(التاريخ يتشبث بماهو نوعي...انه يتعلق بالأحداث التي تم
تفريدها والتي ليس لأحد منها أن يتكرر)
بول فاين- أزمة المعرفة التاريخية
كتب الكثير عن الصراع بين القوى السياسية التركية موزعة بين
الحكومة ورئاسة الدولة ممثلة في حزب العدالة والتنمية المحسوب على
التيار الإسلامي والمؤسسة العسكرية والقضاء والمحكمة الدستورية
وبعض الأحزاب المعارضة مثل حزب الشعب الجمهوري المحسوب على الجبهة
العلمانية.
الصراع اشتد في الآونة الأخيرة بين المعسكرين حول قضية الحجاب
ومحاولة حزب العدالة والتنمية سن قانون يبيح ارتداء الحجاب في
الجامعات والمؤسسات العمومية على غرار زوجة الرئيس التي شوهدت في
كأس أمم أوروبا الأخير مرتدية غطاء للرأس رسم عليه صور عديدة للعلم
التركي الأحمر، هذا إجراء أزعج القوى العلمانية واعتبروها تخطي
للخطوط الحمراء ونيل من المكاسب الأتاتوركية الجمهورية التي تترك
الشأن الديني بعيدا عن اللعبة السياسية، وإذا في الأزمة الماضية
وقع التهديد بالانقلاب العسكري على غرار ما حصل مع عدنان مندريس
ونجم الدين أربكان الذي يقضي بقية حياته ملاحقا من طرف القضاء فان
هذه المرة تم التلويح بحل الحزب الحاكم وحركت ضده قضية داخل أروقة
المحكمة الدستورية وهو ما يعني إحداث فراغ دستوري وتنظيم انتخابات
مبكرة.
لكن رد عبد الله غول ورفيقه أوردوغان كان ذكيا والتزم بما ينصص
عليه الدستور وفصوله القانونية وهو ما يعني تقديم الاستقالة من
الحزب وتحول النواب إلى مجموعة من المستقلين.
المفاجأة كانت مدوية عندما لم يصوت أغلبية القضاة على حل حزب
العدالة والتنمية وتحفظ قاضي عن القرار في حين تغيب الباقون وهو ما
يعني انتصار من الوزن الثقيل لحزب العدالة والتنمية بعد تحقيقهم
انتصارا آخرا في معركة لي الذراع مع المؤسسة العسكرية ووصول شخصية
معتدلة إلى قيادة هيئة أركان الجيش وهو ما يعني تواصل الإصلاحات
الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية التي شرع في تطبيقها هذا
الحزب منذ وصوله وجعلته يقاوم الفساد والانكماش ويحقق انتعاشة
للمناخ المالي في البورصات التركية ويسرع قيمة المبادلات التجارية
توريدا وتصديرا مع العالم.
اللافت للنظر أن اللعبة السياسية في تركيا تغيرت كثيرا وتبادلت
القوى المتنافسة المواقع والتوجهات، فبعد أن كانت الأحزاب القومية
واليسارية ترفع لواء التقدمية والعلمانية وتطالب بالانضمام الفوري
إلى الاتحاد الأوروبي أصبحت محافظة وتتشدد في الدفاع عن مكاسب
الماضي الأتاتوركي المجيد وتطالب بالاستقلالية والسيادة وتتوخي خطة
انكماشية انعزالية.
أما حزب العدالة والتنمية فقد تموقع على يسار التيارات الدينية
المتأثرة بتفكير الإخوان المسلمين والطرق الصوفية والمراجع الفقهية
التقليدية، وهذا التموقع التقدمي التحرري جعله يستفيد من مكاسب
الحداثة وينتهج سياسة انفتاحية تجاه العالم وينادي بضرورة انضمام
تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وتقوية التعاون مع المحيط الآسيوي
والعربي والإسلامي والإفريقي وحتى الأمريكي اللاتيني.
عندئذ هناك انزياح في الصراع بين القوى السياسية التركية من
استعراض عضلات القوة عن طريق المظاهرات والبيانات الصحفية النارية
بين الإسلاميين والعلمانيين إلى التنافس الديمقراطي بين قوة
ليبرالية تقدمية تطور وتصلح وتطهر المجتمع من الأمراض وقوى تجذف
إلى الخلف وتريد من الزمن أن يتوقف والغريب أن الأولى هي المحسوبة
على الإسلاميين بتجوز والثانية على العلمانيين عرضا.
ظهور حزب العدالة والتنمية هو حدث ولكنه ليس متفردا ويمكن
تكراره في مسطح المحايثة الذي جهزه العرب لتدبير وجودهم في العالم
لكن بشرط أن يتكرر على نحو مختلف ومتنوع وأن يقع احترام القيم
والمبادئ الديمقراطية والحقوقية الكونية التي أتاحت له أن يتشكل
كحدث تاريخي.
خلاصة القول أننا نرى ميلاد علمانية إسلامية في الديار التركية
يمكن أن يهتدي بنجاحاتها ويتبرأ من أخطائها وخاصة تبني خيار الصمت
وممارسة الخيار الدبلوماسي الهادئ في القضية الفلسطينية وتنشيط
الحوار بين الشرق والغرب حول القضايا الحساسة وخاصة الملف النووي
الإيراني ومستقبل العراق.
ان حركة التاريخ تسير إلى الأمام في تركيا وهي في غير مصلحة
القوى المحافظة التي هي التيارات التي كانت تحسب على الاتجاه
العلماني والقومي واليساري وأن حزب العدالة والتنمية هو الذي يصنع
الآن مستقبل تركيا وأنه من مصلحة الشعب التركي أن تتواصل تجربة
التنمية الباهرة والإصلاحات الديمقراطية، لكن من جهة مقابلة يجدر
بمؤسسي حزب العدالة والتنمية أن يعترفوا بالأخطاء الماضوية التي
ارتكبوها وخاصة إصرارهم على حضور الرموز الدينية في المجال العمومي
لأن هذه الأمور تحولت إلى أصنام ومحنطات تعيق حركة التاريخ ويجدر
تحطيمها والعزوف عن التفكير فيها لأن كل التيارات التي لها مرجعية
دينية تنظر إلي تجربتهم بإعجاب ويمكن أن تحتذي بها وأي تعثر في
تركيا يعني إخفاق آخر للتجارب الحزبية التي تسلهم روح تنظيم
العلاقات بين الأفراد من النصوص الفقهية التجديدية المعاصرة، لكن
العرب الذين أضاعوا فرصة المد الليبرالي الأول والمد الماركسي
وأيام الغضب القومي وسنوات الغليان هل يضيعوا أيضا استفاقة التحزب
ما بعد الإسلامي Pot-islamique الذي أرساه حزب العدالة والتنمية
التركية والتجربة المالية ؟ ألا يعني مفهوم المابعد نهاية الإ!
سلام وحلول الإنسان الأخير أم تحقق رسالته الثانية على أرض
الواقع كما بشر بذلك المفكر السوداني محمد علي طه؟
* كاتب فلسفي |