العلاقات التشاركية وأسلوب المنفعية الضيقة

ميثم العتابي

 

شبكة النبأ: في محاولة منهم لخلق عنصر الغلبة وخلق حالة من التفوق بين طبيعية التكوين الإنساني، وتطبيع راهنه المادي، سعى الفلاسفة وعلماء النفس الغربيين منذ أكثر من قرنين إلى إستحداث تشريعات ومناهج وأفكار من شأنها ـ حسب قولهم ـ ان تصب في خير المصلحة البشرية عموما، وذلك لقولهم الدائم بالتجدد والحركية الكونية وعدم التوقف والسكون، وهذه العناصر الأخيرة ـ أي الجمود والسكون؛ وكما هو مسلم به، هي عناصر من شأنها قتل الطاقة الإنسانية.

أعتقد هؤلاء بضرورة ما يشبه انسلاخ الإنسان عن روحياته، أو مايتعلق بالماورائيات لديه،  ومن أخطر هذه الأشياء هو سلب هويته العبادية، وكل ما يمد بصلة بينه وبين خالقه. وقد أشتغلت أكثر من مدرسة ومذهب فلسفي أو أجتماعي على هذا الأساس وأبدت استعدادها الكامل لخوض تجربة تجريد الإنسانية، والتصدي لمعتقداتها من خلال الفكر والعقل، وهذا أمر معقد جدا. وهو في الوقت ذاته أمر يثير السخرية، إذ متى جاز للعقل ان يجيب بأجوبة مقنعة عن ماهايات الروح، أو إذا صح التعبير عن ماورائيات الروح، ومتى جاز للعقل المادي حل عقد الجانب الإيماني المتصل بروح الإنسان وفك شفراتها، أو تفسير فعاليات يومية من شأنها أن تكون بسيطة مثل الكره، الحب، الحزن، الغضب... إلخ.

وهذا ماحصل بعد خوض تجربة (التفريغ) الروحي التي عاشها الإنسان، وللأسف ليس في المحيط الغربي فقط بل وصلت حتى إلى البقاع التي تعد الأكثر امانا وتقدما روحيا. فوجدوا الإنسان بعد هذا خاويا تماما، وبدى الإنعكاس يظهر بشكل واضح وجلي على أفعاله اليومية وأنشطته الحياتية. إنطلاقا من علاقة الفرد بإسرته حتى علاقته بالكون كوحدة عضوية لايتجزأ هو عنها.

وهنا جاز لنا الحديث عن العلاقة التشاركية الأولية التي يبني الإنسان حياته وفقها، وبين علاقة المنفعة الخاصة الفردية التي يحاول الغرب صنعها من خلال الترويج للفرد على حساب المجموع الكوني.

فالعلاقة التشاركية التي تعرف بين الإنسان ومجتمعه أصبحت ماضوية، غير موجودة إلا في القصص والروايات، وهذا خطر إجتماعي مؤكد، فالعلاقة المادية بدأت تأخذ طريق العلاقات الثابته، وبدى تبادل المنفعة هو أهم ما يفكر فيه الإنسان. إذ أصبحت حياته مبنية على هذا الأساس، وهو أساس تبادل المنفعة وتجلي الـ "أنا" بشكل واضح وخطير، وهيمنتها على الساحة الإجتماعية بشكل تام وكامل.

ومن الممكن جدا بمكان تزاوج هذه العلاقات ( النفعية والتشاركية) وجعلها في الحصيلة النهائية تصب في خير ومصلحة الجميع.

فالعلاقة النفعية التشاركية التي تبناها الإنسان، هي علاقة متعددة الوجوه، فمنها علاقة الإنسان بالإنسان، وهي علاقة في حد ذاتها علاقة تبادلية المنفعة التشاركية، فالإنسان، هو مايستأنس بوجود غيره، أي لايمكن له العيش بمنأى ومعزل عن أخيه الإنسان، ولكن نجد هذا قد تحقق ـ للأسف ـ فالعزلة والنأي التي قصدناها هنا هي عزلة اجتماعية لاجغرافية، ونقصد بها العزلة الطبقية، فهناك الغني حد التخمة وهناك الفقير حد الموت، وهو ما نجده في تجلي واسع الإنتشار على مستوى بلدان كاملة، فبعض الأماكن لها القدرة على صرف مبالغ طائلة في سبيل دورة ألعاب رياضية مثلا، في حين أن في أفريقيا من يموت يوميا من الجوع.

وهنا يجيء بند آخر من العلاقات التشاركية وهي علاقة الإنسان بالبيئة، فهي علاقة منفعة من طرف واحد، فالإنسان يستهلك البيئة ويلوثها دون تقديم حلول من شأنها ان تصب في مصلحة البيئة ذاتها مثلما ينتظر منها ان تقدم له يد العون في منفعته التي يرجوها منها، والمستفيد هو صانع ـ الألعاب الرياضية ـ والمتضرر بالتالي هي البيئة أولا، والإنسان القابع في القرن الأفريقي الذي يتضور من الجوع ثانيا، وهاهنا تكمن العلاقة التشاركية الفعلية لاالمنفعية الخالصة، فالأول الذي آذى بشكل مباشر البيئة، مشكلا ما يعرف بظاهرة الإحتباس الحراري، هو الذي من شأنه تصحيح خطأه عبر مد يد العون للمتضرر، وهو الثاني الفقير الأفريقي مثلا.

أيضا العلاقة التشاركية بين الإنسان والنبات أو الحيوان، فهي ان كانت بحسب العلاقة النفعية الخالصة فإننا إذ ذاك لن نجد بعد نصف قرن من الآن أي كائن يدب على وجه الأرض سوى الإنسان، وربما وقتذاك يحلو للإنسان أن يأكل أخيه الإنسان، وعلَّ هذا ما نجده جليا في عصر التقدم الرقمي والمعلوماتي، وقد تحققت النبوءة في أكل الإنسان لأخيه الإنسان.

عموما حماية النباتات من شأنها أولا ان تضع العلاقة التشاركية التي تحدثنا عنها بين الإنسان وبين البيئة بأمان دائم، حيث ان النباتات توفر للبيئة سلامة دائمة، وهذا ما نرى تأثيره متمثلا في قطع الأشجار وإزالة غابات كاملة من الخارطة الأرضية، فهو يشكل خطرا تاما على إنجراف التربة مثلا، أو الضعف التام بوجه العواصف والأعاصير. أيضا النباتات توفر معامل المعادلة الكيميائية الكاملة بين الغازات وهي الموازن الحقيقي لطبقة الأوزون.

ومما تقدم كله نجد ان على الإنسان أحترام الآخر الكائن معه في الكون، والتقديم له بقدر الأخذ منه، للحماية والحفاظ على ديمومة الحياة.

وللعودة على بدء نجد ان الذي حصل وبعد فترة من الزمن هو رؤية الإنسان لنفسه فارغا مجوفا من الداخل، وبتساؤل مستمر: أولا ما الذي جناه من وراء أعماله التي كان ينجزها بمنأى عن أخيه الإنسان، وإلى أي مدى جرته أعماله النفعية الخالصة، دون النظر والإلتفات إلى الغير. وثانيا وهو الأهم، أين كهفه الروحي الذي يلجأ إليه؟ هذا مالم يستطيع العالم تفسيره.  

فالإحساس الفطري في داخل الإنسان، وبنائه الذي جبله الله سبحانه وتعالى عليه، هو بناء يتقاطع تماما مع من يحاول ان يجعل من الإنسان أولا كتلة عضوية من الممكن جدا ان تعمل بمفردها، أو يمكن للإنسان ان يعيش ويحيى بمنأى عن أي تدخل خارجي، أو سلطة عليا تشرف عليه، وهنا أقصد بالسلطة الروحية لا السلطة المادية.

ان جعل الإنسانية عبارة عن منشأ علاقات نفعية تبادلية خاوية من الإحساس بالقيم الجمالية في التعاون أو الشعور باللحظة العبادية، وتفريغ محتواها من الإحساس بـ:

1)   إنتظار الثواب، والأمان من العقاب، للعمل الحسن والقبيح على حد سواء.

2)   الشعور بمسؤولية اتجاه الكون والإنسان.

3)   الخوف الدائم على الممتلكات الكونية العامة، بكون فائدتها ذات عائدية مشتركة.

4)   الإحساس بخالق هذا الكون، وبحكمته المتناهية.

نقول مع انتفاء هذه النقاط سيكون الإنسان عبارة عن آلة مسيرة ـ غيرة مخيرة ـ نحو الهلاك لايستطيع مواصلة دربه، ويصبح المستقبل العالمي مستقبلا مشوشا ومهزوزا ومخيفا.

فالتعايش بين الجميع بحاجة إلى الجميع وإلى الحب والإحساس بالآخر، واحترامه، والعبادة الخالصة التي تنقي سريرته وتطهر كيانه، والعبادة هي العمل، ولا يوجد عمل بمنأى أو معزل عن تشارك الإنسان مع أخيه الإنسان.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد  31/آب/2008 - 28/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م