سببت أزمة سوق الائتمان المالي التي بدأت في الولايات المتحدة،
واتسعت لتشمل آثارها أسواق العالم الأخرى، موجة من الانهيار شبه
الكامل في الأسواق العالمية، وهددت بتساقط شبه جماعي لشركات
الائتمان العالمية والتي تعول على مبدأ الفائدة للقروض المعطاة
كمصدر رئيسي لنموها وديمومتها.
هذه الأزمة المالية المفاجئة انعكست بقوية على الجوانب
الاقتصادية والمالية الأخرى كأسواق العملات، والنفط، والسلع
التجارية، حيث فقدت الأسهم الأمريكية الكثير من قيمتها، وهوت اسهم
المجموعة الأمريكية الدولية (ايه اي جي) للتامين مع عمليات بيع
هائلة لاسهمها تحسبا لان تكون الضحية التالية في مسلسل الانهيار.
الدول الصناعية بدورها تعهدت بالعمل انفرادا أو جماعيا على دعم
استقرار الاقتصاد ودفعه نحو النمو، وتجاوز الأزمة بتقليل نسب
الفائدة أو ضخ أموال واسهم إضافية للشركات المتضررة.
فهل هذه الأزمة هي أزمة عابرة؟
أم أزمة مستحكمة تكشف عن مدى العجز الكبير الذي أصاب السياسيات
المالية الدولية؟
البعض يعتبر الحالة موجة عابرة كسابقاتها، الا أن الحسابات
الاستراتيجية والتنبؤات العلمية تشير إلى ظاهرة اكثر خطورة وفداحة
مستقبلا أو آنيا. فقد أشار الإمام الشيرازي الراحل (رضوان الله
عليه) في كتابه فقه العولمة الطبعة الأولى 2002 إلى التنبؤ
بمستقبل فاشل للنظام الرأسمالي، حيث يقول:
(...أن مستقبل الاقتصاد الأميركي غير مضمون، وذلك لأنه مازال
يواجه مشاكل قاسية وصعبة قد تهدد نموه وازدهاره في المستقبل.......وهناك
مشاكل أخرى عديدة تنذر سلامة الاقتصاد الأميركي بالخطر، ومن أهمها
: تصادم النظام الرأسمالي الموجود في الغرب مع الفطرة السليمة،
والعقلانية والإنسانية، لأنها تسخّر الإنسان في خدمتها، بينما
النظام الاقتصادي الإسلامي يسخّر كل شيء لخدمة الإنسان مع الحفاظ
على الملكية الفردية... ولعل ظواهر الأحداث تدل على أن الغرب أعم
من أمريكا وأوروبا، في حال تغير سريع، ربما لا تمرّ عشر سنوات إلا
ويحصل التغيير....).
وعلى ما سبق يبدو أن نتائج السوق الموحدة التي أرادها البعض أن
تكون وفقا لما يشتهي، سارت بها رياح الأسواق عكس المطلب تماما،
فعندما طبل البعض لقضية ومفهوم العولمة على أساس التشارك في إنشاء
مساحة أوسع من العمل والتماسك وتخفيف الهزات المالية العالمية على
تلك المنظومة المتماسكة، إلا أن الدلائل أثبتت بان القضية عكسية
تماما في التأثير، فحينما هوى بنك "ليمان براذرز" الأمريكي سحب
معه العديد من البنوك العالمية بصورة أو بأخرى إلى خسارة كبيرة،
ولم تمنع القاعدة العريضة التي تمثلها تلك المجموعات التجارية أي
حالة تدهور مالي أو اقتصادي، بل، شملت الكل تقريبا بسبب الجزء.
المشكلة الأساسية المؤشرة تنحصر في كون المفاتيح الرئيسية
للأسواق العالمية بيد مجموعة محدودة من المستثمرين والرأسماليين
المتنفذين بقوة في التداول المصرفي والاقتصادي.
ففي إحصائيات عام 1996 تبين بأن 95 ألف مستثمر في العالم يملكون
أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصاد العالمي، أي
يملكون حوالي 13.1 ترليون دولار!، وتصور مدى قوة تأثير هؤلاء على
الرتب الوسطى والضعيفة للمستثمرين وإمكانية تحكم الأولى بالاثنين
الآخرين.
كما أن للحكومات المتعاقبة في البلدان الغربية بالخصوص، يد مهمة
في تحويل الأسواق إلى حالة أشبه بالاحتكارية على مجموعة دون أخرى،
لكون الاقتصاد -وكما يعلم الأغلب- يتحكم بالحالة السياسية لتلك
البلدان بشكل رئيسي يبتدأ من الحملات الانتخابية إلى القرارات
الرئيسية والمهمة في إدارة السياسية، لذا فمن الطبيعي أن تكون
(حيتان) الأسواق العالمية لها اليد الطولى في رسم وتحريك السياسة
الاقتصادية بشكل عالمي.
أين الحل؟
يرى البعض من أساتذة وخبراء الاقتصاد بان الحلول تكون ضمن سلسلة
معالجات متعددة تتركز في عدة جوانب إصلاحية في الاقتصاد أو
التعاملات الإدارية والمصرفية، وهذا بالتأكيد سيكون له حظ وافر في
تجاوز الأزمات وعبورها أو حتى تحقيق أرباح جيدة بعد الهزات العنيفة
التي يشهدها أي اقتصاد...
لكن الحل الحقيقي للمشكلة يجب أن يكون لأصل الموضوع وليس
لنتائجه، فبقاء الحالة الرأسمالية مسيطرة بلا منافس على الأسواق
العالمية واحتكارها لصالح فئات معينة دون التوزيع العادل للعمل
والتنافس النزيه سيولد أزمات مستقبلية، قد تكون إحداها القشة التي
تقصم الظهر، وقد لا يتوقف الأمر عند ذاك فقط، بل، قد يطيح بحضارات
ودول عظمى ويعيدها إلى نقطة الصفر، وهذا ما نتوقعه فيما لو سار
الاقتصاد العالمي على المنهج الرأسمالي دون المعالجة الجذرية
لسياسة الربا والاحتكار.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |