معركة حقوق الإنسان

أحمد شهاب

لا مجال للمواقف الرمادية، فعندما يتصل الأمر بحقوق الإنسان فإنك أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تكون مع الإنسان مدافعاً عن حقوقه ومناضلاً في سبيل تحريره من كل صور القهر، بغض النظر عن هويته وانتمائه ومستواه الاجتماعي، وإما أن تكون ضد الإنسان منتهكاً لحقوقه ومؤيداً للجهات التي تمارس ذلك وتتكسب منه، فالموقف المتردد والمتهاون هو اصطفاف سيئ في وجه صيانة الحقوق والحريات الأساسية، والأسوأ أن يصدر هذا التردد من الجهات والمؤسسات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته والتي يُنتظر منها أن تكون منافحة عنها.

ففي الكويت، أصدر وزير الشؤون الاجتماعية والعمل قراراً وزارياً رقم 99 لعام 2005، بشأن إشهار «الجمعية الكويتية لمقومات حقوق الإنسان»، وهي جمعية إسلامية التوجه، لتكون بذلك الجمعية الثانية المعنية بقضايا حقوق الإنسان بعد إشهار «الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان» العام 2004، وهي ليبرالية التوجه، لكن من المؤسف أن أداء الجمعيتان سواء الإسلامية أو الليبرالية لم يرتق حتى الآن إلى مستوى أداء اللجان والمنظمات الإقليمية والدولية.

لو عدنا إلى نشاط جمعيات النفع العام، ومن ضمنها الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم وكانت حينها فرعا (غير مرخص رسميا) من المنظمة العربية لحقوق الإنسان لوجدنا أن أداءها في ذلك الوقت اتصف بالتركيز والفعالية مقارنة بالوضع الحالي.. فقد حرص النشطاء في جمعيات النفع العام آنذاك على تصدير أدبيات متخصصة في قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة الأمر الذي ساهم إلى حد كبير في نشر ثقافة حقوقية متقدمة على المستوى المحلي، كما حرصت الجمعية على إصدار تقارير سنوية توثق مختلف الأنشطة الحقوقية، وتحركت بجدية بالغة نحو توثيق علاقاتها مع المنظمات واللجان الحقوقية الدولية والتعاون معها في هذه المجال.

لقد ساهم النشطاء في الجمعية الكويتية وغيرها من المؤسسات المدنية في رصد أوضاع حقوق الإنسان داخل البلد، ولفت الانتباه إلى جملة من الانتهاكات التي كانت تُمارسها السلطة أو تُمارس من قبل بعض الجهات المتنفذة، ورغم قلة الإمكانات خاضوا معركتهم التاريخية في سبيل تثبيت الحقوق الأساسية، ودفعوا الدولة باتجاه التوقيع على أبرز المواثيق الدولية المعنية بقضايا الحريات وحقوق الإنسان، بينما نلاحظ اليوم، ورغم توافر الإمكانات وتنظيم العمل الحقوقي بصورة رسمية، تراجعا ونكوصا في الممارسة الحقوقية، ويبدو لي أن الجمعيتين قد خلطتا بين مهامهما الحقوقية وبين انتماءاتهما الدينية والسياسية، وجاءت أغلب مواقفهما انعكاسا لتوجهات إدارتيهما الدينية والسياسية، ضاربتين بعرض الحائط ما تعارف عليه العمل الحقوقي من ضرورة الفصل التام بين الأمرين.

فلم نجد مثلا أي موقف للجمعيتين من احتجاز عدد من المواطنين في قضية التأبين الشهيرة، رغم أن الموضوع، وبعيدا عن الموقف السياسي والاجتماعي، كان يتطلب متابعة حثيثة من المنظمات والجهات الحقوقية داخل البلد، ورغم الدعوات المتكررة للجمعية الكويتية لإصدار بيان هادئ يُطالب السلطات بالالتزام بالإجراءات القانونية المرعية في هذه الظروف، ومراعاة الوضع الصحي لبعض المحتجزين، إلا أن إدارة الجمعية رفضت بإصرار إصدار أي موقف تجاه الموضوع وأعرضت عنه بتجاهل تام، وغلّبت موقفها السياسي على واجبها الحقوقي، بينما غَلّبت جمعية الدفاع عن المقومات الأساسية لحقوق الإنسان الجانب الديني والمذهبي.

كما امتنعت الجمعيتان عن إجراء أي تحركات تجاه الادعاءات بحصول بعض التجاوزات فيما عرف بأزمة «الانتخابات الفرعية»، رغم أنها إدعاءات موثقة رسميا وإعلاميا.. فبغض النظر عن الموقف الرافض لإجراء انتخابات فرعية فإن الإجراءات الأمنية كانت تستحق التوقف عندها من قبل كافة المنظمات الحقوقية، ولم يكن من المقبول تغليب المصالح السياسية والطمع في رضا السلطة على متابعة الادعاءات والتحقق من صدقها، والتثبت من صحة الإجراءات الأمنية والقانونية، فإذا لم تتحرك جمعيات حقوق الإنسان في هذه الظروف فما فائدتها إذن؟!

في مسألة العمالة، اكتفت جمعيات حقوق الإنسان المحلية بإصدار عدد من البيانات المقتضبة، ركزت في غالبها على الحقوق المالية للعمال، لكن لم تبادر أي من الجمعيتين إلى القيام بزيارات ميدانية إلى مساكن العمال ورصد بيئة العمل والتحقيق في الظروف المعيشية لهؤلاء المحرومين، ورصد أهم المشاكل التي يعانون منها، كما أحجمتا عن المبادرة إلى التعاون مع جمعية المحامين الكويتية والجهات القانونية الأخرى في رفع دعاوى قانونية ضد الجهات المتورطة في استغلال العمالة.

والأقرب، كما يشير بعض المهمومين بالعمل الحقوقي المحلي، أن جمعيات حقوق الإنسان في البلد لم تحمل عبء المعاناة الإنسانية التي يعيشها العُمال، بقدر ما انصب اهتمامها على تحسين صورة البلد في الخارج، لكنها لم تدرك بأن تحسين صورة البلد لا يتم بتكذيب تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، وإنما عبر المساهمة في إيجاد حلول حقيقية للانتهاكات الإنسانية اليومية للعمالة، وتسليط الضوء بجرأة على الحالات الإنسانية والجهات المتورطة، ومحاولة وضع اليد على أهم الحلول والعلاجات المناسبة.

كما لم تتبنَّ الجمعيات بصورة واضحة الشكاوى المستمرة من تجاوزات أصحاب الشركات على الموظفين، أو بعض حالات تعدي رجال الأمن على المواطنين والوافدين، رغم أن الكثير منها يُعتبر مادة جاهزة ومنشورة في الصحف اليومية، ولا تنتظر سوى تبنيها وطرحها على المسؤولين في الدولة، وتسليط الضوء عليها مثلما تفعل سائر المنظمات الدولية والإقليمية، لكن الجمعيتين، ومنذ إشهارهما وحتى الآن، لم تقوما بإصدار أي تقارير سنوية حول وضع حقوق الإنسان في الكويت، واكتفتا بالتقارير الإدارية والمالية انصياعاً لطلب وزارة الشؤون لا أكثر.

المثير أن مطالبات الناشطين في ميدان الدفاع عن الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية لتنظيم عمل جمعيات حقوق الإنسان قانونيا لم تتوقف على مدى الثلاثين سنة الماضية، لكنها وبعد أن حصلت على ورقة الاعتراف الرسمي تلكأت عن القيام بمهامها المطلوبة، واعتقد أن هذا التلكؤ هو أحد أبرز أسباب عزوف نخبة من الناشطين في المجتمع من التفاعل مع جمعيات حقوق الإنسان، ببساطة لأنها لا تعمل، وثمة حاجة ملحة إلى أن يثبت القائمون على تلك الجمعيات أن العمل الحقوقي في الكويت ليس مجرد ديكور ومناصب إدارية، وإنما لها دور حيوي لا يمكن الاستغناء عنه.

من السهل الركون إلى التبريرات المطروحة من قبل القائمين على إدارة جمعيتي حقوق الإنسان، والأسهل هو تحميل أفراد المجتمع والظروف الاجتماعية والسياسية مسؤولية تباطؤ أعمالهما، غير أن ذلك لن يقدم أو يؤخر لأن ما يحدث الآن يتجاوز الإهمال إلى التغطية على انتهاكات حقوق الإنسان، واعتقد أن ذلك يعطينا انطباعا بأن ثقافة حقوق الإنسان لم تنتشر بما فيه الكفاية، ولاتزال مجرد لافتة ترفعها شرائح عريضة لأسباب ودوافع سياسية لتحوز من خلالها الشرعية.

* كاتب كويتي

ahmed.shehab@awan.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد  7/أيلول/2008 - 6/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م