من المقطوع به أن عبادة الأصنام والخضوع لها مادية كانت أم
بشرية، وعدم إطاعة سنن السماء وشرع الله، إنما هي عبادة وطاعة
سلبية يترتب عليها آثار سلبية، ونتائجها وخيمة، والعكس صحيح، قال
تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من
السماء والأرض) الأعراف:96، فعموم الطاعة ترتب أثرا من سنخ الطاعة،
من هنا ورد عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع): "من أصغى إلى ناطق
فقد عبده، فان كان الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد الله، وان
كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان"(1).
ولا تنحصر الطاعة في التشريعات السماوية، وإنما هي ماضية في
التشريعات الأرضية أيضا، فاحترام القوانين الوضعية وتطبيق بنودها
وموادها والخضوع لمبانيها، تعتبر طاعة إيجابية، تترتب عليها سلامة
المجتمع وفق نظرة الواضعين لها، وهو ما عبر عنها الفيلسوف السويسري
جان جاك روسو (Jean Jacques Rousseau) (ت 1778م) بقوله: "إن الحرية
من دون العدالة هي تناقض حقيقي، فلا حرية بغير قوانين، ولا حرية
عندما يكون أي شخص فوق القانون .. والشعب الحر يطيع، لكنه لا يخدم،
لديه قضاة لكن ليس فيه سادة، هو لا يطيع شيئا سوى القوانين، وبفضل
قوة القوانين فانه لا يطيع البشر"(2)، ولهذا فان روسو دافع بشدة عن
رأيه بأنَّ: "دافع الشهوة المجرد هو عين العبودية في حين أن طاعة
القانون الذي نسنّه بأنفسنا هي الحرية بعينها".(3)
فالعبودية بذاتها حقيقة مجردة من الصفات كما يقول الصفار وهو
فقيه عراقي: "فذات العبودية ليست حسنة ولا سيئة وإنما هي حقيقة
مجردة من الصفات ولا تتصف بالحسن والقبح إلا إذا طرأت عليها ألوان
خارجية فتكتسب حسنها وقبحها منها، فالعبودية لله محبوبة لأنها
عبودية واقعة لا يستطيع أي مخلوق فكاكا عنها: )ولله يسجد مَن في
السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدوّ والآصال( الرعد:15، )وإن
مِن شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم( الإسراء:44، )الذي
بيده ملكوت كل شيء( يس:38،... وأما العبودية للسلطان الجائر فإنها
عبودية مبغوضة، لأنها ليست حقيقة ولأنها تضر ولا تنفع، والعبودية
للنفس كتلك مبغوضة، لأنها تكبت الإنسان وتحبسه في بركة ضيقة من
الرذائل والإنحطاط المعنوي"(4).
العبودية السلبية
والعبودية لشهوات النفس غير المحمودة عبودية سلبية، بل أنها
مندكة في السلبية، لان شهوات النفس تقود الإنسان إلى ما لا يحمد
عقباه، ولهذا اعتبر الإسلام أن جهاد النفس هو الجهاد الأعظم وفوق
جهاد العدو الخارجي، فقد ورد عن الإمام علي (ع): "إن النبي صلى
الله عليه واله وسلم بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا
الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. قيل: يا رسول الله ما
الجهاد الأكبر؟ فقال: جهاد النفس. وقال صلى الله عليه واله وسلم:
إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه"(5). ومن الواضح أن
جهاد العدو ينتهي بانتهاء المعركة حتى إذا حطت الحرب أوزارها عاد
كل جيش إلى ثغوره، لكن النفس البشرية كالهواء الذي يتنفسه الإنسان
تصاحبه ما قدّر الله له أن يعيش، فجهادها عملية دائمة ما طلع الليل
والنهار، وكما يقول العيناثي (المتوفى بعد 1088هـ): "والحازم من
الناس من سدّ ثغور الهوى، ورابط جيوش الحِجى"(6)، وقد عبر بعض
العارفين، عن النفس بقوله: "إن هذه النفس في نهاية الخساسة
والدنائة، ونهاية الجهل والغباوة وينبهك على ذلك أنها إذا همّت
بمعصية أو انبعثت لشهوة لو تشفعت إليها بالله سبحانه ثم برسوله
وبجميع أنبيائه، ثم بكتبه والسلف الصالح من عباده، وعرضت عليها
الموت والقبر والقيامة والجنة والنار، لا تكاد تعطي القياد، ولا
تترك الشهوة، ثم إن منحتها رغيفا سكنت وذلّت ولانت بعد الصعوبة
والجماح وتركت الشهوة".(7)
من هنا كان جهاد النفس أعظم الجهاد، وقد ورد عن النبي الأكرم
محمد (ص) قوله: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله"(8)، وقال ابن
الجوزي (ت 597هـ) في تفسير قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حقّ جهاده)
الحج:78، أن هناك: "ثلاثة أقوال: احدها انه: (فعل جميع الطاعات)،
هذا قول الأكثرين، والثاني انه: (جهاد الكفار)، قاله الضحاك (ت
102هـ)، والثالث انه: (جهاد النفس والهوى)، قاله عبد الله بن
المبارك (ت 181هـ)"(9)، وجاء في وصية الإمام علي لنجله الإمام
الحسن (ع): "من ترك الشهوات كان حرا"(10)، ومن وصايا الإمام علي
(ع) إلى الناس: "ألا حر يدع هذه اللُماظة - بضم اللام وتعني
الدنيا- لأهلها؟ أنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا
بها".(11)
ولقد وردت أحاديث كثيرة تعتبر السلوك المغلوط في حياة الإنسان
عبودية بمعنى الرق، وأن الإنسان قادر على الفكاك من هذا الرق إن هو
غيّر من سلوكه نحو مدارج الكمال الخلقي، فمثلا الطمع مظهر سلبي من
مظاهر السلوك البشري، ولهذا: "قيل أغبط الناس من اقتصد فقنع، ومن
قنع فك رقبته من عبودية الدنيا وذل المطامع"(12)، وقد ورد عن
الإمام علي (ع): "الحر عبد ما طمع، والعبد حر ما قنع"(13)، وعنه
(ع): "أزرى بنفسه من استشعر الطمـع"(14)، وعنه (ع): "الطمع رق مؤبد
.. والطامع في وثاق الذل:"(15)، بل إن الطمع مفتاح الذل كما في
وصايا الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، لهشام بن الحكم الشيباني
الكوفي (ت 199هـ)، فمما أوصاه: "يا هشام: إياك والطمع، وعليك
باليأس مما في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين، فان الطمع
مفتاح الذل، واختلاس العقل، واختلاف المروات، وتدنيس العرض، وبيّن
بالعلم، وعليك بالاعتصام بربك والتوكل عليه"(16).
ولعل من أهم الأمور التي يمكن استيحاؤها من هذا الحديث، أن
الاستئثار والطمع والجشع (مال أو سلطة أو جاه، وغيرها) هو نقيض
الحرية، فمن الحرية على سبيل المثال أن يستشير المرء ذوي الحِجى،
ومن الحرية أن لا يستأثر ذو سلطة بسلطته، فالطاغية على عكس ما
يصوره الإعلام إنما هو عبد للسلطة، وعلى مذبح العبودية يهتك
الحرمات، فيكون أسير الدم الذي أراقه والحرمة التي انتهكها، في
الدنيا والآخرة، وهو في الوقت نفسه أسير شهوته ونزواته.
ذاتية الحرية
فالحرية والعبودية تنسحب على جميع مناحي الحياة، ولكن هذا لا
ينافي فضيلة الدفاع عن الكرامة والعرض والمال، فالموت دون هذه
الحرمات شهادة، وليس من الطمع أو الحرص من يدافع عن حقه وماله،
فالطمع هو النظر إلى ما في أيدي الناس، فمن الحرية أن يدافع
الإنسان عن ما يقع في حوزة ملكه الشرعي، ومن العبودية التنازل عنها،
إلا إذا اُجبر الإنسان على ذلك في وضع لا حول له فيه ولا قوة، فقد
ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) قوله: "إن الحر حر على جميع
أحواله، وان نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تسكره،
وان أُسر وقُهر واُستبدل باليسر عسرا، كما كان يوسف الصدّيق الأمين
(صلوات الله عليه) لم يضرر حريته إن اُستعبد وقُهر ولم تضرره ظلمة
الجب ووحشته وما ناله، أن مَنّ الله عليه فجعل الجبار العاتي له
عبدا بعد إذ كان (له) مالكا، فأرسله ورحم به أمّة، وكذلك الصبر
يعقب خيرا، فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر توجروا"(17).
فالإنعتاق عن ذلك الطمع والشهوات والرغبات الحيوانية هي عبودية
وحرية في آن واحد، عبودية لله وحرية لنفس الإنسان، ويرى المجلسي (ت
1111هـ) وجود علاقة مباشرة للحرية مع عبودية الشهوات، فالحرية عنده:
"تحتمل المعنى الظاهر فإنها كمال في الدنيا وضدها غالبا يكون مانعا
عن تحصيل الكمالات الأخروية، ويحتمل أن يكون المراد بها الإنعتاق
عن عبودية الشهوات النفسانية والانطلاق عن اسر الوساوس"(18).
والحرية في واقع الحال اصل الفضائل وسنامها، يقول مصباح يزدي
وهو فقيه إيراني: "كلمة الحرية تستعمل في الأخلاق بمعان متعددة،
ولكن متقاربة، في كتبنا الأخلاقية الفلسفية، عند الكلام على خصائص
النفس الإنسانية وملكاتها، وينظر إلى الحرية على أنها أصل الفضائل"(19)،
ولهذا يعتبر قلم نسوي مثل قلم القاصة السورية ابتسام شاكوش: "إن
إطلاق النساء من القيود الأخلاقية، ليس من الحرية أو التحرر بشيء،
بل هو عبودية للجسد وشهوات الجسد، وهو أمر يثير القرف والاشمئزاز"(20).
ويعتبر الصدر (ت 1980م) إن الإنعتاق عن عبودية الشهوات أصل
الحرية، فليس من الحرية أن يُقال للإنسان: "هذا الطريق قد أخليناه
لك فسر بسلام، وإنما يصبح الإنسان حرا حقيقة حين يستطيع أن يتحكم
في طريقه ويحتفظ لإنسانيته بالرأي في تحديد الطريق السليم ورسم
معالمه واتجاهاته، وهذا يتوقف على تحرير الإنسان قبل كل شيء من
عبودية الشهوات التي تعتلج في نفسه"(21).
ومثل هذا يقول به الشيخ القرضاوي: "فقد ولدت الناس أمهاتهم
أحرارا، فلا يجوز أن يُستعبدوا لأمثالهم من الخلق، ولسنا نعني
بالحرية إتباع الشهوات، وبلبلة الأفكار، وإثارة الفتن، فهذه فوضى
لا حرية، إنما نعني بحرية المواطن أو الإنسان هنا، خلاصه من كل
سيطرة تتحكم في تفكيره أو وجدانه أو حركته، سواء كانت سيطرة حاكم
مستبد، أم كاهن متسلط، أم إقطاعي ورأسمالي متجبر"(22)، وما أجمل
عبارة بقراط الحكيم الذي عاش 95 عاما وظهر سنة 96 لتاريخ بختنصر: "لأن
يكون الحر عبدا لعبيده خير له من أن يكون عبدا لشهواته"(23).
الحرية عين العبودية
فنحن أمام مفردة تتوزع معانيها على العبودية لله، والعبودية
لشهوات النفس، والعبودية للطاغوت، والعبودية لكل من أو ما يتم
الخضوع والإنقياد إليه أو طاعته حتى لو كان المطاع صنما من تمر
يؤكل عند المجاعة، أو من خشب يستعمل حطبا عند البرد القارص أو دجال
يغري الناس بقراءة الطالع والمستقبل عن بعد، عندما تجف النفوس عن
تلمس برد الحقيقة والطمأنينة!
وكما إن الحرية أصيلة في كينونة الإنسان، فان الأصل في الإنسان
العبودية، ولكن العبودية للخالق، لان: "الأصل في الإنسان الحرية في
قبال الإنسان الآخر، بجميع أقسام الحرية إذ لا وجه لتسلط إنسان على
آخر وهو مثله، كما إن الأصل في الإنسان العبودية لله سبحانه، فانه
هو الذي خلقه وكل أموره بيده، لا تصرفا فقط، بل بقاءاً أيضا حيث إن
الإنسان باق بإرادة الله تعالى، فان اقل لحظة صرف الله لطفه عن
الإنسان يلحقه بالعدم، وقد مثل الحكماء لذلك – والأمثال تضرب يقرب
من جهة ويبعد من جهة- بالصورة الذهنية، فإنها موجودة في الذهن،
مادام اللاحظ يعيرها الانتباه، فإذا صرف ذهنه عنها لم تكن شيئا"(24).
وهذا المعنى ربما اُخذ من حديث الإمام جعفر الصادق (ع) الذي جاء
فيه: "التشهد ثناء على الله، فكن عبدا له بالسر خاضعا له بالفعل
كما انك عبد له بالقول والدعوى، وصل صدق لسانك بصفاء صدق سرك فانه
خلقك عبدا وأمرك أن تعبده بقلبك ولسانك وجوارحك وان تحقق عبوديتك
له وربوبيته لك وتعلم أن نواصي الخلق بيده فليس لهم نفس ولا لحظة
إلا بقدرته ومشيته وهم عاجزون عن إتيان أقل شيء في مملكته إلا
بإذنه وإرادته، قال الله عز وجل: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان
لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عمّا يشركون) القصص:68، فكن له عبدا
شاكرا بالقول والدعوى وصل صدق لسانك بصفاء سرك فانه خلقك، فعز وجل
أن تكون إرادة ومشية لأحد إلا بسابق إرادته ومشيته، فاستعمل
العبودية في الرضا بحكمته والعبادة في أداء أوامره"(25)، فالسنّة
الإلهية كما يقول الطباطبائي (ت 1982م) في تفسير قوله تعالى في قصة
نوح بن لمك بن متوشلخ بن إدريس (ع) (5824 ق.هـ -3322 ق.هـ): (إنه
كان عبدا شكورا) الإسراء:3: "جرت على هدايتهم إلى طريق العبودية
وسبيل التوحيد وأمكنهم من الوصول إلى ذلك باختيارهم"(26).
والحرية مفهوم مرادف لمفهوم العبادة المطلقة لله سبحانه وتعالى،
ذلك إن معنى أن تكون عبدا لله هو أن تكون حرا إزاء غيره سواء كان
هذا الغير حاكما أم غيره، من هنا وقف الصحابي ربعي بن عامر التميمي
(ولي مقاطعة طخارستان وعاصمتها بلخ العام 31هـ) في مجلس قائد الفرس
رستم، في معركة القادسية العام 15هجرية، قائلا له: "الله ابتعثنا
والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن
ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"(27)،
ويذهب الميلاد وهو باحث سعودي إلى أن: "العلاقة بين العبودية لله
سبحانه وتعالى والحرية، علاقة جوهرية، فالعبودية إلى الله ترشد
الحرية وتصوبها، وتحميها بإرادة صلبة هي الخشية من الله ولا خشية
من الناس، وتطهر الإنسان من الأغلال والشهوات والأهواء كافة"(28)،
ولهذا يرى التسخيري: "إن الإسلام يعتقد إن أي خروج عن طاعة الله
يعني – أول ما يعني- القضاء على الكرامة الإنسانية والفسق عن
السبيل المعد للوصول إلى الهدف، أي يعني القضاء على الحرية
الإنسانية نفسها"(29).
قيود مشروعة
ولكن هل تعتبر المحرمات التي يحدها الإسلام على تصرفات الإنسان،
مثل حرمة البهتان والغيبة والكذب، ويعاقب عليها، هل تعتبر هذه
المحرمات قيودا على حرية الإنسان، كما يبدو من ظاهر الأمر؟ يقول
الدكتور عبد المجيد، إن هذا السؤال: "يقودنا إلى البحث عن نقيض
الحرية، وهو العبودية، لنجد أن كمال الحرية في الإسلام يبدو في أن
عبودية الإنسان لله وحده، تحرره من كافة أنواع العبودية"(30).
ومن هنا يقع الاختلاف بين النظرة الإسلامية للعبودية، ونظرة
الليبراليين، يقول باروت وهو باحث سوري، إن : "النظرية الليبرالية
تترجم مفهوم الحق الطبيعي بحق الفرد المستقل بقدر ما تترجمه
النظرية الإسلامية بعبودية الفرد لله، إن هذه العبودية هي التي
تضمن حريته، ويتلخص مفهوم الحاكمية هنا في أن الله خلق الإنسان حرا
وانه لا سيادة لأحد على أحد بل يخضع الجميع لسيادة الله العادل"(31)،
فعبادة الله والخضوع التام إلى سيادته كما يقول أبو الأعلى
المودودي (ت 1979م) هو: "صك للحرية البشرية الحقيقية"(32).
ربما كان استدلال الشيرازي (ت 1980م)، اقرب الاستدلالات إلى
الواقعية لبيان أهمية العبودية وعلاقتها بالحرية، حيث يقول: "ومن
الحقائق أن الإنسان أبدا يكون خاضعا لاثنين من هذه العبوديات
الاربع – الله، العقل، السلطان الجائر، والنفس – ولا يستطيع التحرر
من اثنين منها إلا ليرضخ لأخريين، فإما يكون الإنسان خاضعا لله
والعقل، وإما أن يستعبده السلطان الجائر والنفس، ولا يمكن أن يتحرر
من عبودية السلطان الجائر والنفس، إلا إذا رضي بعبودية الله والعقل.
ولا ريب أن عبودية الله والعقل، خير من عبودية السلطان الجائر
والنفس، بل العبودية الأولى، شرف لا يدانيه شرف، وفوق النبوة
والرسالة، كما نقرأ في الصلاة: اشهد أن محمدا عبده ورسوله، ولولا
أن العبودية لله أشرف من رسالة السماء، لما قدمت عليها، بينما تكون
العبودية للسلطان الجائر والنفس جريمة لا تدانيها جريمة، حتى جعلها
الله أول جريمة يحاسب عليها الإنسان قبل الموت، كما في قوله تعالى:
(إن َّ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا
كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها)
النساء: 97."(33)
ويخلص الشيرازي إلى النتيجة التالية: "وإذا كان الإنسان مخيرا
بين آن يختار أي نوع من هذه العبوديات الاربع، فالذي يرضى بعبودية
الله والعقل يكون حرا بأكمل معاني الحرية وأنبلها، فيما يكون الذين
يجدون حريتهم في مخالفة الله والعقل، قوما مستعبدين، قد استعبدهم
سلطان جائر بأفكار مزيفة، واستعبدتهم شهواتهم، فانجرفوا في تيارها
المسعور، وهم حينما يعيبون على المؤمنين عبوديتهم لله والعقل،
يعبدون أتفه ما في الحياة من أفكار وغايات، وها هي صورتهم تظهر في
القران – بكل وضوح-: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) الفرقان: 43، فمن
يتمرد على عبودية الله تعالى، يكون قد استسلم – سلفا- لعبودية
الهوى، وما أجمل قول ابن خضرويه (أبو حامد احمد البلخي المتوفى
240هـ): في الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية"(34).
وجاء في كتاب منهاج الكرامة أن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)
اجتاز على باب دار بشر الحافي (بن الحارث المروزي المتوفى 227هـ)
فسمع منها الغناء واللهو – في أول شباب بشر وهو ببغداد – ورأى على
باب الدار جارية، فقال لها: أيتها الجارية مولاك حر أو عبد؟
فقالت: حر
فقال لها: صدقت! لو كان مولاك عبدا لعمل بمقتضى العبودية وخاف
الله تعالى.
فذهبت الجارية إلى داخل الدار وأخبرت بِشراً بذلك، فأثر فيه هذا
الكلام وكان سبب هدايته، وخرج حافيا إلى خارج الدار وجعل يركض خلف
الإمام حتى وصل إليه فوقع على قدميه وتاب على يده وأناب وبقي حافيا
طوال عمره(35).
أقول إذا كانت كلمة الحر لغة هي نقيض العبد، والحرية نقيض
العبودية، فان العبودية لله، من حيث الاصطلاح والممارسة هي عين
الحرية لا نقيضها، لان العبودية لله رفعة وسمو وكمال إنساني، بل هي
أعلى مراتب الكمال، وكما قال رسول الإنسانية محمد (ص): "لا ترفعوني
فوق حقي فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً"(36)، ونص
الرسول (ص) هو مصداق قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من
المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ..) الإسراء:1، باعتبار ان النبوة
لاحقة على العبودية، وحسب تعبير الحيدري وهو استاذ فلسفة عراقي، ان
الله خاطب نبيه (ص) في سورة الاسراء بالعبودية: (لأن العبودية هي
منشأ النبوة والرسالة ومبدأ الولاية)(37).
والى جانب ذلك فان العبودية في ذاتها منفعة تقود الإنسان إلى
خير الدنيا والآخرة، لأن الله غني عن عباده، ومن حاز المنافع
والخيرات حاز الحريات جميعها من مصادرها السليمة، لان من معاني
الحرية السامية هي تمتع الإنسان بما تحت يديه وإعمال إرادته في نيل
المنافع.
* إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk
.......................
(1) الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة
(قم إيران، مؤسسة آل البيت): 17/317.
(2) J.J.Rousseau, the Social Contract, Eng
Tran, by: Maurice Cranston, Penguin Book, New York (USA), p32.
(3) Stephen D.Tansy, POLITICS THE BASICS,
Roultedge Ltd, London, First Published 1995, p65.
(4) الصفار، فاضل، ضد الاستبداد (بيروت، دار
الخليج العربي للطباعة والنشر، ط1، 1418هـ/1997م):129-130.
(5) وسائل الشيعة (مصدر سابق): 15/161.
(6) (7) العيناثي، محمد، آداب النفس ج2 (طهران,
منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، 1380هـ) :2/53،
2/46-47.
(8) السيوطي، عبد الرحمان بن أبي بكر، الدر
المنثور في التفسير بالمأثور (بيروت، دار الفكر، 1993م) :6/78.
(9) إبن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، زاد المسير
في علم التفسير (بيروت، المكتب الإسلامي، ط1، 1384هـ/1964م)
:5/455.
(10) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار (بيروت،
مؤسسة الوفاء، ط2، 1403هـ/1983م) :77/239.
(11) عبده، محمد، شرح نهج البلاغة (بيروت، دار
البلاغة للطباعة والنشر والتوزيع، ط4، 1409هـ/1989م) ص766.
(12) بحار الأنوار (مصدر سابق) :78/454.
(13) (14) إبن أبي الحديد، عبد الحميد بن محمد
المعتزلي، شرح نهج البلاغة (بيروت، دار الجيل) :20/293، :18/84.
(15) (15) (17) النوري، حسين بن محمد تقي،
مستدرك وسائل الشيعة (بيروت، مؤسسة آل البيت) :12/67، :2/427،
:12:68.
(18) بحار الأنوار (مصدر سابق) :1/83.
(19) مصباح يزدي، محمد تقي، "حق الحرية في
المنظور الإسلامي" كتاب: حقوق الإنسان في الإسلام (طهران, العلاقات
الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي, 1408هـ/1988م) ص253.
(20) شاكوش، ابتسام، "في العنف الأسري.. حوار"
صحيفة السلام (بيروت، تجمع المسلم الحر، السنة 2، العدد 24،
1421هـ) ص2.
(21) آل نجف، عبد الكريم، "الحرية من وجهة نظر
السيد الشهيد الصدر" مجلة المنهاج (بيروت، مركز الغدير للدراسات
الإسلامية، السنة 5، العدد 19، 1421هـ/2000م) ص174.
(22) القرضاوي، د. يوسف، الحل الإسلامي فريضة
وضرورة (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط11، 1405هـ/1985م) ص77.
(23) آداب النفس (مصدر سابق) :2/49.
(24) الشيرازي، محمد، السياسة (بيروت، دار
العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، ط6،
1407هـ/1987م):2/213.
(25) بحار الأنوار (مصدر سابق) :85/284.
(26) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير
القران (بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط3، 1973م) :13/35.
(27) الطبري، محمد بن جرير (تاريخ الأمم
والملوك، مطبعة الأعلمي، بيروت): 3/34.
(28) الميلاد، زكي، "التعددية الحزبية في الفكر
الإسلامي" مجلة الكلمة (بيروت، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث،
السنة 1، العدد 2، 1414هـ/1994م) ص35.
(29) التسخيري، محمد علي، التوازن في الإسلام
(طهران، معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي, ط2،
1411هـ/1991م) ص86.
(30) عبد المجيد، د. احمد فؤاد عبد الجواد،
البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي في الفكر السياسي
الحديث (القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1998م)
ص123.
(31) (32) باروت، محمد جمال، "نظرية الحاكمية في
الخطاب الإسلامي المعاصر" كتاب: الأحزاب والحركات والجماعات
الإسلامية (دمشق، المركز العربي للدراسات الإستراتيجية، ط3، 2000م)
:2/8، 2/8.
(33)(34) الشيرازي، حسن، حديث رمضان (الكويت،
هيئة محمد الأمين، ط3، 1415هـ/1995م):117:118.
(35) انظر: الأمين، محسن بن عبد الكريم، أعيان
الشيعة (بيروت، دار التعارف):3/579.
(36) القزويني، محمد كاظم، موسوعة الإمام الصادق
.. تاريخ الرسول الأعظم (قم إيران، مؤسسة نشر علوم الإمام الصادق،
ط1، 1417هـ):6/175-176.
(37) الحيدري، كمال، التربية الروحية .. بحوث في
جهاد النفس (بيروت، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، ومؤسسة
الثقلين الثقافية، الطبعة الثانية 1421هـ/2000م) ص258. |