفال من نقل القيم والمفاهيم التربوية الايجابية والمقبولة لهم،والعمل على ترسيخها بشكل مبكر، لجني ثمارها في المستقبل القريب، بما يعود بالنفع العام على المجتمع الكبير.

 ولكن على التربويين أن لا يغفلوا أن هناك جانب سلبي في هذه المطاوعة، فإذا لم يتمكن المجتمع بمؤسسات التربوية المختلفة من استغلالها عند بعض الأطفال، ربما يؤدي ذلك إلى تربيتهم ونشوئهم تنشئة مضادة لقيم وعادات وتربية المجتمع الكبير، فيكونون وبالا على المجتمع في المستقل القريب بدلا من أن يكونوا أعضاء نافعين وفعالين فيه، وهنا مكمن الخطورة والتي تتطلب من التربويين والمؤسسات التربوية التدخل الفعال من اجل ضمان تلقي هولاء الأطفال التربية الاجتماعية الصحيحة، واستغلال هذه المطاوعة التربوية إلى أقصى حدا ممكن لضمان فعالية هولاء الأطفال الايجابية في المجتمع الكبير، ومن ضمن هذه القيم والمفاهيم التربوية والاجتماعية: الصدق والأمانة والإيثار والتعاون والتضحية وعدم الخداع والنزاهة وغيرها كثير، فإذا تمكن المجتمع بمؤسساته التربوية من استغلال هذه المدة من المطاوعة في نقل هذه المفاهيم وترسيخها بوصفها قيما اجتماعية مرغوبة في سلوك الأطفال فقد حقق اكبر هدف تربوي تسعى جميع المجتمعات و الأمم إلى تحقيقه بكل السبل والطرائق التربوية المتاحة في أجيالها اللاحقة.

 فإذا أراد المجتمع من التربية أن تكون موضوعية وعلمية في عملية نقل القيم التربوية للأجيال القادمة، فان ذلك يتطلب مجموعة من الإجراءات النظرية التي تتضمن التخطيط للمناهج وإعداد المعلمين والوسائل التعليمية والبيئة المدرسية المناسبة، وإجراءات أخرى عملية والتي تتضمن تطبيق تلك الخطط في واقع العملية التربوية في المدارس. والملاحظ في المناهج التربوية التي تعلم للأطفال في المدارس أنها مثقلة بالقيم والأسس التربوية التي يطلب المجتمع من أفراده سلوكها في الحياة اليومية، ولكن هناك فرقا شاسعا بين النظرية التي تعلم للأطفال وبين تطبيقهم لتلك النظرية في واقع حياتهم اليومية، والسبب لا يعود إلى قصور النظرية، بل إلى أساليب التطبيق فضلا عن مؤثرات المجتمع غير التربوية والتي تنعكس سلبا على سلوك هولاء الأطفال، ومن هذه القيم التي تعلم للأطفال الصدق والإيثار والتعاون واحترام الكبير والنزاهة وغيرها كثير من القيم التربوية، لذا فإننا نجد إن المناهج الدراسية متخمة بهذه القيم ولكن تطبيق الأطفال لها في الحياة اليومية أو المجتمع يعتريه القصور، فضلا عن وجود تناقض غريب يجده الأطفال بين ما يتعلموه في المدارس ومطلوب منهم أن يتخذوه سلوكا اجتماعيا، وما موجود في المجتمع بل أحيانا في الأسرة التي ينتمي لها الطفل من مظاهر سلوكية عكس ما تعلموه.

 وبالتالي فان التربويين والمعنيين والمختصين بالمجالات التربوية المختلفة يبحثون ويسعون جاهدين إلى إعادة النظر بشكل مستمر في الوسائل والإمكانيات المتاحة والطرائق والأساليب التي يمكن إتباعها في عملية نقل تلك المفاهيم،وضمان تطبيقها في سلوك الأطفال. وأول هذه المتغيرات هي بناء مناهج دراسية حقيقية تحاكي المجتمع ويدركها الطفل في حياته اليومية، ولقد اختلف علماء التربية في نظرتهم إلى مفهوم المنهج المدرسي مما أدى إلى ظهور عدة تعريفات له، ويرجع السبب في ذلك إلى تنوع الخلفيات المعرفية والخبرات الحياتية الخاصة بالمنظرين، والتطورات الحديثة التي تحدث بشكل مستمر في ميدان التربية وعلم النفس فضلا عن مطالب المجتمع المتغيرة والمتجددة وما نتج بسبب ذلك من تغير في الفلسفة التربوية وأهدافها وطرائقها وكل ذلك ينعكس بشكل أو أخر في محتوى المنهج المدرسي (2)، لذا فان تعليم الأطفال المفاهيم الاجتماعية المرغوبة لم يعد كافيا لمتطلبات المجتمع، فمهما علمنا الأطفال مفهوم النزاهة مثلا وحفظوه عن ظهر غيب لا يعني ذلك ضمان تطبيقهم لهذا المفهوم في الحياة الاجتماعية، بل الأمر يحتاج إلى إتباع وسائل تربوية أخرى فضلا عن تعلم المفهوم، ومنها مفهوم ترسيخ التعلم (Learning Fixation) أي بالمعنى العام جعل المفهوم ثابتا في سلوك الأطفال وهو أمر ليس بالبسيط وإنما يحتاج إلى جهد استثنائي ويشترك فيه الجميع دون استثناء.

* مركز الدراسات التربوية والأبحاث النفسية

جامعة بغداد

.....................................

المصادر:

1- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار لسان العرب، بدون سنة طبع، بيروت. ص 620

2- العبيدي، محمد جاسم و الحداد، احمد محمد (2003)، المنهج المدرسي لطلبة معاهد المعلمين العليا وكليات التربية، ليبيا، دار الكتاب الوطنية. ص 7

3- عاقل، فاخر (2004)، علماء نفس اثروا في التربية وبحوث أخرى، دار شعاع للنشر والعلوم، بيروت. ص 151

4- مدنيك، س، وآخرون (1981)، التعلم، ترجمة عماد الدين إسماعيل، دار الشروق، بيروت. ص 117

5- الملحم، إسماعيل (2008)، تنشيط قدرات الطفل على التعلم، دار علاء الدين للنشر والتوزيع، دمشق. ص 6

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 30/تشرين الثاني/2008 - 1/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م