التكتلات السياسية في الكويت تتحدث عبر بياناتها الصحافية
وخطاباتها الدعائية باستمرار عن ضرورة الإصلاح السياسي والاقتصادي
والتعليمي وغيرها من الجوانب، لكن متابعة تصريحات تلك الجماعات،
إضافة لأدائها يوضح مدى وحجم الفشل الذي وقعت فيه، وأبرزها ترددها
في إرضاء الشارع حينا، وإرضاء السلطة أحيانا أخرى، والتناقض بين
ثقافتها التي كانت تغذي بها قواعدها، وبين ثقافة الأمر الواقع التي
تنادي بها اليوم وتحث أفرادها للسير نحوها.
أضف إلى ذلك الانفصال الحاد بين تاريخها النضالي السابق وبين
واقع التحولات إلى زمن مهادنة وملاطفة السلطة دون أن تكلّف نفسها
عناء تقديم مبررات هذا النكوص والتراجع، أو هذا التقدم والنمو في
عقلهم السياسي، فهل تغيرت المرحلة؟ وما هي أهم ملامح هذا التغيير
وإرهاصاته؟ هل يتعلق الأمر بالسلطة؟ هل أصبحت الحكومة أكثر انفتاحا
وتقبلا للرأي الآخر، أو أنها انتقلت نوعيا في طبيعة برنامج إدارة
الدولة، بحيث أصبح هذا البرنامج أكثر وضوحا ورسوخا من ذي قبل؟..
أم إن الأمر يتعلق بطبيعة الأوضاع الداخلية للكتلة السياسية،
فهل اكتشفوا مثلا أن قدراتهم النضالية أصبحت هشة؟ أم إن كوادرهم
الحركية عزفت عن خط الإصلاح السياسي، وما يتطلبه من جهد ومثابرة؟
أم إن مسيرتهم السابقة بمبادئها وشعاراتها كانت خاطئة، وقرروا
تصحيح هذا الخطأ التاريخي والتكفير عن سنوات النضال والتضحيات؟
فثمة كتل سياسية تتبنى وتبشّر اليوم بثقافة مخالفة تماما
لمسيرتها السابقة، وتقدّم نفسها أمام جمهورها بصورة مناقضة لواقع
الرهانات السياسية التي تقودها مجموعة من الوسطاء من داخل التيار،
أو من خارجه، وهدفها تحقيق مصالح متبادلة تعود بالنفع على التيار
ورجاله من جهة، مقابل تقديم تنازلات للحكومة، سواء تمثلت في الدعوة
للتهدئة وعدم التصعيد، أم بالرضا عن مطالب كانت تعد أساسية بالنسبة
الى التيار قبل التفاوض مع السلطة، أم حتى بتنازلات من قبيل غض
النظر عن بعض الأخطاء والسلبيات في أداء السلطة.
ولا ضير في التحوّل السياسي، كما لا ضير من الدخول في حيز
المساومات السياسية لتحقيق مطالب واضحة، فالأمر يبقى شأنا داخليا
لكل كتلة سياسية على حدة، ويخضع لتقديراتها الذاتية لمتطلبات
المرحلة وخصوصيات الوضع السياسي القائم، خصوصا أن تكيُّف القوى
السياسية مع السياسيات العامة للدولة بهدف تحديد مضامين الصالح
العام وفق نسق أخلاقي يرفع من سقف المطالب الإصلاحية، هو أمر مشروع
في العمل السياسي، وهو من صميم ما تستهدفه الحركات السياسية في
مختلف الدول الديمقراطية، أو شبه الديمقراطية. لكن المأخذ على
الكتل السياسية المحلية أن هذا التحول.. تحولها، تنقصه شفافية
المعنيين بالقرار داخلها، وإلى الحد الذي يصرّون على احتساب حراكهم
الجديد وكأنه من صلب سلة العمل القديم، أو يزايدون على الآخرين في
ميدان المعارضة السياسية، وربما يتبنون بعض الأطروحات أو الشعارات
التي توهم القواعد الشعبية بأنهم لا يزالون في طريق النضال السياسي
القديم، وأنهم امتداد للخط السياسي أو الثقافي أو الديني الذي
كانوا فيه سابقا.
في الوقت الذي تقتضي أبسط مبادئ الشفافية كشف أوراق التغيير،
والحديث بشفافية عن القناعات الجديدة التي تكوّنت لدى قادة التيار،
وعن مبررات التحول وضروراته، فهو أجدى من جهتين، الأولى: انه يعمّق
من المسيرة الجديدة ويطور أداءها بدلا من أن تظل على تلاطمها في
أمواج اجتهادات قادتها الفردية، والتي قد تكون ضيقة ومحدودة وذاتية،
فالحوار الداخلي من شأنه أن يخلق خيارات وفرصا أفضل للجميع، وينتشل
الجماعة من الوقوع في الأخطاء التي ربما تكون تاريخية وعميقة لدرجة
يصعب عليها الخروج منها حتى ولو قررت التراجع إلى خندقها القديم.
والثانية: انه يحمي مسيرة النضال السياسي من التشويش، وهو ما
يحدث الآن بصورة مدهشة إلى درجة أن التفريق بين الجهات التي لا
تزال تُمارس النضال السياسي من الجهات التي حادت عن الطريق أصبح
أمرا شائكا، وطالما أن التوجهات الملاطفة للنظام مقتنعة بمسارها
الجديد، فعليها أن تفخر به لا أن تصرّ على ارتداء ثوب غيرها.
والمأخذ الآخر، أن تجري تلك المصالحات والمساومات والاتفاقات
خلف الكواليس، وفي ظل تغييب شبه تام للرأي العام داخل تلك
التجمعات، بحيث يفقد العمل منظومته القيمية، فالالتفاف على القواعد
يُعبّر عن حالة تضليل كبيرة يمارسها القادة بحقهم باسم مصالح
التيار، وفق قناعة خاطئة مفادها أن الذين يظهرون في واجهة العمل
السياسي لهم امتياز القوامة على العمل العام، وهم الأحق بفرض
توجهات التيار. إن الشفافية هي كاشف عن مقدار الصدق عند قادة
التيار، وعن مدى رغبتهم في قيادة التحول نحو مسار يضمن تحقيق مطالب
واضحة وضرورية، وهم بذلك لا يتأخرون عن مشاركة القواعد الرأي
والمشورة، باعتبارهم معنيين مثلهم بمسيرة الجماعة وتاريخها، كما لا
يترددون في تقديم جردة حساب لما تم تحقيقه من مكاسب عامة، والحديث
بشفافية حول مكامن الإخفاق والعجز، فمسيرة العمل السياسي بالتأكيد
ليست خالية من الأشواك، والمطالب العامة لا تستوجب السرية والكتمان
بطبيعة الحال.
أما الالتفاف على التيار وتغييبه عن المسار الجديد، فينتهي عادة
إلى إثارة الشكوك حول طبيعة وحجم المصالح التي يستهدفها قادة
التيار، والتساؤل بصوت مسموع عما إذا كانت تلك الأهداف والمصالح
شخصية أم عمومية، فثمة رأي يذهب للحديث بألم عن تضخم مصالح قادة
ورموز التيارات السياسية المحلية إلى درجة أصبحت تعلو من حيث
الأهمية على مصالح القواعد السياسية ومصالح المجتمع بصورة عامة.
* كاتب كويتي
ahmed.shehab@awan.com |