من بداهة القول ان نتوقع فوائد لا تحصى للتعليم حين نستقصي دوره
في ارتقاء الانسان وتطوره، وسنتفق جميعا على ان ما وصلت إليه
الانسانية من رقي وسمو ما هو إلاّ جهد تعليمي متنوع أنتجه الانسان
منذ نشأته حتى الآن، ولعل الدور الأهم الذي تعهد به التعليم من بين
كل الأنشطة الانسانية، انه شذب ولا يزال نزعة الشر والتوحش
المتأصلة في النفس البشرية وقفز بها الى درجات رقي متتابعة.
فلقد نشأ الانسان وبدأ رحلته مع الارض والكون بنفس متذبذبة
تكتظ بغرائز متناقضة تصارع بعضها البعض لتصل الى عصارة من الافكار
والافعال تمسك بمقود الانسان وهو يغذُّ خطاه في سبل الحياة الوعرة،
وبسبب الاخطار التي أحاطت بالانسان وتنوعها حيث اخطار الطبيعة
والمخلوقات التي قاسمته الارض وخطر المجهول الذي ظل محيقا به منذ
نشأته، بسبب هذا وذاك تصاعدت عنده نزعة الخوف من الآخر ورافقته
نزعة متصاعدة للشر هي سلاحه في الحفاظ على كيانه الفردي والجمعي
حين كان التعليم ضامرا، ومع تطور أدوات (التهذيب والتشذيب) الكثيرة
التي ابتكرها الانسان ليقارع بها نزعة الشر في دواخله.
ومع تطور هذه الادوات كان للتعليم قصب السبق والقدح المعلّى في
عملية تهذيب النفس وترويضها ثم التحليق بها الى مصاف النفوس
الخلاّقة التي تعطي أكثر مما تأخذ وتتحمل الأذى من دون ان يصدر
منها أي نوع من الأذى، فالكل (ونقصد هنا غالبية الأمم الحية
المفكرة) تعمل وتجِدُّ من أجل أن تتسيّد النفس المعطاء الرفيعة
المنتجة مشهد الحراك الانساني برمته وبطبيعة الحال لن يتحقق هذا
الهدف إلاّ ضمن شروط صعبة المنال ومنها التعليم الحقيقي الناجح
الذي يقف وراءه جهد انساني غاية في الجدية والاخلاص والمثابرة
ليبدأ مشواره مع الغرس الأول (حيث الطفولة هي الأساس) ثم يتواصل
الى الكبير ثم الأكبر.
ذلك اننا نتفق بغض النظر عن اختلاف المرجعيات المعرفية
والاخلاقية والدينية وغيرها على خطورة النفس البشرية وتركيبتها
المتناقضة الأمر الذي يتطلب جهدا (أبدياً) لمراقبتها وتحصينها
بوسائل تعليمية متجددة تنبع من واقع الانسان الأصغر (بيته ومدينته
....ألخ) ومن محيطه الأكبر (العالم الواسع) الذي أخذ يتداخل
ويتشابك لتصبح الأرض بفضائها محيطا متقاربا ومفروضا على الانسان
شاء أم أبى.
وبهذا سنتفق على أن التعليم هو الوسيلة او الوسائل الناجعة التي
تسمو بالانسان وتحد من سطوة الشر التي تسكن أعماقه ولكن كيف يتحقق
هدف التعليم ؟! وما هي الشروط التي تساعد الانسان في الاستفادة
القصوى من عملية التعليم؟.
ثمة من يرى جانبين في هذا الصدد، الأول مادي والأخر موضوعي بحت،
وهذان الجانبان هما الركيزتان الرئيستان اللتان يستند إليهما
التعليم لكي يصل الى أهدافه ومن دونهما كل الجهود ستذهب هباء، فلو
توفر الجانب المادي وعزَّ علينا الجانب الموضوعي أو تردّى فستغدو
مسارات التعليم شكلية خالية من المعنى ولو انعكس الامر وخسرنا
الجانب المادي فعملية التعليم ستكون كمن يسير نحو ضالته على ساق
واحدة، إذن ثمة تكامل بين المادي والموضوعي ينبغي أن يتوفر في
العملية التعليمية طالما كانت قائمة او متحركة، وهنا نتساءل هل
توفر هذان الجانبان في مسارات التعليم في العراق على سبيل المثال
؟؟ وعندما نحدد العراق مختبرا لهذا التساءل فإننا نستند في ذلك الى
قرب التجربة وتوفر حالة الاحتكاك المباشر مع المحيط.
إن المتابع لحركة التعليم في العراق سيلمس خللا في الجانبين
المادي والموضوعي وسنحاول تلخيص هذا الخلل برؤية لاتبغي إحراج
السياسيين او غيرهم، انما هي وقائع وتأشيرات نتمنى من خلالها
معالجة الاخطاء او تقليلها قدر المستطاع، ففي الجانب المادي حصلت
ولا زالت تحصل نواقص مريعة تخص مستلزمات التعليم المادية ومنها على
سبيل المثال (أمكنة الدراسة) كالمدارس على اختلاف مراحلها والمعاهد
والكليات والجامعات التي تقل كثيرا عما هو مطلوب لاستيعاب الطلبة
بمراحلهم المتعددة ناهيك عن طبيعة تصاميم هذه المرافق التعليمية
وصلاحيتها كأماكن دراسية لمختلف الفئات العمرية سيما الاطفال وهم
في أول المشوار التعليمي، كذلك ما يخص متطلبات ومستلزمات التعليم
كالمختبرات بأنواعها ووسائل الايضاح والحواسيب وما شابه ذلك، واذا
تحدثنا عن العوز الذي يرافق التلاميذ في مسيرتهم الدراسية فإننا
سنؤشر خللا لايستهان به سيما اننا من البلدان الغنية بثرواتها (الضائعة).
ولو تحدثنا عن الجانب الموضوعي فإننا سنقرّ بغياب المناهج
التعليمية السليمة أو المتأرجحة بين السلبي والايجابي ويشمل هذا
العلوم الانسانية بفروعها وانواعها ناهيك عن التوظيف القسري لبعض
المناهج التعليمية كي تقع في خانة الأدلجة المقيتة ذات الاهداف
المتطرفة التي تخدم هذا الحزب السياسي او ذاك او هذا النظام
السياسي او ذاك كما حدث ويحدث لدى الأنظمة العربية التي تحصر
التعليم ومساراته في مدارها كي يصب في روافدها ومصالحها، وهكذا
علينا الاعتراف بمواطئ الخلل في عملية التعليم وتعثرها ومن باب
الاسهام بتحمل المسؤولية الأخلاقية نقترح هنا بعض الخطوات
الاجرائية لعلها تسهم في دفع عجلة التعليم الى أمام إذا ما تنبَّهَ
لها من يهمه أمر التعليم والمتعلمين:
أولا: الجانب المادي
أ- تفعيل دور الوزارات المعنية لرصد النقص الحاصل في المنشآت
والمختبرات ووسائل الإيضاح لجميع المراحل الدراسية والعمل الجاد
على توفيرها.
ب- مساعدة التلاميذ من ذوي الدخل المحدود بتخصيص مبالغ شهرية
او اسبوعية تحفزهم على مواصلة مسيرتهم الدراسية من دون تلكؤ او
تسرّب قطعي.
ت- تحفيز الكادر التعليمي بجميع مراحله من خلال استخدام اسلوب
المكافآت ناهيك عن تخصيص المرتّب اللائق لهم.
ث- التدخل الرسمي في تذليل مصاعب السكن والنقل وما شابه.
ج- تشجيع القطاع الخاص للدخول في العملية التعليمية بقوة من
خلال تسهيل الاجراءات الرسمية والمالية وما يترتب عليها من معوقات
قد تبعد هذا القطاع عن دوره المهم بصدد التعليم.
ح- استثمار العلاقات الثنائية مع الجامعات والمؤسسات التدرسية
العالمي بما يحقق كسبا ماديا لمؤسساتنا التعليمية.
ثانيا: الجانب الموضوعي:
أ- حتمية الفصل بين التعليم ومناهجه وبين الايدلوجيا.
ب- إعادة النظر بالمناهج ذات المنحى المتطرف أو الهابط من خلال
تأليف لجان خبراء متخصصة في هذا الجانب ويمكن الاستفادة بخبرات
خارجية متطورة في هذا المجال.
ت- الاهتمام بطبع المناهج وتحسين تصاميمها بما يقربها من ميول
الطلاب على اختلاف مراحلهم.
ث- تفعيل نظام الطالب الأذكى سيما في المراحل التدريسية
الأولية لما يشكل للطلبة من دافع جيد لمواصلة تعليمهم.
ج- العمل بعدالة ومساواة بنظام البعثات الدراسية الى الجامعات
والمؤسسات التعليمية الاجنبية التي تتقدمنا بأشواط في مجالات
التعليم شكلا وجوهرا.
ح- الافادة من طرق التدريس والتعليم التي تنتهجها المؤسسات
التعليمية المتطورة عربيا وعالميا. |