يعد مفهوم إعادة تصميم التربية ( Redesign pedagogy) من
المفاهيم الحديثة التي بدأت تأخذ حيزا كبيرا من أعمال التربويين في
زمننا الحالي، لما لها من أهمية علمية وموضوعية وحاجة ملحة نتيجة
للتغيرات والتبديلات السريعة والآنية في جميع مجالات الحياة، مما
يتطلب توفير إمكانيات وقدرات تربوية ملائمة ومناسبة تحاكي وتواكب
متطلباتها.
وعلى الرغم من إن الاتجاهات التي تنادي بتعديل أو تحسين أو
تجديد التربية ليست بالجديدة من حيث المطالبة، إذ تشير الأدلة
التاريخية المتوافرة إلى إن التربويين في مختلف بلدان المنطقة
ومنها بلدنا العراق كانوا يسعون جاهدين إلى إسماع أصواتهم المطالبة
بتلك التغييرات، ولكن لأسباب معظمها يصب في عدم توفر الإمكانية
المادية أو البشرية المناسبة لتغطية تلك المشاريع التربوية
العملاقة آنذاك، فضلا عن انشغال الأمة في متطلبات أخرى فرضها
الواقع السياسي والاجتماعي في ذلك الزمان مما جعل التوجهات نحو
التربية والعملية التربوية إسقاط واجب ليس إلا، وبالتالي فان هذه
التوجهات لابد وان تنعكس سلبياتها على الواقع التربوي العام في
البلد، وهو ما يمكن ملاحظته إذا قيمنا هذا الواقع في بلدنا في
العقود الماضية والتي يمكن ملاحظة ابرز السلبيات التربوية فيه
بالاتي:
1- تفشي ظاهرة الأمية في الأجيال الجديدة نتيجة لأسباب عديدة من
أبرزها الحالة الاقتصادية المتدهورة لكثير من العائلات نتيجة لأطول
حصار تعرض له شعب في القرن العشرين والذي امتد إلى أكثر من ثلاثة
عشرة سنة مما أدى إلى تسرب المعلمين والتلاميذ لاسيما في أعمار
صغيرة من الدوام المدرسي وانخراطهم في ميدان العمل في هذه السن
المبكرة.
2- عدم العناية بالمنشئات التربوية لاسيما المدارس من حيث
التأثيث أو توفير الأجهزة والمعدات أو بناء مدارس جديدة ضمن
مواصفات تربوية على اقل تقدير مقبولة تربويا وعلميا.
3- جمود في المناهج الدراسية وتغلب فلسفة الحزب ( حزب البعث
العربي الاشتراكي ) على إعداد المناهج وتوجيه الأجيال توجه قومي
سيء لا يصب في مصلحة الوطن، وجعل هذا التوجه متقدما على التوجه
الوطني، وربما أفضل مثال على هذا الأثر السلبي غياب الحس الوطني
لدى بعض الشباب في الوقت الحاضر.
4- عسكرة التربية وانتشار التربية العسكرية التي تحث على العنف
وشرعية القتل وتمجد بالإعمال القتالية وتعدها من مقومات الرجولة
ومتطلباتها، وكان من أكثر سيئاتها ما كان يعمل به أثناء تحية العلم
العراقي من إطلاق للعيارات النارية أمام أنظار الأطفال لاسيما
الأعمار الصغيرة، مما أدى إلى نقل صورة سلبية تثير إلى أن السلاح
وحملة وإطلاق النار جزء من الحياة اليومية. من ابرز سلبياته تدريب
الطلبة والتلاميذ من الجنسين على السلاح والذي يعد احد أسباب عسكرة
المجتمع العراقي والتي نعيش أثارها السلبية حتى الآن على شكل عنف
مسلح.
5- تسييس التربية إلى مستوى قل نظيره حتى في الدول الشمولية أو
الاشتراكية أو المتخلفة، وللأسف هذا الإعداد التربوي لازلنا إلى
الآن نجني ثماره السلبية لان التربويين والطلبة تعودوا أن يكونوا
جزء من النظام السياسي وليس النظام التربوي.
6- غياب تام لكل التقنيات التربوية من أجهزة ومختبرات ووسائل
إيضاح وخرائط ونشاطات علمية لا صفية في العملية التربوية، أذا
استثنينا الوسائل التقنية القديمة التي أكل الدهر وشرب عليها ومنذ
عقود في الدول المتقدمة.
7- سيطرة التربية التقليدية على إعداد المعلمين وطرائق التدريس
إلى المستوى الرديء والذي يعود إلى العقود الأولى من القرن الماضي.
إن كل فقرة من هذه الفقرات تعد تخلفا وانحطاطا في التربية
تحتاج إلى إعادة تصميم وتحديث بما يصب في خدمة العملية التربوية
وإلا فان هذا المستوى من التربية لا يعد أجيال متسلحة بالعلم
المناسب والصحيح الذي يمكننا من التنبؤ بان مخرجات التربية يمكن
لها أن تساهم مساهمة فعالة في بناء الوطن ورفع مستواه في جميع
المجالات الحياتية بما يصب في خدمة الهدف العام الذي تسعى العملية
التربوية إلى تحقيقه.
فإذا أرادت التربية أن ترتقي بالأجيال الجديدة تربويا فان
عليها التغلب على هذه العقبات التربوية، وإعادة تصميم التربية كي
تواكب الدول المتقدمة أو المتحضرة أو الساعية إلى الدخول في حظيرة
الدول الصناعية أو الحديثة على اقل تقدير، وكي نصل إلى هذا المستوى
من إعادة التصميم التربوي الذي أصبح نظرية وحركة تربوية في البلدان
المتقدمة والصناعية والمتحضرة فان علينا أن نتغلب على الإعاقات
والسلبيات التربوية الموجود في واقعنا التربوي، والتي تتطلب
ميزانية تربوية مناسبة وتضافر جهود الوزارات المعنية بالعملية
التربوية و بالأخص وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي
والوزارات الأخرى ذات العلاقة، واهم من كل هذا وذاك وجود الرغبة
السياسية والاجتماعية لحدوث هذا التغيير، وهي الأساس في كل عمل
وليس العمل التربوي فحسب.وببساطة دون تعقيد فلسفي فان الأمر ربما
يتطلب الأتي:
1- حث الباحثين والمختصين في التربية وعلم النفس على إجراء
البحوث الميدانية والنظرية عن محتويات العملية التربوية والأخذ
بتوصياتها بشكل جدي، وليس وضعها على الرفوف كما هو الحال عليه الآن
للأسف في مؤسساتنا العلمية، مع الأخذ في الحسبان الميزانيات
المالية المناسبة لهذه البحوث والدراسات فضلا عن الدعم المعنوي
الفعال والمناسب للباحثين.
2- توفير ميزانية تربوية مناسبة مقارنة بميزانية التسليح
العسكري والدفاع، والتي عادة ما تستهلك الجل الأعظم من ميزانية
الدولة كما معمول فيه في معظم دول الشرق الأوسط ومنها العراق.
3- إعادة تصميم المناهج وتغلب الطابع الموضوعي وإعادة كتابة
التاريخ والأحداث التاريخية بشكل واقعي وموضوعي بعيدا عن المبالغة
مجتنبين إلى ابعد حد ممكن ( العنتريات و الشعاريات وكان أبي )
مضفين عليها الطابع الواقعي في وقتها، والتأكيد على الجوانب
التربوية والعراق أولا، وبالتالي يتطلب الأمر تكوين لجان مختصة
بعيدا عن السياسة والسياسيين في كل موضوع من الموضوعات ولاسيما في
المراحل الابتدائية حيث تتلقى الأجيال الجديدة المبادئ التربوية في
أولا خطواتهم في الحياة العملية.
4- بناء مدارس في كل مكان من العراق بأسلوب علمي وضمن المقاييس
الإنشائية المناسبة لبنايات المدارس وتأثيثها تأثيث مناسب لمدرسة
وليس لأي دائرة من دوائر الدولة.
5- إعادة نظرية وإجراءات إعداد المعلمين بشكل جديد يناسب
التغيرات والتبدلات الكبيرة في العلوم العلمية والإنسانية،
والتدقيق في نوعية الاختيار وشروط التأهيل لمهنة التعليم، وعدم
التأكيد على الكم بل النوع وهو للأسف غير معمول فيه الآن في إعداد
العلمين، وإنشاء كليات تربية ومعاهد معلمين معدة فعلا لإعداد
المعلمين والمدرسين في كل الجوانب، فضلا عن توفير المناهج الدراسية
الجديدة والحديثة لهولاء المعلمين والمدرسين، والتأكيد على نظرية
التعليم والتدريب والتطوير المستمر لهم.
6- توفير تقنيات تربوية مختلفة وبمواصفات حديثة تتضمن أجهزة
حاسوب وأجهزة مختبريه مختلفة وحديثة ووسائل عرض معلومات أو رسوم أو
مخططات.. الخ حديثة، وإعداد ملاك متخصص وعلى درجة كبيرة من المهنية
والتخصصية للعمل في المختبرات والورش التعليمية والتربوية.
7- الاهتمام بالإرشاد التربوي في المدارس بشكل فعال وليس كما هو
عليه الحال الآن، وفتح مراكز إرشاد وتوجيه تربوي يقدم الخدمات
للطلبة والتدريسيين والملاك التربوي على السواء،على أن يكون العمل
ضمن المواصفات العالمية والمرموقة، ويكون إعداد المرشدين العاملين
في هذه المراكز إعدادا عاليا وتخصصيا.
إن تلك المعالجات يمكن أن تحل كثير من المشكلات التربوية
الموجودة الآن على الساحة التربوية، وان أي تحسن أو عمل على هذه
المعالجات حتى لو ضمن المتاح أو الممكن لابد أن ينعكس إيجابا على
العملية التربوية، وفي ذات الوقت فان تضافر الجهود والمطالبات تعد
الركيزة الأولى والأساسية للوصول إلى فكرة إعادة تصميم التربية
ذاتها، وان التوجيه والترويج الإعلامي لهذه الفكرة مهم هو الأخر في
التثقيف لهذا الموضوع ووضع الجهات صاحبة القرار أمام أهميته، وهو
غاية وهدف تربوي يتطلب من جميع العاملين في العملية التربوية ومن
جميع التخصصات العمل الجاد والحثيث الذي لا يكل للوصول إلى الغاية
السامية وهو البدء بتلك الإستراتيجية الكبرى من اجل تحقيق الهدف
العام الذي يسعى الجميع نحوه وهو رؤية عراق متقدم وحضاري في أعلى
وأسمى صوره، عزيز بشعبه المتحضر، وكي يكون لنا اسما ورفعة وسط
العالم المتقدم والصناعي، وهو ليس بالحلم إنما بعد البصر، إذا كانت
النيات تسعى لتحقيقه.
* جامعة بغداد
مركز الدراسات التربوية والأبحاث النفسية |