متى ينصف الكرد الفيليين في العراق الجديد ؟

رياض جاسم محمد فيلي

سقط النظام الدكتاتوري المُباد في 9/4/2003، وأول من فرح بهذا التغيير هم الكرد الفيليين نتيجةَ ما لحق بهم من ظُلم تعسفي متُراكم على يد حكومة البعث وما قبلها منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام / 1921، وتجّسد بإسقاط الجنسية العراقية عن أكثر من نصف مليون فيلي، وإعتبارهم أجانب خونة وعملاء وطابور خامس وما شابه دون مسوغ قانوني سليم، ومصاردة ممتلكاتهم العقارية وأموالهم المُنقولة ومقتنياتهم الخاصة، وإتلاف وثائقهم الثبوتية الرسمية، وإبعادهم إلى خارج الوطن دون أية أمتاع شخصية كالملبس والمأكل... تائهيين بين السماء والطارق وبين حقول الإلغام والسير لمسافات طويلة، ومات خلالها الجائع والمريض والمرأة الحامل والمُسِن والطفل الرضيع بالمئات والآلاف، علاوةً على إحتجاز فلذات أكبادهم وتغييبهم في السجون الرهيبة وهم أكثر من سبعة عشر ألف شاب مغيب، وإسكان المُهجّرين قسراً في معسكرات اللاجئين العراقيين في إيران، وبظل أوضاع مأساوية وظروف قاسية تحملوا خلالها فصل الشتاء القارص وقلة الغذاء والدواء وتجاهل المجتمع الدولي وشحة الإغاثة الإنسانية وإنعدام الخدمات الضرورية، مما أدى ذلك إلى موت الكثير منهم بسبب الفاقة والجوع والحرمان والمرض وسوء المعاملة ولم يجدوا من يدفنهم.

 وأضطر قسم آخر إلى مغادرة إيران للبحث عن فرصة حياة أفضل في دول أوربا الغربية وأمريكا وتشتتوا تشتياً في بقاع الأرض المعمورة، ومضى على هذه الفاجعة الآليمة أكثر من ربع قرن من الزمان... فماذا تحقق بعد كل هذه السنوات المريرة ؟

 فأول ما حصل هو منح العائدين من المُهجّرين. البطاقة الخضراء وهي (وثيقة مؤقتة) وكأنهم أجانب وليسوا عراقيين، وعندما بدأت المناقشات حول تشريع قانون جديد للجنسية (رغم كونه لم يكن بالمستوى المطلوب)... فقد رفض رئيس سلطة الإئتلاف المؤقتة " المُنحلة " (بول بريمر / الحاكم المدني الأمريكي) الأمر معبراً إياه من صلاحية الحكومات العراقية اللاحقة المنتخبة ديمقراطياً !، وقام مجلس الحكم الإنتقالي وتشكليته الوزارية (المستبعد منهما الكرد الفيليين) بإصدار القرارين المرقمين (111) و (117) لسنة 2003 بشأن إستعادة الجنسية العراقية لمن إسقطت عنه تعسفاً منذ عام / 1958، وتحت رقابة القضاء على المنازعات المتعلقة بالجنسية، ولكنه بقى مجرد حبر على ورق، ولم تلتزم دوائر الدولة بتنفيذه مثل بقية قرارات مجلس الحكم التي ركنت على الرفوف يأكلها !

 الغبار والتراب، نتيجة لكون الأخير ذا صفة إستشارية لا أكثر، وعلى الرغم من مبادرته بتشكيل وزارة المُهجّرين والمُهاجرين بموافقة سلطة الإئتلاف المؤقتة، إلا أنها لم تستوعب جرائم التطهير العرقي التي حلت بالشريحة الفيلية المنكوبة، وبالتالي لم تتمكن من تخفيف حجم كارثتهم الكبيرة، كذلك الشيء نفسه بالنسبة لهيئة حل نزاعات المكلية العقارية التي شُكلت بموجب اللائحة التنظيمية رقم (8) لسنة 2004، ثم أعقبتها اللائحة التنظيمية رقم (12) لسنة 2004، وأخيراً القانون رقم (2) لسنة 2006 الصادر عن الجمعية الوطنية من دون إجماع مجلس الرئاسة وهذه مخالفة دستورية، فكثرة هذه التشريعات دليل واضح على عجز الهيئة المذكورة عن إنجاز المهام المناطة بها وتقاعسها غير مبرر، إضافةً إلى عدم إنصاف من صودرت ممتلكاته نظراً لمطالبته بدفع قيمة المستحدثات والإضافات على عقاراته، وكأنه لم يُهجّر قسراً بالقرار رقم (666) لسنة 1980 الصادر من مجلس قيادة الثورة " المنحل " {أعلى سلطة تشريعية في الدولة آنذاك}، مع تجاهلها حق أجر المثل وحق الإنتفاع طيلة سنوات التهجير والتعويض عنها بشكل منصف، علاوة على بطء الإجراءات وسياقها الروتيني التي إنعكست سلباً بعدم إسترجاع العقارات المُصادرة من قِبل أصحابها الشرعيين.

وعندما صدر قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الإنتقالية لعام / 2004، وأنحل كل من مجلس الحكم وسلطة الإئتلاف المؤقتة، تتجدد الأمل في غدٍ مُشرق نتيجةً لما نص عليه أحكام القانون الإنتقالي وبالأخص المادتين (6) و (11) منه، ولكن سرعان ما تلبدت فيها الغيوم عندما تأسست الحكومة المؤقتة والمجلس الوطني المؤقت ولم يكن الصوت الفيلي حاضراً فيها، وعندما رأت تلك الحكومة ضرورة معالجة أوضاع المُهجّرين زادت من الطين بلة بإصدارها كتاباً رسمياً مخالف للدستور بعنوان [حالات التبعية الإيرانية]، مما رسخ مفهوم خاطىء موروث عن النظام المُباد، وهو بأن الكرد الفيليين أجانب، كما لم يحل مظلوميتهم جذرياً، إذ أعادهم إلى المركز القانوني ما قبل التهجير أي بصفة أجنبي مكتسب للتجنس وليس عراقياً أصيلاً وإستناداً إلى القانون رقم (43) لسنة 1963 الجائر، وتبعه إجراء لاحق برفع شارات الترقين والتجميد وكأن المشكلة متوقفة عند هذا الأمر، وعلى أساسه تم منح نموذج شهادة الجنسية للمُهجرين، ومدون فيها العبارات الآتية: - { الجنسية السابقة، تبعية الأم السابقة، تبعية الأب السابقة}، مع العلم بأن هذا النموذج من الإصدار قد ألغي في عام / 1980 وفي زمن الطاغية المقبور ذاته !!، ومسلسل الظلم وحلقاته مستمرة لا تتوقف دون إنقطاع، فأجريت إنتخابات الجمعية الوطنية وتشكلت على أثرها الحكومة الإنتقالية التي شهدت لأول مرة دخول وزير كردي فيلي إليها مع أكثر من عشرة نواب في الجمعية المذكوة إلا أن هذا العدد تراجع في الإنتخابات اللاحقة، ولكن معظمهم كانوا محسوبين على الجهات السياسية والحزبية التي رشحتهم، فكانت المسألة ذات غايات دعائية بحتة بهدف كسب أكبر عدد من الأصوات، ومن باب تنويع القوائم الإنتخابية صورياً من أطياف الشعب العراقي فقط، وذلك بفعل الثقل السياسي الإقتصادي والإجتماعي والثقافي للكرد الفيليين في مناطق كثافتهم السكانية المُتمركزة في المجتمع البغدادي ووسط وجنوب العراق، وعند بدء المناقشات المثيرة حول مشروع الدستور الدائم، جرى إقصاء الفيليين بشكل متعمد من المادة (125) من الدستور والتي توضح مكونات الشعب العراقي، بل أن الطامة الكبرى عندما أرادت لجنة إعداد الدستور إدراج الفيليين كقومية فارسية لقلعهم نهايئاً من عراقيتهم الأصيلة التي لا غبار عليها، وبالتالي تثبيث مشروعية الجرائم التي إرتكبها النظام المقبور بحقهم !!...

وعليه تم الإكتفاء بوضعهم في ديباجة الدستور والتي لا تُعد جزءً منه (نظراً لعدم وجود نص دستوري صريح يشير إلى ذلك !) وهي مجرد ذر الرماد في العيون، كما أخرجت المادة (18 / البند أولاً) من محتواها الحقيقي، حيث عُدلت قبل ثمانِ وأربعين ساعة من الإستفتاء على الدستور في 15/10/2005، نتيجةً لترضية أطراف سياسية متعددة على حساب مظلومية الفيليين بإضافة عبارة { وينظم ذلك بقانون } إلى النص الأصلي وهو { يعتبر عراقياً من ولد لأب عراقي أو أم عراقية } ليتحول من حق دستوري إلى حق أدنى مرتبةً، وعليه أقر قانون الجنسية العراقية رقم (26) لسنة 2006 بتأريخ 28/9/2005 [ ولم ينشر في الجريدة الرسمية إلا بعد ستة أشهر من إقراره ! ] في زحمة إنشغال الجمعية الوطنية بوضع الدستور المرتقب، ومن غير دراسته بشكل متأنٍ، ولم يشرع من أجل الكرد الفيليين بل لضمان مشاركة المُترشحين لعضوية مجلس النواب في إنتخاباته القادمة نظراً لكونهم يحملون أكثر من جنسية، إذ أن بقاء قانون الجنسية السابق نافذاً يعني حرمانهم من خوض الإنتخابات لمنعه إزدواج الجنسية وتعددها ! ثم جاءت تعليمات وزارة الداخلية أكثر تشدداً بشروطها المجحفة على الفيليين، وهي (إثبات ولادة أحد والديه، وجده، وأصل إنتمائه العشائري، ورعويته السابقة، وصورة القيد لعام / 1957، مع إفادة ثلاثة شهود ؟؟)، وهذا مخالف لأحكام المادة (3/أ) من قانون الجنسية الجديد، وينطبق الحال نفسه على إجراءات مؤسستي الشهداء والسجناء السياسيين عندما أعتبرت كل منهما الفيلي بصفة (مُحتجز) وليس (محكوم) بشأن إعادة الحقوق للمُتضررين تعسفياً من النظام المُباد، وفوق ذلك وضعت هذه الشريحة ضمن الأقليات في إنتخابات مجالس المحافظات بهدف تحجيم كثافتها السكانية والتقليل من شأنها وما قدمته من تضحيات جسام يشهدها لها تأريخ العراق المعاصر، والطعن بها لا يتوقف فعندما جرت مناقشة مشروع قانون الخدمة والتقاعد العسكري إعترض العديد من النواب البرلمانيين حول شرط أن يكون عراقي الجنسية لمن يصبح ضابطاً في الجيش، وإقترحوا صيغة مغايرة وهي أن يكون عراقياً بالولادة ومن أبويين عراقيين بالولادة، والمُقصود بالأمر هو إستبعاد الكرد الفيليين ومنعهم من تولي المناصب العسكرية والأمنية مثلما حصل تماماً في عهود الحكومات العراقية السابقة.

هذا كله غيض من فيض، وبالتالي لن يتحقق شيء إلا بمشاركة الكرد الفيليين وكفاءاتهم ونخبهم المُثقفة خاصةً في عملية إتخاذ القرار السياسي بعيداً عن الإقصاء والتهميش... فمتى يتم إنصافهم في العراق الجديد، واليوم مضى خمس سنوات على سقوط الصنم في 9/4/2003 ؟!

* باحث مُتخصص بشؤون الكرد الفيليين

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 5/تشرين الثاني/2008 - 5/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م