الحداثة هي موقف للروح أمام مشكلة
المعرفة،إنها موقف للروح أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل
للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع. أما التحديث فهو مجرد إدخال
للتقنية والمخترعات الحديثة إلى الساحة العربية أو الإسلامية
محمد أركون
ماهو بديهي أن الكثير من العرب يؤثرون التقليد والإتباع
والمحاكاة على التجديد والابتكار والتحديث وقد أدى بهم هذا الأسلوب
في الحياة إلى التحول إلى كائنات استهلاكية ترضى بالسهل والبسيط
والسطحي وترفض مشقة البحث وعناء التفكير وصعوبة الاختبار وبالتالي
هبطوا من عقول فاعلة تنتج العلم وتشرع للكلي الفكري للعالم بأسره
إلى مجرد عقول مستقيلة وأجساد مهيكلة وفق الطراز الغربي للحداثة.
لكن ماهو إشكالي وما يمثل إحراجا بالغ التعقيد هو مطالبتهم
اليوم بالابتكار والعود على بدء وإحداث قطيعة واستئناف الحضارة لأن
العصرنة ومواكبة التقدم والريادة في الاطلاع على ما حدث في العلوم
والعمران عند الدول المتقدمة هي من تحصيل حاصل عنهم لأنهم يركبون
أفضل السيارات ويستهلكون أفخر العطور ويقيمون في أحدث القصور
ويجسدون أسلوب الحياة الغربي على أحسن وجه.
بيد أن ذلك ليس سوى المظهر وحقيقة الواقع بعيدة عن زعم الادعاء
لأن المطلوب لتحقيق تجربة الاختراع ليس تكاثر البضائع الجديدة في
الأسواق ولا استيراد الأفكار والآليات التي تؤدي إلى إنتاج هذه
البضائع بل التعويل على الذات وإنتاج هذه الأفكار والآليات
بالقدرات الذاتية.
تشير هذه الوضعية المتأزمة إلى غياب كلى للاختراع والخلق وحضور
كثيف لنزعات التقليد واجترار عادات الماضي وقيمه وإهمال كلى لقيم
الحاضر وتغييب لماهو أصيل من روح العصر.
إذا كان الاختراع غير موجود في ساحات الفعل المعرفي والتقني عند
العرب فماذا نفعل لإحيائه؟
هل نركز على المنظومة التربوية وعلى مخابر البحث في الجامعات من
أحل صناعة الذكاء أم نوكل مهمة المحافظة على الخبرات والأدمغة
العربية من داء الهجرة والالتحاق بالغرب إلى المؤسسات الاقتصادية
العربية ورجال الأعمال العرب؟
إذا أما أردنا إطلاق حركة الإبداع في ذهن الإنسان وتفجير طاقة
الإبداع في مخيلته وبدء مسيرة الاختراع وشحذ عزيمة الباحث وتنقية
وجدانه فانه من الضروري خلق الشروط المعرفية والتحولات التاريخية
والقيام بالإصلاحات الهيكلية وربط جسور التواصل بين العلم والمجتمع
وبين الثقافة والسياسة والاقتصاد.
لقد تعودنا أن ننسب الخلق لله ونبقي لأنفسنا ملكة الصنع ونضع
خاصية الخلق في مرتبة أعلى من ميزة الصنع ونزعم أن ادعاء الإنسان
القدرة على الخلق هو شرك وجحود ونكران لقدرة الله المطلقة قد يؤدي
عدم اعتراف بمحدودية الإرادة الإنسانية أمام الإرادة الإلهية التي
تستطيع أن تقول لكل شيء كن فيكون.
ربما تكون هذه الفكرة الاعتقادية هي أساس عزوفنا عن الخلق وسبب
توقفنا عن الإبداع والاختراع واكتفائهم بالصنع والتركيب والبناء
والتدبير والتنظيم طالما أننا مازلنا نؤمن أن الكون هو أفضل
العوالم الممكنة وأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان وأن نهاية الإقدام
في العلم هو الاعتبار من الموجودات والكشف عن الحقائق المخبوءة بين
فواصل الوجود وإماطة اللثام عن القوانين التي تتحكم في ظواهر
الطبيعة. بينما تبدو حقيقة الكون مليئة بالألغاز والعالم مازال لم
يعرف بعد وهو يسير نحو اللانهائي ويعرف جدلية الانفطار والانبساط
ويتردد بين التقلص والتمدد وأما عن الحقيقة العلمية فهي مشروع
يبنيه العقل وقيمة جزئية ونسبية أكثر من كونها معطى جاهز وقيمة
مطلقة وثابتة والقانون هو افتراض مؤقت واحتمال إحصائي تظل له نجاعة
تفسيرية ما لم تفنده تجربة جديدة وما لم يظهر اختراع جديد يحيله
إلى التقاعد وينتج قانونا أكثر نجاعة ومردودية.
ان الدخول إلى الطريق الايجابي الاثباتي المؤدي إلى الخلق
والموصل إلى إنتاج العلم والتقنية يمر حتما عبر التطهر من الأفكار
الخاطئة والممارسات الشائعة ويستوجب إعطاء الفرصة للطبقة الشابة
وكف الطبقة المسيطرة عن ممارسة الأستذة وتكريس القصور والوصاية على
مقدرات الأفراد وتشجيع المواهب والعمل على صقلها والسماح للناس
باستعمال الحر والمنهجي والخاص لعقولهم.
انه من الضروري أن نتوجه نحو الاختراع وأن نتهيأ لاستقدام
الماضي من أجل فهمه والإقبال على الحاضر من أجل نقده واستشراف
المستقبل عن طريق المساهمة في صنعه وبناء صروحه ومقوماته، كما أنه
من اللائق التذكير بأن فائدة الاختراق كبيرة ومنافعه على المخترع
والمجتمع الذي يحيا فيه والإنسانية التي ينتمي إليها عظيمة وجليلة
ولذلك تجدد الثقافات وتحيا الأمم وتتباهى الدول عن طريق الاختراعات
وبوجود مخترعين كبار في جميع المجالات المعرفية والدينية والتقنية
والفنية والاقتصادية والسياسية وحتى الرياضية.
يعرف الاختراع عند الإنسان العامي على أنه الانتقال من المجهول
إلى المعلوم وذلك بالإتيان بشيء مخالف للسائد ولم يخطر ببال أحد من
قبل واكتشاف شيء جديد أما عند المختصين فهو تأليف جديد لأفكار
ووسائل بغية تحقيق هدف معين، وينطبق هذا المفهوم على الأدب والفن
ولكنه يخص العلم والتقنية ويرتكز على اكتشاف قانون غير معرف يحكم
الظواهر ويسمح بإيجاد وسيلة محددة وآلة أكثر تطورا تتميز بالدقة
والصرامة والموضوعية في رصد الظواهر وتتمكن من معالجة المشاكل
والعراقيل التي تعذر على الأدوات المستعملة في السابق تخطيها.
ان الاختراع قد بدأ شأنا خاصا وتجربة شخصية يكد في طلبه ذلك
المنعزل العاكف على العلم والمنكب على الدرس ولكنه ما فتئ أن أصبح
من اختصاص عمل المجموعات وخلايا البحث وفرق العمل وثمرة تعدد
الاختصاصات وتضافر جهود علماء ومفكرين من حقول متنوعة.
ان السبل المؤدية إلى تفعيل آليات الاختراع عندنا هي المراهنة
على الإنسان لأن الرأسمال البشري هو الشكل الأقصى للرأسمال والقيمة
التي ليس بعدها قيمة مضافة ولأن العقل البشري هو المعين الذي لا
ينضب من إمكانيات انجاز الاختراعات، ثم ينبغي القيام بقراءة علمية
معاصرة للمجال الإيماني من أجل تخليصه من الشوائب وتهيئة الأرضية
التي تستنبت قيم الحرية والعمل والتنوير والاجتهاد فيه،
يجب القيام في مرحلة ثالثة بإصلاح حقيقي للجامعة وتنقية أجوائها
من الفساد والوصولية والمحسوبية ومن الفوقية والبيروقراطية التي
تعفن الأوساط الجامعية وتجعل الشهادات الممنوحة فاقدة الأهلية على
الصعيد العالمي، زد على ذلك يمكن إيجاد آليات تضبط علاقة تعادلية
بين الباحثين والمؤطرين تصون مبدأ الحريات الأكاديمية بوصفه المحفز
الحقيقي للاختراعات ومسطح المحايثة لكل اجتهاد،
يلزم من جهة رابعة أن تقوم المؤسسات الاقتصادية بدورها الطبيعي
في النهوض بالثقافة العربية بالتشجيع على طلب العلم ومساعدة أصحاب
المشاريع وتمكين الباحثين الشبان من استخدام التقنيات الحديثة
والتمتع بالوسائل المادية الكافية من أجل الترويج لأفكارهم
وتصوراتهم المغايرة لما هو موجود.
صفوة القول أن استصلاح الأرض وتعمير الكون يرتبط جوهريا بتهذيب
العقول وتنمية القدرات وإطلاق الملكات من أجل الخلق والابتكار وأن
هذا المقصد ليس من الممتنعات بالنسبة للعرب بل من الممكنات شريطة
التشجع في ذلك والمغامرة والمراهنة الحدية على العقول الحرة
والأيادي الشابة النظيفة المتسلحة بالقيم الأصيلة.
يعبر أركون عن روح التحديث ويدعو إلى ضرورة امتلاك العقل
العربي الاسلامي منطق الاختراع العلمي بقوله: في لحظة انبثاقه
التاريخي فقد كان الإسلام يمثل لحظة حداثة دون شك أي لحظة تغيير
وتحريك لعجلة التاريخ، هذا شيء أساسي جدا لكي نفهم جوهر
الحداثة،إنها تعني الحركة والانفجار والانطلاق . فمتى نرى
المخترعون العرب يعودون من ديار المهجر إلى ديار الوطن من أجل أن
يساعدوا الباحثين المبتدئين و يساهموا في إطلاق حركية اختراعية
شاملة؟
*
كاتب فلسفي |