سئل البرت أنشتاين عن السياسية يوما ما فأجاب إنها أصعب من
الفيزياء، نعم لقد أصاب في قوله هذا، لا لكون السياسة تحتاج الى
الذكاء والعبقرية، بل لأنها تتطلب فهم الناس غير المتجانسين في
تفكيرهم وسلوكهم, لذا عرفها البعض بــ( فن المُمكن).
ومن خلال هذه المعادلة يمكن للباحث والمحلل السياسي دراسة
الظواهر السياسية لدى الشعوب والغوص في العقل السياسي لها ليتسنى
له فهم الدوافع والأسباب التي تقف وراء الفعل السياسي لدى بعض
السياسيين. وبما أننا نتحدث عن العراق بأعتباره الدائرة الأكثر
قربا ً وإتصالا ً بنا وذات تأثير مباشر على مفرادت حياتنا اليومية.
فالباحث في الشأن العراقي يقف على ظواهر عقلية سياسية جديرة بالبحث
والدراسة.
فمنذ نشأة العقل السياسي العراقي وعبر مراحل تطوره التاريخي
أفرز نمطين من الفكر السياسي هما فكر السلطة وفكر الدولة أو يمكن
تسيمتهما بعقلية السلطة وعقلية الدولة, وأعني هنا بالسلطة القوة
وهي ((الممارسة لأساليب الإكراه المادية بشكلها المطلق))، أما
السلطة في تعريفها الحقيقي فهي ممارسة للقوة بطريقة شرعية. ولذلك
فان المشكلة التي تواجه السياسيين تكمن في كيفية تحويل القوة إلى
سلطة؟ فالأخيرة توجد عندما يعترف المحكومون بحق الحكام إصدار
الأوامر والقرارات. ولقد تسلط طغيان عقلية السلطة بمفهومها الأول
على اختها منذ البداية وعلى الدوام الى يومنا هذا. مما أثر سلبا
على عملية البناء والتطور رغم ما يمتلك العراق من رصيد حضاري
وأمكانات تؤهله أن يكون بين البلدان الأكثر تطورا ً ورقيا ً.
إلا أن مفهوم عقلية السلطة ( القوة) التي تعني العضلات
والعنتريات الفارغة وهو المفهوم الراسخ في اللاشعور منذ حقب زمنية
طويلة لدى بعض السياسيين العراقيين, ويعني أن الأقوياء وحدهم
يحصلون على السلطة، ويديرون الدول، ويشعلون الحروب، ويتحكمون في
المال.
فمن هنا افترقت العقليتين في مسيرهما فعقلية السلطة هي عقلية
هدم لأعتمادها على المنفعة الذاتية الضيقة ولكن عقلية الدولة هي
عقلية بناء ونكران للذات على حساب المصلحة، فالسياسيون الذين
يحملون عقلية السلطة لا يفقهون من السياسة إلا مظاهر التخويف
والارعاب فهم إرهابيون مشرعنون يتاجرون بدماء الشعوب من خلال
الشعارات الجوفاء والضحك على ذقون الابرياء ولعلهم لا يعلمون ذلك
أو أنهم أعتبروا السياسة هي فن التخويف والتسلط وليس علما ً قائما
يدرًّس، وهذا له خلفيات مترسخة في عقولهم الباطنة نتيجة الممارسات
السلطوية التي مورست بحقهم, أو نتيجة لنظرية ( القفز – أو ما يسمى
بالعراقي الكفازة) بتسلم المناصب السياسية فهؤلاء ونتيجة لهذه
العقلية يعتبرون كل من لا يوافقهم الرأي هو خائن للوطن ويجب التخلص
منه بكل الوسائل، بمعنى أن عقلية السلطة هي عقلية الإقصاء والتهميش
والتي تفضي الى خلق الدكتاتوريات لأنها عقلية فردية متخلفة تعتمد
على نظرية المؤامرة.
بينما عقلية الدولة هي عقلية الاستيعاب والتعددية لأنها تؤمن
بأن التعدد مصدر قوة وثراء للوطن والتي من خلالها يمكن استغلال
الجهود في عملية بناء وتطوير الوطن والذي هو (الإنسان والأرض)
ولعلنا في الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية كدنا أن نتنفس
الصعداء وحلمنا بالتخلص من عقلية السلطة لما عانينا جراء وجودها في
حياتنا اليومية،وجمح تفكير البعض الى سيطرت عقلية الدولة وأن يصبح
العراق بفترة وجيزة على غرار دبي مثلا ً ولكن الذي بدا هو العكس
والذي كان مدعاة لخيبة الأمل وهو رسوخ عقلية السلطة في أرواح أكثر
الساسة الجدد والذين أصبحوا بضربة حظ مسؤولين, فهم لا يعلمون من
السياسة إلا المنافع الشخصية وقيمة الراتب الشهري والمشاريع
الاقتصادية, والمتاجرة بالوطنية ودماء الابرياء وعذاباتهم وغدا هذا
المشهد أكثر وضوحا ً في جلسات قراءة الاتفاقية الأمنية الأخيرة
فكانت خير شاهد ودليل على عقلية السلطة لدى جمع من النواب فقد بدت
المزايدات والمزادات العلنية والسرية وبأبخس الأثمان وأظهرت عدم
الشعور بالمسؤولية الوطنية وسمعنا عزفا ً نشازاً وضربا ً على
الطاولات كأبناء المدارس الابتدائية لا يصلح إلا للآذان المتسخة
بعقلية العضلات المفتولة نم ذلك عن عدم معرفة بالصول فيج السياسي.
ففريق يعمل نكاية بالحكومة ويتخذ دور الكورال في العزف النشاز
ويتاجر بالمواقف من أجل الحصــــول على مكاسب سياسية، والفريق
الآخر الذين كانوا يطالبون الدولة ليل نهار بجدولة الانسحاب وجلاء
القوات الاجنبية المحتلة عن العراق غدوا اليوم وكأنهم يطالبون بأحد
أمرين إما تجديد التفويض للقوات الامريكية المحتلة أو اللجوء الى
الأمم المتحدة،والاثنين تعني شرعنة الاحتلال وبقاءه. أو أنهم
يريدون خروج الأمريكان ليعيدوا عقلية السلطة من خلال الاحتكام الى
الفوضى والاقوى في الافتراس أو بالاحرى عقلية السرقة والنهب والسلب
دون رقيب لينطبق قول الشاعر عليهم ( فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
) ويصير ( حاميها حراميها) والايام السابقة قد أثبتت ذلك فأين هو
التوافق الوطني واين هي الجبهة الداخلية الموحدة لنُخرج القوات
المحتلة وعندها لا نحتاج الى إتفاقية أصلا ً. والكل يعلم أن لا حل
وهذا هو أهون الحلول واقل الشرور والكل معترف بأن هذه الاتفاقية
ليست مثالية وأن العراقيون لا يرغبون بها, ولا تكافؤ بين الطرفيين
الموقعين إلا أنها أفضل الاسوء. والكل على يقين أن هذه الاتفاقية
ستوقع رغم كل الضجيج والمعارضة وسنرى الاربعاء القادم وأن الاربعاء
لناظره لقريب، نعم من حق الساسة أن يرفضون ويناوئن الحكومة ولكن
ليس لهم الحق بمناوؤة العراق وليخرجوا من عقلية السلطة الى عقلية
الدولة وأن يحولوا القوة الى سلطة لتطبيق القانون، فالدول لا تبنى
بالشعارات بل بالمسؤولية والالتزام.
* كاتب وأكاديمي عراقي |