فلسفة الموت

د. وليد سعيد البياتي

كتب الله عزوجل على الانسان الموت ختاما لمسيرته في الحياة إذ لا ابدية ولا خلود في الحياة الدنيا، وقد يفهم الموت باعتباره فسخ العلاقة بين الروح والجسد، في مقابل الحياة والتي تعني تعلق الروح بالجسد ودوام إتصالها به، والموت هو ايضا انقضاء الاجل كما في قوله تعالى: " فاذا جاء اجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون " الاعراف/ 34. وهنا يجب ملاحظة عدم وجود زمن مطلق، حيث ان فلسفة الزمن تقتضي وجود بداية ونهاية للموجودات. فالحياة هي بذرة لانتاج كيان لاتتحقق نتائجه النهائية إلا بعد الموت. ونحن في هذه المحاضرة لا نناقش قضية الموت وفق المنهج الاكاديمي (الموت السريري وهو توقف سريان الدم وتوقف التنفس، ولا الموت البيولوجي او الدماغي والذي يتوقف فيه الدماغ عن الاداء) ولكننا نبحث في مفهوم الموت  فهما شرعيا وفلسفيا.

صفة الحياة والموت:

الحياة بصفة عامة هي: استجابة الموجودات لباني الوجود أي (الله) تعالى، فقوة الحياة التي اودعها الله تعالى في الانسان ستجعل الانسان حيا بالمعنى الوجودي، والحياة تعني التطور والنمو والتفاعل مع بقية الموجودات، وبالتالي فان انقطاع قوة الحياة ستعني الموت او ما نسميه عقلا خروج الروح من الجسد. ولا يعني ذلك ان قانون الحياة هو المؤدي الى الموت، بل ان الذي يؤدي الى الموت هو المشيئة الالهية باعتبار ان الموت والحياة بيد الله عزوجل: " وما كان لنفس ان تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا " آل عمران/145. فالموت سنة الهية ثابتة لامحيص عنها. فقد قضى الله على الحياة بالموت أي لابد من تحقق النهاية، ومن هنا نجد أن للموت صفتان وجودية وعدمية:

أولا: الموت صفة وجودية ضد الحياة كما في قوله تعالى: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا " الملك/2. فهناك تناقض وجودي بين الموت والحياة فكلاهما عكس الاخر في المفهوم والمعنى، لكنها يتفقان في انهما معا مخلوقين.

ثانيا: وقد تكون صفة عدمية، وهو عدم الحياة عما من شأنه ان يكون حيا، وبينهما تقابل العام والملكة، فمعنى قوله عزوجل (خلق الموت) : أي قدره كما ورد في إصطلاح العارفين واصحاب السلوك. والموت هو قمع هوى النفس فقد جاء في الخبر: " فمن مات عن هواه فقد حي بهداه " .

حكمة الموت:

لعل قضية الموت قد حيرت العقول، وما ذاك الا لجهل الانسان بكنه الموت، ولكونه يأتي من حيث لا يدرك، ومن هنا فقد يعتبر الانسان الموت شرا، فيخاف الموت لانه لايدرك كنه ولا ماهيته، والموت كما الحياة جزء من الابتلاء الالهي لتمحيص الانسان ولتحصل الروح على حاجتها الحقيقية خارج الجسد فقد قال عزوجل: " كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة ". الانبياء/35. وهو تأكيد على ان الموت نهاية كل مخلوق ذي نفس وان كان مكروها من قبل الانسان، وهذا ما اشار اليه الملا صدرا الشيرازي (صدر المتألهين): " ونبلوكم بالشر والخير فتنة أي نبلوكم بما فيها من موت النفس وحياة الروح، فالاول كالمكروهات من الخوف من الجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وسائر ما تسمونه شرا، وفيها من موت النفس وحياة الروح، والثاني كالمحبوبات التي تسمونها خيرا وهي الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة ". أسرار الايات/159. وهنا يفسر صدر المتالهين الشيرازي معنى كراهية الانسان للموت و أسباب تعلقه بالحياة.

فحكمة الموت تتجلى في تحرير الروح من متعلقات الجسد وشهواته، وسلخها عن العوالم الدنيوية لترتقي في علياء الملكوت. فالروح والجسد والنفس كيانات تنتمي الى عوالم مختلفة لكن الله عزوجل جمعها في بناء واحد في الحياة الدنيا ولكن الموت يعيد هذه الكيانات الى مواطنها الاصلية، فالاجساد تعود للارض، والانفس ترحل الى عوالمها، اما الاوراح فترحل الى عالم الملكوت العلوي، وهي في كل ذلك تنتظر يوم الحساب.

وحكمة الموت تتجلى في كونها ترسم حركة التاريخ فلولا الموت لضاقت الارض ببني آدم وببقية الخلق، والموت يقدم مفهوما لتداول الامم، فقد قال تعالى شأنه: " لكل أمة أجل فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ". يونس/49. فقد أراد الله من الموت أن يكون عبرة للخلائق وتذكيرا لهم ان لاخلود في الحياة الدنيا، ومن هنا وصف الله عزوجل الدار الاخرة بالحيوان بقوله: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت/64. ويقول شيخ الطائفة الطوسي في تفسيرها: " وليس هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب لانها تزول كما يزول اللهو واللعب (إذ) لابقاء لهما (وإن الدار الاخرة لهي الحيوان) أي انها الحياة على حقيقتها لكونها دائمة باقية " التبيان/8/225. واقول ان الحيوان هنا تعني مطلق الحياة أو هي الحياة بكينونتها الوجودية والتي لاتتحقق إلا بعد الاخرة.

من هنا على الانسان ان يجعل علاقة هذه الكيانات متوازنة في الحياة الدنيا، ومحققة لما اريد لهامن عملية الخلق الاول بان تتوجه لله الواحد، وعلى الانسان ان يجهد في تخليص النفس من الترابط الدنيوي المتعلق بالشهوات بكل انواعها، ومن هنا قلنا على الانسان ان يوجد حالة من التوازن بين هذه الكيانات، فالجسد كوعاء ستتحمل جوارحه نتائج الافعال الدنيوية، والنفس تحاسب، والروح ستعود الى باريها.

وقد جاء في الحديث القدسي عن الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله : " من فزع نفسه بالموت هانت عليه الدنيا ". وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: " إن للمرء المسلم ثلاثة أخلاء، فخليل يقول له: أنا معك حيا وميتا وهو علمه، وخليل يقول له: أنا معك حتى تموت وهو ماله وإذا مات صار للورثة، وخليل يقول له: أنا معك إلى باب قبرك فأخليك وهو ولده " المعاني/69 الباب/58.

والموت حق باعتباره امر واقع لامحالة، فلا فرار من الموت ولانجاة منه، وهو سنة اوقعها الله على جميع اصناف خلقة فلا يبقى ألا وجه الكريم، وكل شيء هالك إلا وجهه: " كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام ". الرحمن/26-27.

هذا هو الموت عبرة لبني، آدم وخاتمة لمطافة وحركتة في الحياة الدنيا، سنة من السنن التي لا تجد نهايتها إلا بعد يوم الحساب حيث لاموت بعدها ولافناء والناس بين شقي وسعيد، فمن شقى ففي جهنم خالدا فيها ما شاء الله، ومن سعد ففي الجنة خالدا فيها ما شاء الله. ربنا اجعلنامن السعداء وارزقنا الجنة بشفاعة حبيبك محد وآله الاطهار وبارك لنا في هذا الشهر الشريف واسبغ علينا فواضل النعم انك رؤوف رحيم، وانك على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.

* المملكة المتحدة – لندن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 16/أيلول/2008 - 15/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م