تصريحات القرضاوي دعوة للنقمة في شهر الرحمة!

د. إبراهيم العاتي

يعيش المسلمون في شهر رمضان أوقاتاً روحية مفعمة بالتسبيح والدعاء والتهجد والعبادة. فهذا الشهر الكريم هو شهر الرحمن، وربيع القرآن.. إنه شهر الله بدلالة الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، وهو شهر المواساة والتآخي والتراحم، ومدرسة التربية الروحية التي تهذب العواطف والانفعالات، وتكبح جماح الغرائز والشهوات، وتضبط أقوال الإنسان وأفعاله حتى لا يشط أو يزيغ.

وعلى هذا فأهم ما يتوجب على الدعاة والمبلغين ورجال الدين في هذا الشهر الكريم أن ينشروا القيم السامية للصوم، وأن يكونوا قدوة في تطبيق أحكامه، والالتزام بأوامره ونواهيه التي لا تتوقف عند الامتناع عن الطعام والشراب وغيرها من الأمور المادية والبيولوجية، ولكن البعد عن كل ما يثير الفتن، ويجرح المشاعر ويثير الضغائن والأحقاد، وغير ذلك مما يتنافى وحكمة شهر الصيام الذي شرعه الله لتصفية النفوس وتمتين أواصر المحبة والتكافل والألفة والوحدة بين المسلمين، فليس هناك تشريع إسلامي يتفق المسلمون في أحكامه بمختلف مذاهبهم مثل الصوم.

وكنا نأمل من الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، وهو الداعية المعروف، أن يكون من أول المبادرين لاستلهام تلك الحكم العظيمة لشهر الصيام، فيقول أو يفعل شيئاً يواسي به أهالي ضحايا حي الدويقة القاهري الذي انهارت صخور جبل المقطم على سكانه في شهر رمضان، ومازال المئات من ضحاياه مدفونين تحت الأنقاض، أو يكون على رأس قافلة الإغاثة التي قامت بها القوى السياسية وقوى المجتمع المدني المصرية لكسر الحصار الجائر على قطاع غزة، أو يشحذ همم المسلمين بجميع انتماءاتهم وقومياتهم ومذاهبهم لإنقاذ القدس من التهويد والمسجد الأقصى من محاولات هدمه وإقامة هيكل سليمان على أنقاضه، وهو ما تسعى إليه الجماعات الصهيونية المتطرفة، أو يحذر من المحاولات التي يخطط لها الكيان الصهيوني بالتعاون مع الإدارة الأمريكية لضرب مراكز القوة والمقاومة والممانعة العربية والإسلامية تحت ستار من الحجج الواهية كالخطر النووي والإرهاب وما شابه.

وإذا كان من خطر يتهدد المجتمع المصري المسلم فهو خطر التنصير والتهويد. ألم يستوقفه تعميد البابا لمسلم مصري في الفاتيكان، ولأول مرة بشكل علني، وما خفي أعظم؟ ألم يسمع الشيخ بعشرات الألوف من المصريين الذين تزوجوا من إسرائيليات عربيات ويهوديات طمعاً في الحصول على جنسية إسرائيلية تنقذهم من الفقر، والله أعلم ماذا يخبيء اليهود لهم ولأبنائهم  في المستقبل، خاصة إذا علمنا أن اليهودي- طبقاً للديانة اليهودية- هو من كانت أمه يهودية؟!

لقد نسي الشيخ أو تناسى ذلك كله، ولم يجد خطرا يستدعي الويل والثبور وعظائم الأمور إلا (الغزو الشيعي) للبلدان السنية، وهو خطر موهوم لا وجود له إلا في مخيلة الشيخ، وفتحه في غير صالحه، لأن الشيعة لو أرادوا فتح الملف نفسه لتكشفت حقائق وبرامج رهيبة تقشعر منها الأبدان، خططت لها عقول غربية وصهيونية منذ انهيار نظام الشاه عام 1979، ونفذتها للأسف أيادي حكومات ومؤسسات تدعي الإسلام ضد الشيعة في بلدانهم التي يعيشون فيها منذ قرون أو في أي مكان في العالم، لا كوجود فكري وعقائدي وحسب، بل كوجود بشري ووطني أيضاً!

والغريب أن الشيخ القرضاوي يكرر نفس الاتهامات الباطلة لشيعة أهل البيت والتي مافتئ علماؤهم ينفونها منذ قرون، من قبيل سب الصحابة وتحريف  القرآن. وقد أوضح علماء الإمامية منذ عصور متقدمة وحتى عصرنا الحالي سلامة القرآن من التحريف، وأنه ما بين الدفتين. كما فندوا الروايات الضعيفة الواردة في بعض كتب الحديث، وأثبتوا عدم صحتها، والشيعة الإمامية بوحه عام لا توجد عندهم صحاح، وإنما كتب حديث. ولذا فالمشكلة قائمة في صحاح السنة التي وردت فيها أحاديث عن كبار الصحابة تقول بزيادة أو نقص في القرآن، فليشرح لنا الشيخ ذلك!

أما الصحابة فمقامهم محفوظ ودرجاتهم في عليين، وقد حملت طائفة كبيرة منهم لواء التشيع منذ صدر الإسلام أمثال عمار بن ياسر (قتيل الفئة الباغية)، وأبي  ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود الكندي، وسلمان المحمدي، وحذيفة بن اليمان، وقيس بن سعد بن عبادة، ومحمد بن أبي بكر الصديق، وسهل بن حنيف الأنصاري، وعبد الله بن عباس، وعدي بن حاتم الطائي، وخباب بن الأرت، وهاشم المرقال، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وحجر بن عدي الكندي الذي طلب منه بنو أمية البراءة من أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، فأبى فقتلوه وأبناءه وأصحابه صابرين محتسبين في مرج عذراء بضواحي دمشق، وكان الحسن البصري الذي أشاد به الشيخ القرضاوي في مقابلته الأخيرة، يذكر تلك الفعلة الشنعاء فيقول: ياويله –معاوية- من حجر وأصحاب حجر!!

لقد تواترت الروايات عند الشيعة عن نهي أئمتهم عن السباب، واشهره قول الإمام علي (ع)  لبعض أصحابه وهو في صفّين وقد سمعهم يسبون أهل الشام، فقال: ((إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر)) (نهج البلاغة، ج2، ص185، شرح الشيخ محمد عبده)، وقد استمر أئمة أهل البيت في العصور اللاحقة على تأديب شيعتهم وبقية المسلمين بهذا الخلق النبوي الرفيع، وإذا شذ أفراد عن الالتزام بهذا المبدأ العام فهم يتحملون وزر أفعالهم، ولا يتحمل ذلك المذهب كله.

لكن المشكلة أن الطرف الآخر جعل سب الإمام علي سنة وثقافة عممها طيلة حكم الأمويين، وعاقب بالقتل والتنكيل كل من لا يقوم بها، ولم تتوقف إلا فترة بسيطة خلال حكم عمر بن عبد العزيز. وهذا الأمر هو ما يجب التوقف عنده، ولا نعتقد أن الشيخ القرضاوي يجهله!

لاشك أن الأمم تتقدم من خلال استثمار عملية التراكم المعرفي، حيث يبدأ اللاحق من حيث انتهى السابق، ويبني التالي على ما بدأه الأول. وقد بذرت في مصر قبل ما يقرب من سبعين عاماً بذرة طيبة تمثلت في تأسيس جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية سعت إلى جمع كلمة المسلمين والتقريب فيما بينهم تنفيذا للأمر الإلهي: ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا))، لأن الأمة ستبقى جسداً مريضاً مادامت تمزقها الخلافات وتفترسها الفتن والنزاعات. وقد نهض بهذه الدعوة المباركة ثلة من كبار العلماء كالشيخ عبد المجيد سليم والشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ محمد المدني والشيخ حسن البنا والشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد العزيز عيسى والشيخ محمد تقي القمي وآخرين غيرهم، فنفضوا غبار القرون وظلمات الجهل والتعصب ودرسوا المذاهب الإسلامية دراسة موضوعية لمعرفة المشتركات ونقاط الاختلاف، فتوصلوا إلى أن الأصول متفق عليها، أما الفروع ففيها المشترك وفيها المختلف كما هو حال أصحاب المذهب الواحد. وعلى هذا الأساس أصدر الشيخ شلتوت شيخ الجامع الأزهر عام 1959 فتواه الشهيرة بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية. وطبعت بعض كتب الشيعة في مصر كالمختصر النافع في فقه الإمامية للمحقق الحلي، ومجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي، كما أصدرت الجماعة مجلة (رسالة الإسلام) التي كان يساهم في تحريرها نخبة من كبار العلماء والكتاب من مختلف المذاهب الإسلامية، لكن هؤلاء العلماء الذين أحسب أن الشيخ القرضاوي قد تتلمذ لبعض منهم، لم يهولوا من الأمر ويعتبروه غزواً شيعياً لبلدهم، فهل كان الشيخ أحرص منهم على عقيدة أهل السنة، أم أنه أعلم منهم بحقيقة التشيع حين يرميه الشيخ بالبدعة بينما يعتبره العلماء من أساتذته أو أساتذة أساتذته مذهباً يقوم في أصوله وفروعه على الكتاب والسنة؟ وحاشا له أن يتهمهم (بالخواء) كما اتهم علماء السنة المعاصرين!

وكيف نفسر تصريح الشيخ قبل سنتين بأن: إخواننا الشيعة الإمامية فرقة من فرق المسلمين، والمذهب الجعفري مذهب إسلامي معتبر. وأن هذا هو موقفه القديم الثابت من هذه المسألة. (إسلام أون لاين نت)؟ فما الذي استجد حتى يغير الشيخ رأيه ويبدل قوله؟ هل المطلوب شحن الأجواء تحضيراً لشيء ما يحضر له في المنطقة؟ أم المطلوب جر الأمة إلى تناحر وصراع مذهبي يشغلها عن صراعها الحقيقي مع الكيان الصهيوني؟ أم هي سياسة الهروب إلى الأمام لتحاشي الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تهم المواطن العربي والمسلم، ومنها ما يتعلق بالتواجد العسكري الغربي في المنطقة، وبعض قواعده على مرمى حجر من بيت الشيخ القرضاوي في قطر؟ أسئلة مفتوحة تحتاج إلى أجوبة واضحة.

*أكاديمي وباحث

regicis@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 30/أيلول/2008 - 29/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م