رغم ما يتميّز به مفهوم الوطنية من بعد معنوي أو نفسي ط
ميتافيزيقي ، وهو بعد يستقي نسغه من الحساسية الأزلية المعقدة
للعلاقة بين الذات والآخر، فإنه يمكن مقاربة هذا المفهوم نظرياً
عبر السعي إلى تلمّس خيوطه الموضوعية التي تمنحه مشروعيته كمفهوم
وتلمّس السياق الذي ترعرع فيه.
ولعل مسألة تحديد مقومات الهوية الوطنية من أكثر القضايا صعوبة
و حساسية لأنها تنطوي بالضرورة على إغراءات أيديولوجية قد تطيح
بالبعد المنهجي والموضوعي للبحث في تحديد هذه المقومات. فقد طرحت
الماركسية مفهوما ً أُمميا ً للهوية تجسد في شعار" يا عمال العالم
اتحدوا" الذي يدعوا إلى وحدة عمال بلاد العالم كافة على أساس طبقي.
تتجاوز الحدود والمقومات القومية و الدينية.
كما طرح مفكرو الاسلام الاوائل المفهوم الاممي الاسلامي
للوطنية الاسلامية والتي تضم كل بلاد الاسلام حتى انه تم تاسيس
الجامعة الاسلامية من قبل رواد النهضة الاسلامية جمال "الدين
الافغاني ومحمد عبده".
الا ان هذا المفهوم اخذ في التضاؤل بعد الاستعمار الاوربي لبلاد
العرب واصبح مفهوم الوطنية ياخذ منحى اخر وظهرت نزعات وطنية في
مصر والعراق وسوريا والمغرب العربي تاخذ او تركز على المفهوم
الوطني بمعنى تحرير تلك البلدان من قبل ابنائها وبعيدا عن الجامعة
الاسلامية او الرابطة القومية التي ظهرت في فترة متاخرة عن
المفهوم الاممي الاسلامي.
ان تنامي الروح الوطنية جاء نتيجة لعدة اسباب لعل ابرزها فشل
المشروع الاسلامي المذهبي في لم شمل الامة وفشل حلم الدولة
الاسلامية الذي نادى به الاخوان وحزب التحرير الاسلامي. فلهذه
الشعوب سياقات تطور اجتماعي و اقتصادي و سياسي مختلفة، فضلا ً عن
كون الهوية الإسلامية تجاهلت أيضا ً الاختلافات الفقهية. ففي
المغرب ينتشر المذهب المالكي وفي المشرق والخليج العربي يسود
المذهب الجعفري فضلا عن بقية المذاهب الاخرى الحنفية والشافعية
التي تغطي مساحة جغرافية واسعة من الدولة الاسلامية كل هذه الاسباب
جعلت حلم الدولة الاسلامية يمر باشكالات كبيرة جدا مما سرع
بانتهاء مشروع الجامعة الاسلامية.
لتجد الامة نفسها امام المشروع القومي العروبي المازوم اصلا
والمستورد بشكله الهجيني من التجربة الالمانية مما جوبه بالرفض
المطلق من قبل تلك الدول ولم يحالفه الحظ في اي من البلدان
الاسلامية رغم الشعارات التي رفعها.
ولعل من اهم اسباب الفشل القومي ان الواقع التجزيئي للامة
الاسلامية كان حقيقة تجاهلها القوميون كما إن هذه الهوية القومية
لا أساس تاريخي لها إذ لم يسبق أن تكونت دولة عربية بمعزل عن
الاسلام فالإسلام هو الذي وحَّدَ العرب.
اما عن الهوية العراقية واشكالاتها التاريخية ووجودها التاريخي
لعراق مابين النهرين فالحديث هنا ذو جنبتين الاولى ان العراقيين
عرفوا عبر التاريخ بانهم اصحاب الحضارة السومرية والاكدية وهو وجود
تاريخي سابق لبقية المفاهيم حتى ان الدولة الاسلامية التي امتدت
كثيرا كانت تنظر الى اهل العراق نظرة خاصة وتسميهم باسمهم اهل
السواد وفي الاثر التاريخي تميزهم بطباع ذكر في نهج البلاغة للامام
علي عليه السلام كثير من هذه الصفات وكثيرا ما ابتدئت خطب امير
المؤمنين( بـ يا اهل العراق. ) كما ان هذا الاسم استمر في عهد
الدولة الاموية والعباسية.
وخطبة الحجاج مشهورة "يا اهل العراق اني
ارى ر ؤوسا اينعت"
فالهوية العراقية كانت متميزة اصلا وحافظت على استقلاليتها
عبر العصور ولم تندمج كثيرا مع بقية المفاهيم بل كانت هذه في
العصر الحديث منذ 1921 نقطة وضوح ضد كل المشاريع الاخرى.
وحينما استولى البعثيون على الحكم في العراق 1968-2003 لم
يستطيعوا اضعاف هذه الهوية رغم كل الجرا ئم التي ارتكبوها بحق
الشعب العراقي.
تتضمن الهوية الوطنية العراقية كل ما يميز العراقيين فهم شعب
متعدد الاعراق والاثنيات والقوميات وتتعدد فيه اللغات يسكنون عبر
تاريخهم في ارض واحدة وتحت نظام مركزي واحد ان هذا التنوع فرض نفسه
من خلال فرضية التعايش السلمي التي سادت بين العراقيين لفترة
طويلة كما فرضت نفسها في حالات الاقتتال مع وجود الغزو الاجنبي "
سلاجقة بويهيون اتراك صفويون انكليز " يذكر علي الوردي ان اهل
العراق لم يتقاتلوا الا مع وجود الغزو الاجنبي بينما يسود بينهم
الوئام في حالات الاستقرار والتحرر وهذا جزء مركب من الهوية
العراقية.
ان التنوع العرقي والديني" عرب، كرد، تركمان، و أية أقليات صغرى
أخرى. مسلمون، مسيحيون، إيزيديين، صابئة" ولد نوعا من التسامح لم
تعرفه المنطقة مما اضفى اليه جزء مهما من من سمات الهوية العراقية.
وبالتالي مكنها من الصمود امام الغزوات عبر تاريخها ضد المعتدين
وهذا ماحصل بعد 2003 حينما تعرضت هذه الهوية الى عمليات مسخ من
قبل الجهات التكفيرية والطائفية التي ارادت بمجمل عملياتها ان
تتامر على الروح الحية التي يتميز بها المجتمع العراقي حتى انها
اسست تجمعات طائفية واخرى شوفينية كانت الغاية منها ضرب الهوية
الوطنية العراقية.
saadkeion@hotmail.com |