تسونامي أسواق المال بأمريكا وإعادة تشكيل وول ستريت

اعداد: صباح جاسم

 

شبكة النبأ: شبّهَ كثيرون ما حدث يوم 15 سبتمبر2008 بأنه "تسونامي" اجتاح أسواق المال العالمية، فقد انخفض مؤشر داو جونز بحوالي 500 نقطة، وهو أدنى مستوى له منذ سبع سنوات (أحداث الحادي عشر من سبتمبر)، وانهار بنك ليمان براذر رابع أكبر بنوك الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية والتي بلغت القيمة الإجمالية لديونه 613 مليار دولار حتى 31 مايو مقارنة بأصوله التي تبلغ 639 مليار دولار، وأعلن إفلاسه.

وقبل ذلك تم بيع مؤسسة "ميريل لينش" بـ 50 مليار دولار لـ "بنك أمريكا"، وهو ما وصفته صحيفة فايننشال تايمز بأنه واحد من أكبر حركات إعادة التشكيل التي شهدتها وول ستريت في تاريخها.

وعن تلك الأزمة يقول وزير الخزانة الأمريكي هنري بولسون: "إنَّ أمريكا تمر بفترة صعبة في الأسواق المالية الآن بينما تعمل على تلافي بعض الوفرة المتراكمة في الماضي، ويضيف آلان جرينسبان الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قائلاً "الأزمة المالية الراهنة هي الأخطر منذ 50 عامًا وعلى الأرجح منذ قرن. لا شك أني لم أواجه أمرًا كهذا من قبل". بمثل هذه التعليقات وصف المسئولون الأمريكيون الأزمة الحادة التي هزت الأسواق المالية، ومن ثم العالمية، بمنتهى القوة. بحسب موقع تقرير واشنطن.

عدم التدخل. لماذا؟

قرار الحكومة الأمريكية بعدم التدخل لإنقاذ ليمان برذرز كان مثيرًا للجدل، بالنظر إلى تدخل الحكومة في مرات سابقة لإنقاذ مؤسسات مالية، فعلى سبيل المثال سارع الاحتياطي الفيدرالي في بداية العام الجاري 2008 بإنقاذ بنك بير ستيرنز، الذي كان معرضًا للانهيار، بواسطة قرض طارئ، متعللاً بأن التدخل كان من أجل عدم حدوث انهيار كامل في الاقتصاد المالي.

وتكمن المفارقة أنه عندما وجد بنك ليمان برذرز نفسه في الموقف ذاته، لم تهب وزارة الخزانة الأمريكية للمساعدة، وهو ما أدى إلى إعلان بنك ليمان ـ بعد إبداء عدد من المشترين عدم رغبتهم في التدخل لإنقاذ البنك ـ إفلاسه في 15 سبتمبر 2008، ما اعتبره بعضهم أكبر حادثة إفلاس وقعت في التاريخ

وذهب لي هدسون تسليك، في مقال له بموقع مجلس العلاقات الخارجية تحت عنوان Bailouts Revisited نشر في 15 سبتمبر 2008، إلى أن قرار الحكومة الأمريكية يطرح التساؤل حول سبب نفض الحكومة الأمريكية يدها من قضية بنك ليمان براذربز، مع أنها تدخلت لحماية بير سترينز.

وربما تكمن الإجابة في تقرير لصحيفة فايننشال تايمز، يوم 12 سبتمبر 2008، حيث قالت الصحيفة: إنه رغم كون بنك بير ستيرنز أصغر من بنك ليمان براذرز، فإن انهياره كان يشكل خطرًا أكبر من انهيار ليمان بالنسبة للنظام المالي الأمريكي. وتضيف الصحيفة سببًا آخر وهو أنه منذ التدخل لحماية بير ستيرنز، فإنه تم إقرار عديد من الإصلاحات التي غيرت من طريقة عمل وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي. وخلافًا لذلك يرى هدسون أن أزمة ليمان أظهرت بوضوح ليمان حدود رغبة وزارة الخزانة الأمريكية في استخدام أموال دافعي الضرائب لحماية المؤسسات الخاصة.

غيرَ أنَّ هدسون يعتقد، في مقال آخر له تحت عنوان "الإصلاحات القادمة في وول ستريت" نشر على موقع مجلس العلاقات الخارجية يوم 17 سبتمبر 2008، أن هذه الرغبة الأمريكية في إيقاف سيل التدخلات التي بدأتها وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية، قد انتهت، أو بعبارة أخرى عندما قررت الحكومة الأمريكية قول "كفى" للتدخلات التي تقوم بها لإنقاذ المؤسسات المالية، فإن الأزمة التي تعرضت لها مجموعة التأمين الأميركية أمريكان انترناشونال جروب "إيه. آي. جي"American International Group (AIG)، التي كانت تعتبر أكبر شركة تأمين في العالم، قد أجبرت الحكومة الأمريكية على التدخل من جديد.

وبناء على الطلب الذي تقدمت به "إيه. آي. جي" إلى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي(البنك المركزي) بمنحها قرض إنقاذ مقداره 40 مليار دولار تفاديًا لخطر الإفلاس الذي تواجهه، فقد أعلن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عن حزمة من الإجراءات لإنقاذ "إيه. آي. جي"، أهمها تقديم قرضٍ بقيمة 85 مليار دولار للمجموعة مقابل سيطرته على حوالي 80 بالمئة منها.

قرار التدخل هذا قد يفسره ما قاله موريس جرينبرج، الرئيس السابق لمجموعة "إيه. آي. جي" في مقال نشر على موقع مجلس العلاقات الخارجية يوم 17 سبتمبر 2008 تحت عنوان تداعيات عالمية إذا فشل "إيه. آي. جي" Global Implications if AIG Fails ، من أن الحفاظ على المجموعة يمثل مصلحة قومية للولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعمل "إيه. آي. جي" في أكثر من 130 دولة، وبالتالي فهي تمثل أداة للسياسة الخارجية الأمريكية، فضلاً عن قيامها بتعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة والدول التي تعمل فيها.

وبالتالي فإن تعرض المجموعة للضرر يضر، من وجهة نظر موريس، بالمصلحة القومية الأمريكية، ، حيث إن "إيه. آي. جي" طبقًا له، تحمل علم الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم فإن انهيارها سيمثل انهيار لمصداقية الولايات المتحدة في العالم الخارجي، بحيث لن تتصور الدول الأخرى كيف سمحت الولايات المتحدة بحدوث ذلك.

ويضيف جرينبرج سببًا آخر وهو أن الأزمة التي تمر بها "إيه. آي. جي"، ليست مسألة قدرة على الوفاء بالتزاماتها، فالمجموعة تمتلك أصولاً تعادل قيمتها تريليون دولار، ولكن المشكلة تكمن في السيولة، فالمجموعة تحتاج إلى بعض النقود لتلبية شروط الضمان المستحقة عليها.

تأثير الأحداث على مكانة الولايات المتحدة

تطرق كل من "بن ستيل" و"سبتسيان مالابي" من مجلس العلاقات الخارجية إلى تأثير هذه الأحداث وما تحمله من دلالة على مكانة الولايات المتحدة. فيرى "مالابي" أن الأزمة الحالية تتجاوز مجرد حدوث تعثر لدى بعض المؤسسات المالية، بل تشير إلى أن الدور الأمريكي على الساحة الدولية في خطر، حيث رأى العالم الضربة القوية التي تعرض لها النموذج الأمريكي للمصرفية القائمة بذاتها (أي القائمة على فلسفة حرية السوق دون تدخل الدولة)، والهندسة المالية المبتكرة، وهو ما قد يؤدي إلى تفوق الاقتراب الأوروبي القائم على مزيد من التحكم في حركة رءوس الأموال الأكثر محافظة فيما يتعلق بالأسواق المالية.

ويضيف مالابي: " إنَّ موقع نيويورك بوصفها المكان البارز الذي يقصده صغار المستثمرين معرض للخطر، فعلى المدى الطويل قد تفقد الولايات المتحدة الأمريكية قدرتها التنافسية، إذا بدأت الصناعات المبتكرة مثل التمويل والبرمجيات في مغادرة الأراضي الأمريكية".

أما بن ستيل، مدير مجلس الاقتصاد الدولي للعلاقات الخارجية، فيرى أن الهم الأكبر لوزارة الخزانة الأمريكية، والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هو إنقاذ مصداقية الأصول المقومة بالدولار dollar-denominated assets، ومنع خروج رءوس الأموال من الولايات المتحدة الأمريكية. ويقول: "إننا بحاجة إلى القلق إزاء مستقبل بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة، لاسيما بشأن الدور الذي يقومان به في توسيع القروض التي يقدمانها والتدخلات التي يقومان بها في اللحظة الأخيرة ".

ويصف ستيل قرار الحكومة الأمريكية بعدم التدخل في قضية ليمان برذرز بأنه صائب، فقد أرسل ذلك برسالة مفادها أن النظام المالي الأمريكي مازال متماسكًا باستثناء القليل من التفاح الفاسد أي ( المؤسسات المالية التي تعلن إفلاسها). ويقول : "لقد كان قرار الخزانة والاحتياطي الفيدرالي بعدم تقديم أي نوع من الضمانات المالية لليمان برذرز وتركه يذهب (يقصد إعلانه للإفلاس) إذا كان يريد أن يكون هو القضية، صائبًا".

وتترك الأزمة الحالية، من وجهة نظر ستيل، تأثيرًا سلبيًا على قيمة للدولار، المعرضة أصلاً للتدهور، ويضيف أن المسئولين الصينيين من أكثر الأطراف حساسية لهذا الأمر، خاصة في ظل اعتماد الصين على شراء سندات الخزانة الأمريكية لإبقاء قيمة "اليوان" ثابتة بينما يرتفع الطلب على الصادرات الصينية.

ويرى ستيل أنه لهذا السبب تدخلت الحكومة الأمريكية لإنقاذ شركتي فردي ماك و فاني ماي، فعنصر جذب أذون الخزانة الأمريكية للمستثمرين الأجانب، هو أن هذه الأصول خالية من المخاطرة، حيث إن الاحتياطي الفيدرالي لديه من الأموال ما يضمن هذه الأذون، أو على الأقل لديه القدرة على طبع النقود اللازمة لتغطية هذه المسئوليات، وبالتالي فإن التفريط في هذه الاستثمارات قد يدمر سمعة الأصول المقومة بالدولار dollar-denominated assets ويعيق تدفق رأس المال إلى الولايات المتحدة من الخارج، وبالتالي لم يكن أمام الحكومة من خيار إلا التدخل في حالة فردي وفاني.

أوباما الرابح

وضعت الأزمة الحالية الاقتصاد في بؤرة اهتمام كلٍّ من باراك أوباما، مرشح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية، وجون ماكين مرشح الحزب الجمهوري، ولكن مالابي يرى أنه من غير المنطقي مطالبة المرشحين بوضع حلول محددة للأزمة، في الشهرين المتبقيين من عمر الحملة الانتخابية.

ويبقى التساؤل هل ستؤثر الأزمة الحالية في سوق المال الأمريكي على السباق نحو البيت الأبيض؟ بعبارة أخرى هل سيحمل الأمريكيون مسئولية ما حدث لإدارة الرئيس بوش، ومن ثم لمرشح حزبه ماكين بوصفه متبنيًّا السياسات ذاتها؟

على الرغم من أن كلاًّ من مالابي وستيل يريان أنه من غير العدالة تحميل إدارة بوش المسئولية عن هذا الأمر، حيث إن جذور الأزمة أعمق من أي قرارات تنظيمية اتخذها جورج بوش خلال السنوات الثماني الماضية، فإنهما لم يستبعدا حدوث ذلك. ويرى مالابي أن الأزمة الحالية سَتُؤْثِرُ السباق نحو الرئاسة، ويكمن الخطر من وجهة نظره على الحزب الحاكم ـ أي الجمهوري ـ خاصة مع بقائه في السلطة لمدة ثماني سنوات.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/تشرين الأول/2008 - 11/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م