يرى المتابع لحركة التيارات والمذاهب الفكرية في الوسط الشيعي
أنها آخذة بالتشكل والتمحور حول نفسها أو ربما حول أفكار مجموعة من
جهات مختلفة اتفاقاً أو مصادفة مع أطروحات تبدو جديدة في واقعنا
المعاصر.
إلا أن بعض هذه الأفكار والتوجهات المعاصرة قد تأخذ شكلاً
وتنظيراً جديداً بأبجديات قديمة مستهلكة منذ الغابر عبر جهات لا
دينية كالشيوعية أو العلمانية مثلاُ لتمارس عملها اليوم تحت جبة
الدين كغطاء يعطيها شيئاً من الشرعية والقبول.
واليوم أصبحت النداءات تتوالى بالحرية والانفتاح والخروج عن
الإطار الديني في جزئيات كثيرة من الحياة من قبل فئة من المتدينين،
فأخذ كل من يرغب بالخروج عن النمط الديني والدخول على الحياة
المادية بالتبشير بأفكاره الشخصية والعمل وفق ما يعرف بالمذهب
الليبرالي ولكن بإضفاء نكهة دينية على ما يقدمه للطرح مستبعداً
صراحة المسمى آخذاً بالمضمون.
تتعدد أشكال ومضامين الليبرالية فتختلف في جانبها النظري عما
يطبق على أرض الواقع "وهكذا نرى أن تعريفات الليبرالية تُجمِع على
أنها انكفاء على النفس مع انفتاح على الهوى؛ بحيث لا يكون الإنسان
تابعاً إلا لنفسه، ولا أسيراً إلا لهواه، وهو ما اختصره المفكر
الفرنسي (لاشييه) في قوله: «الليبرالية هي الانفلات المطلق». ولهذا
فإننا نعجب كل العجب ممن لديه أدنى معرفة بمعنى العبودية لله في
الإسلام؛ كيف يجرؤ أن يقول: (الليبرالية الإسلامية) فيجمع بين
مـتنـاقضين، وهل يمكن أن ينادي مـن أسـلم بـ «انفـلات مطـلق» أو «تطبيق
للقوانين التي اشترعها الإنسان بنفسه لنفسه»؟! وهل هناك في الإسلام
استقلال عن كل المؤثرات الخارجية في الاعتقاد والسياسة والنفس
والمادة؟!" (1).
وعندما ننظر إلى الليبرالي الديني فإننا نراه في بداية طريقه
يبدأ بنفسه أولا ثم الآخرين ممن حوله إلى أن تتسع الدائرة، فيقوم
بقطع مسبحة أفكاره القديمة لتتساقط خرزات المبادئ التي كان يديرها
بيده واحدة تلو الأخرى حتى تبقى خالية أو مفتقدةً كثير من القيم
والاعتقادات التي كانت تلازمه قبل ارتقاء سلم المادية والانبهار
بالذات.
يبدأ أفق الليبرالي الديني يضيق من الممارسات والأفعال المحيطة
به في غير ما يعتقد به ليمارس دور المجتهد مع نفسه ودور الولي مع
الآخرين كخطوة نحو تسيير الأمور نحو الرغبة الشخصية في الهوى
الانفتاحي الجديد، ومع قراءته لبعض النظريات والكتابات يرى نفسه في
مقام مفكري المجتمع وصفوته وواحداً من النقاد والمصححين لحياة
الناس ليكون عالماً ضاع بين جهال وفق تصنيفه الشخصي لنفسه، فيلتصق
بكل ما هو مضاد للآخرين وتارة يتجه نحو تسقيط الآخر من الرعيل
القديم لسبب أنه لم يعد يلامس ساحة اليوم.
ومع الطرح الليبرالي المُطعم بالدين، أصبح باب النيل مما يقوم
به الآخر مفتوحاً على مصراعيه دون أي حدود أو لباقة أدبية في وصف
ممارسات الطرف المُختلَف معه ممن يوصف بأنه من دائرة التوجه
التقليدي إلى حد صرف شهادات الخلود في جهنم ما لم يغتسل ويتب إلى
الله ويزهق روح معتقداته وأفكاره السالفة.
المشكلة الحقيقية هي أن من يؤمن بفكر الليبرالية من الدينيين
يجد من حقه انتقاد الآخر وبشكل لاذع وأمام الملأ دون قيود أو ضوابط،
حيث يعتبر ذلك شيئاً من حرية الرأي والنقد والعلاج لظواهر لا
يرتئيها، فيرى أنه لاشيء يوقفه للحديث عن أي أطروحة أو ممارسة وإن
كان في ذلك مساساً بصاحب الشخصية الفكرية ذات الفكر غير المحبذ حيث
يدخل كل ما يقوم به على أنه في جانب الحريات والنقد وله من الحق
مالا يمنعه مانع.
بالمقابل فإن هذا الليبرالي الديني يضيق منك ذرعاً لو واجهت أحد
طاقم السفينة الليبرالية التي تقلهم على متنها بالنقد معتبراً أن
هذا النقد يدخل في جانب التجني والحكم على النيات لا كما يراه
عندما يوجه سهام نقذه الحادة للآخرين على أنها تدخل في باب الحرية
الفكرية، فيجوز لليبرالي مالا يجوز لغيره.
من خلال ما يُكتب وينشر في الشبكات العنكبوتية والصحافة من
مقالات وآراء تتناول قضايا دينية والتي تستعرض جانباً من الصراع
الجديد بين المتدينين الليبراليين والمتدينين من عامة الناس وبين
ما يستنتج من رفض لذلك الفكر من خلال شريحة من المجتمع قد لا تجدها
ملتصقة بالدين بالشكل الكامل، فإنك تشاهد مدى الامتعاض من الطرح
المقدم، ليس لأن الناس لا يقبلون التجديد وإنما لأنهم لا يقبلون أن
يغيرهم الآخر بعد أن يكيلهم بالتهم ويقذفهم بالجهل والتخلف والحكم
على نواياهم فيركلهم خارج دائرة الدين، ويريد منهم أن يستوعبوا
رأيه!
ومع عدم وجود مرجعية أو شرعية يثق بها الناس تتبنى وتؤيد الطرح
الجديد بكل كيفياته وأسلوبه الحالي حتى تكون بؤرة نظر لكافة شرائح
المجتمع وبالتالي قبول الوجبة المقدمة كاملة أو جزئياً يبقى
السؤال: هل ستنجح اللبرالية الدينية في تغيير مجرى الأفكار
والممارسات وأخذ نصيباً وافراً على الساحة الدينية؟
...................
(1) عبد العزيز كامل، مجلة البيان- مقال:
دعاة اللبرلة.. عقول محتلة أم ولاءات مختلة ؟! |