خطوات وطنية نحو الحداثة

أحمد شهاب

بينما تستنفر دبي كل طاقتها وتستعد لإطلاق المرحلة الأولى لـ«مترو الأنفاق» في أواخر العام القادم، حيث من المتوقع أن يتم تشغيل المرحلة الثانية وينجز المشروع بالكامل عام 2012، وينتظر أن يستوعب المترو حوالي 1,2 مليون راكب يوميا، ليخفف من الزحام الحاد ويكمل جمال المدينة التي تظللها ناطحات السحاب وتصطف أبراجها العملاقة على طول الطريق بتصاميمها الهندسية الراقية، وحيث تتسابق كبرى الشركات الأجنبية والتكنولوجية لفتح فروعها في تلك المدينة العملية، فإن مجلس الوزراء الكويتي لا يزال يستعد للاطلاع على دراسة حول جدوى مشروع مترو أنفاق الكويت التي قدمها الاتحاد الكويتي للنقل البري لوزارة المواصلات كما تناقلت وسائل الإعلام الأسبوع الفائت.

لا أعرف تحديدا متى سيطلع مجلس الوزراء على الدراسة المذكورة، لكن أغلب الظن أن الموعد سوف يتزامن مع لحظة تشغيل مترو أنفاق دبي رسميا، لنثبت مجددا أن قرارنا في التخلف عن ركب الدول المتقدمة نهائي ولا عودة عنه مطلقا، يجري ذلك في الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم بما فيها بعض الدول الإسلامية والخليجية إلى الدخول في عصر الحداثة الاقتصادية والاجتماعية، والانتقال إلى زمن جديد مختلف كليا عن الزمن الفائت، لأن التقدم شرط لاستمرار الدول على قيد الحياة.

وقرابة دبي تعكف أبو ظبي على بناء أنموذجها الثقافي الخاص، وتدعم بقوة جملة من الأنشطة الثقافية والفكرية، وتستوعب بحرفية بالغة أشهر المتاحف والجامعات العالمية، وهي تعمل على قدم وساق لتطوير مشروع جزيرة سعديات، حيث من المقرَّر أن تحتوي حتَّى عام 2018 على فنادق ومرافئ للزوارق وأحياء سكنية بالإضافة إلى بعض المتاحف، من أبرزها متحف «لوفر أبوظبي»، وهو نسخة مصغرة من متحف اللوفر الشهير، كما يدعم المسؤولون في أبو ظبي مشروعا ضخما للترجمة يستهدف ترجمة ما يقارب 400 كتاب من مختلف اللغات كل عام، ويسعون بجدية بالغة لتحويل المدينة إلى مركز للتواصل الثقافي والحضاري والتعددية الثقافية والتعايش السلمي بين الشعوب، في محاولة حثيثة على ما يبدو لأن تمسك الإمارات النهضة من قرنيها، ولو أن القادة في الإمارات العربية قرروا أن يكسروا تباطؤهم في الحراك الديمقراطي لتكامل المثال الحداثي فيها.

لا ادعي أن دبي أو أبو ظبي أنموذج خال من العيوب والنواقص، ومن المؤكد أن الإمارات العربية بصورة عامة ليست تركيا أو ماليزيا المعاصرة، وهي أبعد من أن تقارن بالدول الأوروبية رغم محاولاتها لاستنساخ تجارب تلك الدول، ربما لأن الحداثة السياسية لم تطرق أبوابها بعد، ولا يزال البلد مثله مثل بقية دول العالم الثالث، يعاني من بعض صور البيروقراطية ومُعرض للسقوط في مطبات لا تليق بنهضته الاقتصادية والعمرانية المتسارعة نتيجة بعض أوجه القصور الإدارية، لكنه بالتأكيد تجاوز بمراحل زمنية طويلة بقية بلدان الخليج، واستطاعت دبي تحديدا أن تنتزع لقب درة خليج القرن الواحد والعشرين بجدارة بالغة.

مقابل هذه المحاولات الدؤوبة والمتواصلة للدخول في عصر الحداثة التي تبذلها دولة الإمارات، تخطو الكويت خطوات واسعة إلى الخلف، فرغم أنها كانت الأنموذج الخليجي بل والعربي الأبرز والحاضن الرئيس للطموح الثقافي العربي، وقالب الحراك الديمقراطي في المنطقة، وأرض التجارة والبناء والتطور العمراني، تبدو اليوم الأكثر تراجعا بين مثيلاتها، وباعتقادي أن العلة تكمن في عجز المسؤولين عن تشخيص مكمن الخلل.

فمعادلة بناء الكويت وتطورها يتكئ على ترابط جملة من الحقول، بحيث لا يمكن أن نتصور تطورا في أحد الحقول بعيدا عن تطور الحقول الأخرى، فتطورها الاقتصادي والعمراني تزامن مع تطورها السياسي، وعندما تراجعت البلد سياسيا تقهقرت في الميادين الأخرى بصورة واضحة، ولا أعتقد أنها يمكن أن تنهض مجددا إلا إذا أعادت تأسيس المشهد السياسي عبر استدراك حراكها السياسي الهادف والنشط في ذات الوقت.

فالدولة قامت على التوازن الداخلي وتوزيع الأدوار بين أهل الحكم وأهل التجارة، والنهضة العمرانية واكبت النهضة الثقافية، والثقافة دعمت الحرية السياسية كما كانت مظهرا لها، وهذه المعادلة بمجرد أن ضُربت شاهد الجميع حجم التراجع المذهل في مسيرة الدولة واقتصادياتها، ولا يمكن أن نشهد سطوعا اقتصاديا أو ثقافيا جديدا في البلد والحال الديمقراطي متعثر، والوصول إلى السلطة التنفيذية أو التشريعية هو مدخل الثراء والتحكم في أسواق المال وعالم التجارة في البلد، ومؤسسات المجتمع المدني في سبات عميق، والأطروحات الجادة مغيبة، والثقافة السياسية غائبة، ولم يتبق من الثقافة ومفهومها وعطائها وآفاقها إلا الشعر الشعبي وحواديت الصفحات الثقافية.

للنهضة ثمن، وثمنها في الكويت واضح 
ولا يحتاج إلى الكثير من الذكاء، بل إلى المزيد من الحرية السياسية، والمزيد من الرقابة الشعبية، وإلى إعادة ربط الحقول واتساق حركة التقدم، وتصحيح معادلة النهضة من جديد، إذ إن إصرار الحكومة على رفض الاعتراف بحاجة البلد إلى المزيد من الحريات السياسية والمدنية، ونظرية كل شيء على ما يرام، يحرمها من فرص التطور السياسي، ويعطل التنمية الاقتصادية ويجعلها رهينة لقوى الفساد، كما يحرم المجتمع من فرص نمو ثقافته وتجربته السياسية.

فالتطور في الكويت لا يمكن أن يتم دون امتلاك المجتمع حق تكوين مؤسساته الأهلية بعيدا عن سلطان الدولة، بما يؤهله للمساهمة في تصنيع الديمقراطية وفرضها على الدولة بصورة تدريجية، ويعتبر ذلك مدخلا لإعادة المعادلة إلى وضعها الطبيعي، وتأهيل البلد من جديد للتحرك خطوة في الاتجاه الصحيح.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/أيلول/2008 - 17/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م