أطفال العراق وألعابهم

د. اسعد الامارة

اعتادت الشعوب في مختلف حضارات العالم ان توثق طفولة ابناءها وعاداتهم الشعبية على شكل قيم واعراف وحكايات تنسج للاجيال التي تليها بموروث حتى كادت هذه العملية على وفق التربية الحديثة ان تعد وراثة تشبه الوراثة بالجينات في العلوم البحتة فالتربية كما يعرفها من درس اصول التربية وفلسفتها بأنها: عملية تحويل الطفل او الشخص البدائي الى انسان متمدن.

 وتعرف ايضا بأنها عملية نقل المعارف والخبرات والمهارات والعادات من فرد الى فرد ومن جيل الى جيل مع تحسينها وتوسيعها. وهي ايضا عملية اكتشاف مواهب الافراد وقابلياتهم لغرض تنميتها والاستفادة منها لصالح الفرد والمجتمع، اذن انها النمو السلوكي نحو الاحسن وتعديل العادات السلوكية البدائية المتوحشة التي سوف تنحو بالفرد نحو العنف او السلوك الحيواني او نقض مسلمات التكوين البشري لذا ما نشاهده من العاب الاطفال انما هو دراسة وملاحظة عيانية للواقع الذي يعيش فيه الطفل وما يعبر عن مكنوناته او مكنونات مجتمعه وهذا ما تدلنا عليه التربية الاسرية ثم التنشئة الاجتماعية.

عرف علماء النفس والاجتماع التنشئة الاجتماعية بانها عملية تشكيل السلوك الاجتماعي للفرد وبانها عملية تحويل الكائن البيولوجي الى كائن اجتماعي وبأنها العملية التي تتعلق بتعلم افراد المجتمع من الجيل الجديد كيف يسلكون في المواقف الاجتماعية المختلفة على اساس ما يتوقعه منهم المجتمع الذي ينشأون فيه. ان الطفل على وفق هذه التعريفات الواردة اعلاه انه مشروع قابل للانسنة او قابل للتدهور القيمي لان العابه التي اذا ما تعلقت بالبندقية اوالمسدس فأنها تشكل شخصيته منذ الصغر ثم في البلوغ.

ان طفل العراق اليوم يتخيل صورة الارهابي وهو بطل لا تستطيع حتى امريكا مواجهته وهو ينتقل من شارع الى شارع ومن حي الى حي ومن مدينة الى مدينة ومن بلد الى بلد متخفي وبدون جواز سفر او بدون اية وثيقة فهو اذن جدير بالاحترام وهو يحاكي سلوكه بامتلاكه السلاح وهو نموذج جيد للتعلم على وفق رأي عالم النفس الشهير( باندورا) فألعاب طفل العراق اليوم هي السلاح بشكله المزخرف وصورة البطل الذي يقاوم الشرطة ويسرق المؤسسات ويقتل المارة ليس عبر الصور المنقولة في الفضائيات فحسب بل في الواقع المعاش.

ان طفل العراق اليوم صورة بائسة تنطبق عليها المقولة النفسية يلقي الحاضر بظلاله على المستقبل ويقذف ما يتعلمه الاطفال اليوم بقواه على اشباح مظلمة في المستقبل فلا يعود شبحاً يحكم ويسيطر وانما يفرض بالقوة ما يتعلمه اليوم من الواقع وهو تأكيد للحياة الحقة واستمرارها ولكن بصورة مخيفة لما نراه من تعلم سلوكي مثير عند اطفال العراق.

ان هذا الطفل الذي ينشا تحت اصوات القنابل وازيز المدافع ومطاردات السلطة للارهابيين وكثرة الاعلانات المتلفزة في الفضائيات عن السلوك العدواني والعنف ضد الابرياء ودعوة الدولة الى حماية الافراد انفسهم بأنفسهم من غارات الميليشيات الدينية والمذهبية المتنوعة بكل اتجاهاتها ونحن نعلم ان الطفل لا يملك من التكوينات الرمزية التي يستطيع بها ان يفسر ما يجري حوله من نزاعات لا طاقة له بها حتى على مستوى المتخيل ويقول عالم النفس الفرنسي (لاكان) ان الدافع لدى الطفل يوجه اولاً نحو الشكل (Form ) لا نحو المحتوى مما يفترض معه أن الموضوع إنما هو شئ طارئ او عابر ولكن يشكل اشباع لكثرة الملاحظة فالاشباع لا يرتبط فحسب بقرب الموضوع وإنما يرتبط بالخبرة الخاصة التي اكتسبها والتوحد ( التقمص) بها – ويعرف التوحد "التقمص" بانه عملية نفسية لا شعورية تتمثل الشخصية بوساطتها أحد مظاهر او خصائص صفات شخص آخر.

 ولذا يتعرف الطفل في العراق على ذاته من خلال مشاهداته اليومية في التبجح بحمل السلاح واستخدامه ان امكن حتى مع شقيقه او شقيقته لانه متاح في اي لحظة وثقافة القتل والعنف هي السائدة لذا تقول ( نيفين زيور) وهكذا فالطفل يحول المجال السلبي لقوى الرغبة إلى مستوى تصبح فيه موضوعاً في حد ذاته.

ان الانحراف عن النمو وخصوصا لدى اطفال العراق يأخذ صورة الاستعجال في تخطي مواجهة مخاطر انجاز الحصول على الثقة والأمان في اية مرحلة من مراحل النمو الطبيعية للطفل، اي عدم ضمان في الحاضر مع عدم التأكيد بضمان المستقبل لانه لم يجد الاشباع الكافي في الحاضر في هذه المرحلة وسيكون في المستقبل اكثر ميلا الى المبالغة في اي شيء يطرحه او يتحدث عنه حتى في حياته اليومية مع زوجته او مع ابناءه او بين معارفه، هذه المبالغة تخفي وراءها الاحتياج الى الثقة وتصبح هي ذاتها بديلا عن الحصول على الثقة والآمان، فالطفل الذي يبالغ في حديثة، انه يعاني من عدم الثقة والامان، والكبير( البالغ) ايضا عندما يبالغ في حديثه فهو لم يشعر بالثقة والآمان في مختلف مراحل حياته في الطفولة وعندما يستلم سلطة ما او منصب حكومي او اداري او وظيفي يستخدم السلطة او المبالغة في تأكيد الذات او التمركز حول النفس بقبول المديح او الاطراء لارضاء النفس التي لم ترى ذلك في الطفولة.

 ويقول (د. محمد شعلان) بدلا من ان الفرد البالغ يطلب الحب والتسامح والعفوية الفطرية في التعامل والقبول مع الاخرين، يلجأ الى القوة مثلا للحصول على ذلك بينما ينكر حاجته للتواد او للمحبة حتى انه يبدو قاسيا او عنيفا ولكنه في الحقيقة يمارس رد فعل لاحتياجه العميق للثقة والطمأنينة، اما اذا زاد لديه السلوك القاسي والعنيف اكثر من اللزوم فأنه يتسم بالاضطراب ويتسم بالصفات الشكاكة وهي سمات الشخصية البرانوية ( الشخصية المريضة عقليا) ومنها يعتقد ان العالم لا يثق به ولكنه لا يتفاهم مع الاخرين بل يأخذ ما يريد بالقوة وبكل عنف، هذا السلوك هو احد نماذج سيطرة العاب الاطفال وتوحدهم معها في مرحلة الطفولة ويتحول معظم الاطفال الى الشك والريبة والخوف من الآخر بفعل ما انتجته تربية الطفولة بكل ما حملت وتنشئة الحرب بكل ما افرزت وهي اولى التعقيدات النفسية لدى اطفال العراق خصوصا ولجميع الاطفال عامة اذا ما احسنت التربية وانتظمت التنشئة حتى تصبح بإزاء موقف صراع فعلي ثقيل الوطأة على النمو النفسي اللاحق.

هذه الاعراض وغيرها تنم عن الاحباط وخيبة الامل لدى الاباء وتنقل للاطفال في طفولتهم حتى تعود بشكل سلوك عدواني قوي وميول انتقامية نحو الجميع ونحو الواقع الذي حرمه من الطفولة البريئة ابان عقود مرت من طفولة الاب الى طفولة الابن حتى تتشيد موضوعات العالم لديه حول هذا الظل المزيف الذي يسمم الذات في الطفولة وفي البلوغ.

* استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

elemara_32@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 27/تشرين الأول/2008 - 27/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م