الإمام علي عليه السلام والحرية

مهرجان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) العالمي الثامن

 

 

- كلمة مركز الفردوس للثقافة والإعلام

- الحرية و العبودية في فكر الإمام علي عليه السلام

- إنسانية الإمام علي عليه السلام

- الحرية عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

- صيانة الحريات في حكومة الإمام علي عليه السلام

- في ضوء مفهوم الحرية عند الإمام علي عليه السلام

 

شبكة النبأ: بتوجيه من المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) دأبت لجنة مهرجان الامام علي (ع) العالمي على عقد مهرجانها السنوي، وفي هذه السنة عقد مهرجان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) العالمي الثامن في مختلف دول العالم تحت عنوان:

الإمام علي عليه السلام والحرية

وفي سوريا عقد المهرجان في عدة مدن حيث كان اليوم الاول في دمشق – قاعة المركز الثقافي العربي في كفرسوسة.

واليوم الثاني في دمشق – السيدة زينب – قاعة الحوزة العلمية الزينبية.

واليوم الثالث في حلب - قاعة دار الكتب الوطنية.

واليوم الرابع في حمص – قاعة المركز الثقافي العربي.

واليوم الخامس في السويداء – قاعة مسرح التربية

وفيما يلي بعض البحوث والنصوص التي القيت في تلك المهرجانات:

كلمة مركز الفردوس للثقافة والإعلام

في المهرجان العالمي الثامن لأمير المؤمنين عليه السلام.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم... الحمد لله العزيز الجبار... القوي القهار.. الذي لم يكره أحداً على عبادته، وخيّر الناس بين الجَنة والنار.

والصلاة والسلام على نور الأنوار، ومعدن الأسرار، وقدوة المؤمنين الأبرار، محمد وآله الأطهار، ورضي الله عن أصحابه الأخيار.

أرحب بكم أيها الإخوة الحضور، وأبارك لكم ذكرى مولد أمير المؤمنين، ومولى الموحدين، ووصي رسول رب العالمين، صانع العجائب، ومفرق الكتائب، أسد الله الغالب علي بن أبي طالب عليه السلام.

أيها الأحِبَّة:

نتابع في مركز الفردوس للثقافة والإعلام إحياء هذا المهرجان السنوي العالمي لأمير المؤمنين عليه السلام، ومنذ سنوات عدة، نبذل خلالها المزيد من الجهد والعمل المتواصل، وقد حاولنا خلال هذه السنوات أن ننتخب للمهرجان الشعار المناسب الذي يُراعى فيه من الثقافة أصالتُها من جهة، وحداثتُها من جهة أخرى، كما يُراعى فيه الأوضاعُ الثقافيةُ والاجتماعيةُ والسياسيةُ السائدةُ في العالم بشكل عام، وفي عالمنا العربي والإسلامي بصورة خاصة.

وقد ارتأت الإدارة أن يكون شعارُ المهرجان الثامن في هذا العام (الإمام علي عليه السلام والحرية).

ولعلنا نتساءل:

أولاً: لماذا عليٌّ بالذات.

وثانياً: لماذا الحرية دون غيرها من المبادئ والقيم الإنسانية.

وثالثاً: ما علاقة علي عليه السلام بالحرية ولماذا يقرن بها وتقرن به.

أما أولاً: فإن علياً عليه السلام يتميز بخصوصيات ليست لغيره من الأفذاذ والعظماء، هذه الخصوصيات والامتيازات هي التي قدمته على غيره وجعلته المحور الذي تدور حوله فعاليات هذا المهرجان الكبير.

لقد كان هذا الإنسان العظيم أعني أمير المؤمنين، الأخ المواسي لرسول الله صلى الله  عليه وآله وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله بين أصحابه مرتين، وفي المرتين كان يصطفي الإمام علياً عليه السلام أخاً له ويقول له: ( أنت أخي في الدنيا والآخرة) كما كان عليه السلام التلميذَ الأنجب لرسول الله صلى الله عليه وآله وقد قال مراراً وتكراراً (عليٌّ مني وأنا من علي)، إن علياً نفسه يقول عن أتباعه لرسول الله: (كنت أتّبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به).

ولله درّ الشاعر الذي رصد هذه العلاقة في بيت يلخص الرواية بكل فصولها حين يقول في علي:

ورثت شمائِلُهُ براءَة أحمد         فيكاد من برديه يشرقُ أحمدُ.

ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله فتح للبشرية كلَّ سبل الهداية التي تفضي بالإنسان إلى الحياة الكريمة اللائقة به، ومن هذه السبل بل أهمُها القرآن الكريم، لكنّ القرآن الكريم على عظمتِهِ وقداسته لابدّ له من نماذجَ بشريةٍ تحرّكه في حياةِ الناس، ليتحوّل المعنى القرآني من صورة ترسمها الكلمات إلى واقع ينبض بالحياة.

إن القرآن حين يحدثنا عن معنىً من معاني الحرية، الحرية التي تعني الإنعتاق من الشهوة التي تُسقط الإنسان في مهاوي الرذيلة والفساد وذلك في قوله سبحانه ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى).

إننا نلمح في هذه الآية الكريمة معنى سامياً وخلقاً عظيماً، فنتلفّت حولنا نبحثُ عن تجسيد بشري لهذا المعنى ينزله أولاً: إلى بقعة الإمكان، ويكونُ ثانياً قدوة ميدانية لنا، فنجد أنبياء الله، لكننا نحس بقداسة خاصة لهم حتى لَيشعر أحدنا أنهم من عالمٍ غيرِ عالمنا، عالم كلُّهُ قداسةٌ وطهارةٌ وبراءةٌ وصدقْ، فنعيد التلفتَ باحثين عن أناسٍ مثلنا لا أنبياءَ ولا مرسلين، لنجد عليّاً عليه السلام يملأ آفاق الرؤية غيرَ ملتفت إلينا، لا يريد منا اعترافاً بطهارته وأنه مع القرآن والقرآنُ معه، بل همُّه وشغْلُهُ الشاغل عبادةُ الله ورضوانُهُ فنتعلّقُ به، ونحبُّه ونعشقه، بل نهيم بمعناه الذي يرتفع بنا فنشعر بالإنعتاق والحرية والسمو فوق هذا العالم المحدد بالأبعاد والأجسام والأوهام.

 ونحن حين نقرأ آيات الله التي تحثُّ الإنسان ليكون حرّاً من خلال العبودية لله، فأن تكون عبداً لله يعني أن تكون حراً مع غيره، وإذا كان حقاً قولُ بعضِ الفلاسفة أن في الإنسان جانباً من الخضوع إذا لم يملأ بالعبودية لله مليء بالخضوع لغيره، فإننا نسمع علياً وهو يناجي ربه في السجود الأخير من صلاته قائلاً:

إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً...

وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً...

أنت كما أحبُّ فاجعلني كما تحبْ.

وأما لماذا الحرية دون القيم والمبادئ الإنسانية الأخرى؟

فإن الحريّة هي المعنى الذي تهفو إليه أفئدةُ البشر، والحرية هي المناخ الطبيعي الذي يشعر فيه الإنسان بإنسانيته، وتتفجرُ فيه مواهبُه وطاقاتُه، فيبدعُ ويخترعُ ويعمّر الكون.

بل تستطيع أن تقول: إنّ الحرية ليست مطلباً إنسانياً فحسب، لأن مخلوقاتِ الله من غير الإنسان تطلبها ولو غريزياً، وبنظرة عابرة إلى سلوك الطائر حين يكون حراً طليقاً يملأ الآفاق تغريداً، حتى يحبس في قفص وربما قفص مذهب يأتيه طعامُه وشرابُه إليه دون عناء لكن ذلك لا يرضيه ولا يغنيه، فيرسل نظرات الإستغراب حيناً، وآهاتِ الاستعطاف حيناً آخر معبراً عن أنّ هذا الوضع الذي يعيشه ليس هو الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه.

ولأهمية هذا المبدأ يُرفع شعاراً للثورات والأحزاب، ولقد رفعهم الصادقون وغيرُهم، والمستضعفون وغيرُهم، وكم من الممالك والدول أزيلت باسم الحرية، ومن الثورات أشعلت بوقود الحرية.

ولأنّ الحرية مبدأٌ بين الضرورة والخطورة رأينا أن نجعله أحد ركني شعار هذا المهرجان ليكوّن الإثنان معاً العنوان العام (الإمام علي عليه السلام والحرية).

جاعلين نصب أعيننا ترسيخ هذا المبدأ من ثقافتنا الإسلامية، ومعارفنا الإنسانية ومبادئنا الوطنية، لا من ثقافات أخرى غريبة عنا علينا أن نعد للمائة قبل أن نتفاعل مع أبسط مفرداتها،

وهل نحتاج إلى من يثقفنا في الحرية- جان جاك روسو أو غيره- مع احترامنا الشديد للفكر الإنساني كله.

أقول هل نحتاج إلى ذلك وهذا قرآننا ينادي بالناس آناءَ الليل وأطرافَ النهار: لا إكراه في الدين.

ويقول للنبيِّ الأكرم صلى الله  عليه وآله: (إنما أنت مذكر... لست عليهم بمسيطر).

وهذا نبينا نبي الرحمة حين فتح مكة، وأمكنه الله من الذين كانوا يكيدون له ولرسالته ويحيكون المؤامرات لإسقاط دعوة الخير والحرية، هذا النبي لم يكرهم على الدين بل قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

وأما لماذا تقرن الحرية بعلي؟

فالجواب هنا له طعم آخر ونكهة مميزة.

فعلي عليه السلام لا ينظر لمفهوم الحرية ولا يتعامل معه معنىً تجريدياً، وإنما يقرن القول بالفعل، وربما قدم الفعل على القول، بل ربما ترك القول حين يكون الفعل أبلغ وأصدق.

أمّا عن الفعل فعليٌّ حين بايعه الناس خليفة للمسلمين، وعارضه آخرون لم يُكرِه أحداً على البيعة ولم يظهر أي حساسية تجاههم.

وأما عن القول فها هو ينادي كما ينادي القرآن حين يبدأ آياته بكلمة يا أيها الناس،ولا عجب أن يتطابق نداءُ علي ٍّ مع نداء القرآن أليس عليٌ هو القرآن الناطق، يقول عليه السلام: أيها الناس إن آدم لم يلد عبداً ولا أمةً، وإن الناس كلهم أحرار.

والحرية عند علي أوسع من المعنى السياسي المتداول. إننا نفهم من علي عليه السلام أن هذا المعنى السياسي ما هو إلا صدى للمعنى الأعمق للحرية، الذي يعني الإنعتاق من الطمع، يقول عليه السلام: ( العبد حر ما قنع، والحر عبد ما طمع).

ويقول عليه السلام في معنى آخر للحرية: من ترك الشهواتِ كان حراً.

ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نبارك لأمتنا العربية والإسلامية بتحرير الأسرى من العدو الصهيوني نتيجة بطولة وبسالة وصدق المقاومة الإسلامية والوطنية في لبنان، هذا التحرير الذي يتزامن مع مهرجاننا هذا ويتطابق مع معنى الحرية.

والآن اسمحوا لنا أن نفسح المجال للسادة المفكرين والأدباء والشعراء والمسرحيين ليدلي كلٌّ بدلوه، وأسأل الله سبحانه أن يوفقنا جميعاً إدارةً ومحاضرين ومستمعين لإنجاح هذا المهرجان وتحقيق غاياته إنه سميعٌ مجيبُ الدعاء.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

دمشق

......................

 

الحرية والعبودية في فكر الإمام علي عليه السلام

الكاتبة غفران حرب

بسم الله الرحمن الرحيم 

أيها الإخوة الأعزاء في مركز الفردوس للثقافة.. أيها الإخوة الأعزاء القائمون على مهرجان الإمام علي عليه السلام: بوركت جهودكم و كل عام و أنتم ألف بخير.. استجابة لدعوتكم الكريمة للمشاركة في المهرجان أتقدم إليكم بجهدي المتواضع تحت عنوان " الحرية و العبودية في فكر الإمام علي عليه السلام "، حاولت به تقديم قراءتي لموضوع حرية الفرد في كلماته الشريفة، راجياً القبول و معتذرة عن التأخير في إرسال الكلمة.. والسلام عليكم و رحمة الله

الحرية و العبودية في فكر الإمام علي عليه السلام

كل محاور الحرية في فكر الإمام علي (ع) جذابة و ومحرضة على التأمل و التفكير.. تستفز طاقاتنا للدراسة الجادة و البحث العميق، لكن حرية الفرد جذبتني أكثر،لأسباب عديدة أهمها أن الفرد هو اللبنة الأولى التي يرتكز عليها البناء الاجتماعي.

و حين قرأت قول الإمام علي عليه السلام " أيها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً و لا أمَة و إنَّ الناس كلُّهم أحرار " قفز إلى ذهني حديث رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: " كلُّ مولود يولدُ على الفطرة.. فأبواه يهودانه أو ينصرانه.. أو يمجسانه "،فرأيت الحديثين ينهلان من نبع واحد.. و فهمت منهما مجتمعين أن الفطرة الإنسانية حرية.. كيف ذلك؟

البداية من الفطرة.. ما الفطرة التي يقصدها الرسول الأعظم؟ " يقول الله جل جلاله في سورة الروم: " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت ُ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيِّمُ و لكن أكثر الناس لا يعلمون " 30/30.

و قد جاء في تفسير الآية الكريمة أن الدين الذي يجب أن يكون قبلة لحياتنا إنما هو النهج المستقيم الذي يوافق الفطرة، أي السنن الإلهية التي فطر الإنسان عليها، لانه مستمدٌ منها و في تفاصيله تلبية لاحتياجات هذا الإنسان و متطلباته للحياة السوية.. و لما كانت الفطرة الإنسانية لا تتبدل فإن الدين الموافق لهذه الفطرة لا يتبدل كذلك، فهو ثابت في عناصره الأساسية التي تقيم العدل و توحد بين الخلق و توجههم نحو عبادة الإله الواحد، أما الميل عن هذا النهج الفطري االسليم فيعني اتباع سبل الأهواء المفرقة و المضلة، و الإشراك بعبادة الله الواحد و مكابرة رسل الله الموحدين..

و من هنا نفهم أن قول رسول الله صلى الله عليه و آله " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " لا يعني نبذاً للأديان السماوية التي تلتقي في جوهرها و أبعادها و غاياتها مع الإسلام، بل تمثل في حقيقتها عين الإسلام بأدلة قرآنية كثيرة منها ما جاء في الآيات 130، 131،132 من سورة البقرة:

"ومَن يرغب عن ملّةِ إبراهيمَ إلاَّ مَن سفِهَ نفسَهُ و لقد اصطفيناهُ في الدنيا و إنَّهُ في الآخرةِ لَمِنَ الصالحين. إذ قالَ له ربُّهُ أسلم قالَ أسلمتُ لربِّ العالمين. ووصى بها إبراهيمُ بنيهِ و يعقوبَ يا َبنيَّ إنَّ الله اصطفى لكم من الدينِ فلا تموتُنَّ إلاَّ و أنتم مسلمون"

فإذا تقدمنا في القراءة أكثر إلى الآيتين: 135، و136وجدنا حديث رسل الله ذاته " و قالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً و ما كان من المشركين. قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط و ما أوتي موسى و عيسى و ما أوتي النبيون من ربِّهم لا نفرقٌ بين أحدٍ منهم و نحنُ له مسلمون ".

لكن رسول الله صلى الله عليه و آله ينبه إلى خطورة النظرة العنصرية القائمة على تقسيم المجتمع و تجزئته إلى ملل و طوائف تتناسب مع أهواء أصحابها و مصالحهم أوأوهامهم، في حين أن الدين الذي كُلِّف الأنبياء حملَهُ إلى أبناء البشرية دينٌ و احدٌ هو دين الفطرة..ونلاحظ هذا المعنى في سياق الآيتين الواحدة و الثلاثين والثانية و الثلاثين من سورة الروم: " و لا تكونوا من المشركين. من الذين فرّقوا دينهم و كانوا شيعاً كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون "

و لنلاحظ في الحديث وزن كلٍّ من هوّد و نصّر و مجّس.. أفعال على وزن فعَّل و هذه الصيغة تفيد التعدية أي جعل الفعل متعدياً إلى المفعول به.. و ما المفعول به هنا إلا هذا المولود الذي يولد على الفطرة،فيعتدى على فطرته ليصبح عبداً للقيم الفاسدة و الأفكار العقيمة التي قد يتلقاها من أبوين محرومين من العقيدة الصحيحة و الفطرة السليمة و من وسط اجتماعي منحرف.. و هكذايصبح حبيس أطر نفسية ليس من اليسير كسرها و التحرر من أسرها.

و أمير المؤمنين علي عليه السلام حين يخاطب الناس بقوله: " أيها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً و لا أَمة و إن الناس كلُّهم أحرار " إنما يفسر تلك المعاني القرآنية التي أشار إليها الرسول في حديثه، و يقرب إلينا،و هو باب مدينة العلم، ما بعد عن أذهاننا من لطائف تلك المعاني الشريفة.. و لا نتوهم هنا أنه يشير إلى نوع من الرق دون آخر.. إنه يخص بحديثه كل أشكال الرق التي تستعبد الإنسان روحاً و فكراً و جسداً.. بل يعيدنا إلى تاريخ هذه القضية الإنسانية الموغل في القدم، حين يستحضر آدم أبا البشرية.. و حينما يحضر آدم.. لا بدَّ أن تحضر في أذهاننا قصة صراعه مع إبليس المستكبر.. و سورة ص في القرآن الكريم ترصد أحداث تلك القصة التاريخية حين تتحدث عن خلق آدم أي عن الفطرة الإنسانية، و كيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم المخلوق من طين، فأطاع الملائكة أمر ربّهم إلا إبليس.. الذي حسد آدم و تكبر عليه و انحرف عن الأمر الإلهي فانتهى به ذلك إلى الطرد من الجنة.. وطلب إبليس إنظاره إلى يوم القيامة و أعطاه الله المهلة.. لكن إبليس هدد بإغواء بني آدم: " إذ قال ربُّك للملائكة إني خالقٌ بشراً من طين. فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة ُ كلُّهم أجمعون. إلا إبليس استكبر و كان من الكافرين. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ و خلقتًه من طين. قال فاخرج منها فإنك رجيم. و إنّ عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال ربي فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم. قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين." تنظر الآيات: من الآية 71 إلى الآية 83.

و أمير المؤمنين عليه السلام حين ينفي عن آدم،وهو أصل بني البشر، إنجابه للعبيد و الإماء إنما يشير إلى حريته و سلامة فطرته من الانحراف و الزيغ إذ لم يستطع إبليس أن يستعبده بقيمه المريضة المنحرفة عن أصل الفطرة..

و لعل قائلاً هاهنا يقول كيف ذلك و القرآن الكريم يقول: " فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه "؟..

لا شك أنه سؤال مشروع ألتمس الجواب عليه من كلام الإمام الصادق عليه السلام ليتضح وجه براءة آدم عليه السلام في كلام أمير المؤمنين.. يقول الإمام الصادق في باب الصدق من مصباح الشريعة: " و الصادق حقاً هو الذي يصدق كلَّ كاذبٍ بحقيقة ما لديه و هو المعنى الذي لا يسع معه سواه أو ضده.. مثل آدم على نبينا و آله و عليه السلام.. صدّق إبليس في كذبه حين أقسم له كاذباً.. لعدم ما به، أي في آدم، من الكذب.. قال تعالى: " و لم نجد له عزماً "، لأن إبليس أبدع شيئاً كان أول من أبدعه، و هو غير معهود ظاهراً و باطناً، فحشر هو [ أي إبليس ] بكذبه على معنى لم ينتفع به من صدق آدم.. و أفاد آدم بتصديقه كذبه بشهادة الله عزَّ و جل له [أي لآدم ] ينفي عزمه عما يضاد عهده في الحقيقة ".

لكن قضية آدم مع إبليس لم تنتهي عند محاولات إبليس في الجنة، فالقضية مفتوحة إلى يوم يبعثون، و انتقلت ساحة الصراع من الجنة إلى الأرض، حين أهبط آدم عليه السلام إليها ليكون خليفة الله.. و لم يترك الله أبناء آدم هملاً بغير ناصحين و مذكرين،فبعث الرسل ليذكروا بأصل الضلال و الانحراف و ليضربوا مثلا المستقيمين على صراط الهدى.. و لينذروا المتنكبين عن الصراط و يبشروا المخلصين لفطرتهم المتحررين من كل مرض في الفكر أو الممارسة..

من هذا المنطلق.. منطلق التذكير بالحق و الحض على التحرر مما سواه انطلق أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطابه الموجه إلى الناس.. أيها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً و لا أمة و إنّ الناس كلهم أحرار.. لذلك عندما نتأمل كلماته في نهج البلاغة أو غيره لا نستنشق إلاعبق الحرية المضمخ بعطر آدم.. الفطرة الإلهية السوية.. كان خطابه دائما بعيدا عن الأطر الحزبية و الفئوية التي تجزء و لا توحد.. تشرك و لا تخلص في عبوديتها لله الواحد.. لم يقل يوماً أيها المسلم ليميزه عن المسيحي أو اليهودي أو الصابئي.. لم يقل أيها الشيعي ليميزه عن السني.. كان دائما يخاطب إنسان الفطرة محرراً إياه من كل أسر أو قيد..

وأضرب هنا أمثلة من خطابه المحرر هذا: خالطوا الناس مخالطةً إن متُّم معها بكوا عليكم، و إن عشتم حنُّوا إليكم

أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان

أيُّها الناس، من عَرَفَ من أخيه وثيقةً دِين و سدادِ رأي فلا يسمعنَّ فيه أقاويل الرجال

عباد الله أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم و إن لم تحبوّا

و مما سبق نستنتج أن أن منهج الفطرة المحرر في منظور أمير الكلام المستمد من القرآن، إنما يقوم على التسليم الخالص لله قولاً و فعلاً.. و التسليم الخالص يعني ولوج باب العبودية الحقة و الخضوع للذي.. لايبلغ مدحته القائلون.. و لا يحصي نعماءه العادون و لا يؤدي حقه المجتهدون.. و فق تعبيره المدهش في خطبته الأولى من نهج البلاغة..

و لما كان الوصول إلى إنسان الفطرة الغاية التي دأب عليه السلام على تحقيقها ببلاغته الفذة.. و سلوكه القدوة، فقد ركز في كل ذلك على مستويين من تحرير الإنسان نقف عليهما في كلماته:

المستوى الأول: تحريره من الأثر السلبي للوسط الاجتماعي المحيط به الذي يمجّس و يهوّد و ينصّر وفق تعبير رسولنا الأعظم

و المستوى الثاني: تحريره من أهوائه و رغباته غير المشروعة و و الارتقاء به نفسياً و روحياً إلى مرتبة العبودية الكاملة و أمثلة ذلك كثيرة في كلماته منها: احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك..

الطمع رق مؤبد

إذا هبت أمراً فقع فيه

أشرف الغنى ترك المنى

و إذا كان علماء البلاغة يصنفون لفظتي العبودية و الحرية تحت عنوان الطباق و يحكمون عليهما بالتضاد، فإن العبودية يمكنها أن ترتقي في فكر الإمام علي لتكون مع الحرية وجهين لجوهر واحد هو التوحيد حين يتحرر الإنسان فكراً و روحاً و جسداً من الخضوع لغير الله عز و جل.

دمشق

--------------------------------------------------------------------------------

إنسانية الإمام علي عليه السلام

الدكتور عبود قرة

بسم الله الرحمن الرحيم

(بسم الله، والحمد لله والأرض لله، يورثها من يشاء، والعاقبة للمتقين)

أيها الحفل الكريم، مع حفظ الألقاب والمناصب

يسعدني ويشرفني أن ألقي أنا المسيحي كلمة حق بإنسان عظيم قل أن جاد الزمان بمثله، إنسان لم يأت بعده من يدانيه أو ينافسه، في جميع أفعاله وأقواله، ألا وإنه الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه).

إنني لا أقولها لأكسب استحساناً أو تأييداً، بل أقولها دون مراءات أو تقرب، أقولها عن حقيقة لمستها في معترك سيرة حياته حين كنت أؤلف كتابي (آداب الفروسية عند العرب) منذ أكثر من عشر سنوات، بحثت في آداب الفروسية عند العرب واستخرجت عناصر هذه الآداب التي تتجلى في مكارم الأخلاق عند الفارس، فأدهشني أنني وجدتها كاملة متكاملة في شخصية الإمام، ولم أجدها في غيره، وإن وجدت بعضها في غيره من فرسان العرب، فاتخذتها مقياساً أقيس به الناس، وأقول وأنا معجب وبكل فخر واعتزاز أنني لم أجدها في أي إنسان أتى بعده، فلم يدانيه ندّ ولا شبيه، وإن قاربه بعض أفراد سلالته وهنا كان هاجسي أن أؤلف كتاباً عن هذه العبقرية النادرة، وحاولت أن ألمّ بجميع خصائص هذه الشخصية الفريدة الفذّة، فبحثت في جذور هذه الشخصية وعدت إلى الأسلاف فتبين لي أن منزع هذه الشخصية يعود إلى فترتين إحداهما ما ورثه من أسرته وأسلافه من السلالة الهاشمية، والمنزع الثاني هو ما ورثه من بيئته التي نشأ بها في حضن الرسول العربي الكريم صلى الله عليه وآله، ومن تفاعل هذين العاملين نشأت تلك الشخصية الفريدة من نوعها بتلك المزايا التي لم يمتلك مثلها باقي إخوته جعفرٌ وطالبٌ وعقيلٌ، إنه الإمام وأمير المؤمنين بحق وحقيق، لأن الفضائل الإنسانية اكتملت به، فلم يشك به في سابقته الأوائل ولا الأواخر.

ومن هنا كان المثل الأعلى الذي يجب أن يحتذي في أقواله وأفعاله سياسياً واجتماعياً وقضائياً وحقوقياً واقتصادياً، إنه يمثل مصدراً تشريعياً متكاملاً وصالحاً لكل زمان ومكان، لأنه يمتلك روح الإيمان وفصل الأحكام في هذه المصادر.

إنه أمة في رجل ليس أمة العرب ولا أمة الإسلام، إنها أمة الإنسانية جمعاء، فإذا انتقلنا من التعميم إلى التخصيص لا يسعنا إلا أن نذكر ولو ببعض التفاصيل شيئاً عن حياته ومناحيها من نواحيها، وهي تحتاج إلى مجلدات، ولكن ذكر البعض مفيد لنا.

مفهوم الحرية في فكر الإمام علي (عليه السلام) وسلوكه:

إذا كان الإنسان ابن بيئته، لأن يرتبط بجذوره في أرضه مسكنه وبيئته، فيتغذى برسغها ويتفاعل معها منذ نعومة أظفاره حتى يوم وفاته.

هذه القاعدة العامة عرفها البشر من علماء ومتخصصين وعاديين، هي قاعدة أشبه بالقانون السماوي.

وإذا انتقلنا من التعميم إلى التخصيص وانتقينا شخصاًًًًًًًًًًًًًًًً مشهوراً من فرسان العرب وحكمائهم، وجدنا فيه المعايير الأخلاقية كاملة فيما نسميه ( بأخلاق الفروسية عند العرب) هذا الشخص هو الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه).

لندرس البيئة التي نشأ بها وأثرها عليه بطابعه الذي طبعته على خلاف باقي اخوته ولنعرفه أولاً فتقول: هو اسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وصهره زوج ابنته فاطمة الزهراء (رضي الله عنها).

فهو ابن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، عمة السيدة خديجة بنت خويلد زوجة الرسول محمد صلى الله عليه وآله، والمشهور عنه أنه أول هاشمي من أبوين هاشميين.

وقيل أن أمه اختارت له اسماً هو (حيدرة) باسم أبيها أسد ثم غيره أبوه فسماه علياً وبه عرف واشتهر بعد ذلك، ويكنى أبا الحسن.

كان علي أصغر أبناء أبويه، فلما أصاب قريش القحط، أهاب الرسول بعميه حمزة والعباس أن يحملوا ثقل أبي طالب، فأخذ العباس طالباً وأخذ حمزة جعفراً وأخذ الرسول علياً كما هو مشهور، لذلك نشأ في حجر محمد صلى الله عليه وآله لا يفارقه، وعوّضه إيثار النبي بالحب عن إيثار أبيه.

ولد حوالي عام 600 للميلاد، فقد كان عمره عشر سنين حين بعث الرسول، وذكر بعضهم أنه كان قد بلغ الحلم، ولم يعبد الأوثان قط في صغره.

نشأ الإمام علي مكين البنيان في شبابه وكهولته، حافظاً لتكوينه الجسدي حتى ناهز عمره الستين عاماً، وقد وصفوه وهو في تمام رجولته فقالوا: ( كان ربعة أميل إلى القصر، آدم شديد السمرة، أصلع شعر الرأس مبيض الرأس طويل اللحية، ثقيل العينين في دعج وسعة، حسن الوجه، واضح البشاشة، أغيد كأن عنقه إبريق فضة، عريض المنكبين لهما مشاش السبع الضاري، لا يتبين عضده من ساعده، كان أبجراً، كبير البطن، يميل إلى السمنة في غير إفراط، ضخم عضلة الساق، دقيق مستدقها، شثن الكفين، يتكفأ في مشيته على نحو يقارب مشية الرسول، حين يقدم في الحرب يهرول ولا يلوي على شيء.

اجتمعت في الإمام علي خلاصة الصفات التي اشتهرت بها هذه الأسرة الهاشمية الكريمة التي تقاربت سماتها وملامحها في كثير من اعلامها المقدمين في جملتها: النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء عدا المألوف من سماتها الجسدية الخارقة التي تلاقت وتقاربت في عدة من أعلامها المعروفين عبر التاريخ.

كان للإمام علي قوة جسدية بالغة في المكانة والصلابة على العوارض والآفات، لم يصارع أحداً إلا صرعه، ولم يبارز أحداً إلا قتله، ويحمل الباب الكبير الذي يعيا بقلبه أشداء الرجال، ويصيح الصيحة فتخلع لها قلوب الشجعان، وكان ذا مناعة خصت بها بنيته لم يخص بها معظم الناس، وكان والده يدعى بـ ( بيضة البلد)، فكانت شجاعته نادرة يشرّف بها من يصيب بها ومن يصاب، ويزيدها تشريفاً أنها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الفرسان الأقوياء، فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها بغير كلفة ولا مجاهدة رأي، وهو التورع عن البغي والمروءة مع الخصم قوياً كان أم ضعيفاً، وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال، وكأنما كانت شجاعته هذه القضاء الحاتم الذي لا يؤسى على مصابه لأنه أحجى وأقلها معابة ألا يدفع.

وهو أحد أصحاب الكساء، وقد كان شديد البلاء في الحروب حتى لقب بسيف الإسلام.

تزوج الإمام علي (ره) فاطمة الزهراء (ره) ابنة الرسول فولدت له الحسن والحسين.

كان لعلي (عليه السلام) أخلاق قل أن اجتمعت بإنسان، فقد كان من تورعه عن البغي مع قوته البالغة وشجاعته النادرة أنه لم يبدأ أحداً قط بقتال وله مندوحة عنه، قال مرة لإبنه الحسن (رض): لا تدعوَنّ إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغ، والباغي مصروع ببغيه.

ولما علم أن الخوارج يغادرون معسكره ليحاربوه، طلب أصحابه مبادرتهم بالقتال، قال:( لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون)، وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صفين، وفي كل وقعة وضح فيها عداء العدو، يدعوهم إلى السلم، وينهى رجاله عن المبادأة بالشر، فما رفع يده بسيف قط إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام.

بهرت عظمته البليغة وهو سيد البلغاء، أحد الخوارج الذين كفروه، وصاح معجباً إعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه أو إعجابه: قاتله الله كافراً ما أفقهه، فوثب أتباع علي ليقتلوه، فصاح بهم قائلاً: إنما هو سبٌّ بسب أو عفو عن ذنب.

وعلى ما كان بينه وبين معاوية وجنوده من اللدد العداء، فلم يكن ينازلهم ولا يأخذ من ثاراته وثارات أصحابه عندهم إلا بمقدار ما استحقوه من موقف الساعة.

أما مروءته فكانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان، فقد نهى جنده وهم ناقمون أن يقتلوا مدبراً أو يجهزوا على جريح، أو يكشفوا ستراً أو يأخذوا مالاً.

وقد صلى في موقعة الجمل على القتلى من أصحابه ومن أعدائه على حدّ سواء.

وقد ظفر مرة بعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وهم ألد أعدائه، كما ظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر عليه من جيش ذي عدّة، فأغمض عنهم وعفا عنهم، وترك عمرو بن العاص ينجو بحياته فعل ما فعل إتقاء لضربة الإمام علي عليه السلام.

وحين حال جند معاوية بن أبي سفيان في معركة صفين بينه وبين الماء وهم يقولون: ولا قطرة ماء حتى تموت عطشاً، فحمل عليهم وأجلاهم ثم سوّغ لهم أن يشربوا من ماء الفرات كما شرب جنده.

وزار السيدة عائشة (رض) بعد انكسارها أمامه في موقعة الجمل، فصاحت به صفية أم طلحة الطلحات، أيتم الله منك أولادك كما يتمت أولادي، فلم يرد عليها بشيء، وحين كررت ذلك القول، قال له رجل من أتباعه أغضبه مقالتها: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فقال منتهراً الرجل: (ويحك إنا أُمرنا أن نكفّ عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟).

وفي طريقه أخبره أحد أتباعه أن رجلين ينالان من عائشة (رض) فأمر بجلدهما مائة جلدة، ثم ودع السيدة عائشة (رض) أكرم وداع، وأرسل معها من يخدمها ويحف بها منهم عشرين امرأة من عبد قيس عمّمهن بالعمائم وقلدهن السيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به تالف وقالت: (هتك ستري برجاله، وجنده الذين وكلهم بي)، فلما وصلت المدينة ألقت النساء عمائمهن وقلن لها نحن نسوة.

كانت هذه المروءة سنته مع خصومه من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها، وهي أندر مروءة عرفت من فارس مقاتل في غر القتال، ومما زادها كرامة ونبلاً، سلامة صدره من الضغن على أعدى الناس له وأضرهم به وأشهرهم بالضغن عليه، فقد نهى أهله وأصحابه أن يمثلوا بقاتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي أو أن يقتله أحد غيره، ورثى طلحة الذي خلع بيعته وجمع الجموع لحربه، رثاء محزون يفيض كلامه بالألم والمودّة، وأوصى أتباعه ألا يقاتلوا الخوارج الذين شقوا صفوفه وأفسدوا عليه أمره، وكانوا شراً عليه من معاوية وجنده لأنهم كانوا مخطئين - كما رآهم - وعلى خطئهم مصرين.

فقد اقترنت شجاعته وقوته الجسدية بقوته الخلقية لثقته في نفسه واعتزازه بها، لأنها جزء من شجاعة الفارس، وهي الثقة المطلقة في صراحتها واستقامتها، لأن صاحبها لم يتكلف مداراتها، ولأنه لا بقصدها ولا بتعمد إيذائها لأنها كانت أصيلة في مدار هذا الخلق بعلي بن أبي طالب، لم تفارقه منذ حبا وتدرج، وقد تمكنت هذه الصفة فيه لطول مراسه في الفروسية، وزادها تمكيناً حسد الحاسدين ولجاجة المنكرين، وقد حملها من ميدان الشجاعة والقتال إلى ميدان العلم والتعليم حين كان يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مئة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعتها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رجالها).

ومن شواهد ذلك أنه قال للخارجين عليه يرمونه بالمروق: ( ما أعرف أحداً في هذه الأمة عبد الله بعد نبينا غيري).

عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين، ولما عتب عليه طلحة والزبير أنه ترك مشورتهما، قال: (نظرت إلى كتاب الله، وما وضع لنا وما أمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استن النبي (ص) فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشركما واخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما).

فكان الذين ينتظرون منه الاصطناع والمراضاة يخطؤون ما انتظروه لا سيما أرزاق رعاياه وحقوقهم التي اؤتمن عليها، وكان ملاك الأمر في أخلاقه أنه كان لا يتكلف إخفاء شيء، ولا يقبل التكلف حتى ما وجبه، فربما أفرط  أحدهم في مدحه والثناء عليه، وهو متهم عنده فلا يدعه يعلن له طويته ويقول له: ( أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك).

وكان إلى جانب ذلك صادقاً صريحاً، فما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة مخالفاً فيها الحق الصراح في سلمه وفي حربه، وبين أصحابه أو بين أعدائه، ولعله كان أحوج إلى المصانعة بين النصراء مما كان بين الأعداء، لأنهم أرهقوه باللجاجة واعنتوه بالخلاف، فما عدا معهم قول الصدق في شدة ولا رخاء حتى قال فيه أقرب الناس إليه: إنه رجل يعرف من الحرب شجاعتها ولا يعرف خدعتها، وقد صدق في تقواه وإيمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه، فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة الدنيا أو سبب دولة: (دنياكم عندي أزهد من عفطة عنز)، وكان وهو الخليفة يأكل الشعير الذي تطحنه امرأته بيدها، وفيه قال الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.

وقد أبى أن ينزل في القصر الأبيض في مدينة الكوفة إيثاراً للخصاص التي يسكنها الفقراء، وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام، وعلى زهده الشديد كانت فيه سماحة ينبسط فيها، وكان على قسط وافر من الفهم والذكاء والمشورة حتى قال: ( والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس).

هذه صفات تنتظم في نسق موصول، رجل حرّ وفارس شجاع، شجاع لأنه قوي، وصادق لأنه شجاع، وزاهد مستقيم لأنه صادق، ومثار للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضى والقبول والفوز، وأصدق الشهادات لهذا الإنسان النبيل الصادق أن الناس قد اثبتوا في حياته أجمل صفاته المثلى، وهي مفتاح شخصيته التي يمكن أن نسميها بـ ( آداب الفروسية عند العرب) بأجلى معانيها النبيلة

التي تشمل النخوة والأريحية وهي طبعاً في الإمام علي فطر عليه، وأدباً من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيها وتغذى به، وعادة من عادات الفروسية العملية التي يتعودها كل فارس شجاع، حتى بلغت به النخوة غايتها المثلى لا سيما معاملة الضعفاء من الرجال والنساء سواء، فلم ينس الشرف قط ليغتنم في عدوه الفرصة لمصلحته الشخصية، ولم يساوره الريب قط في الشرف، أصاب المقتل في عدوه مرات عدة، فلم يهتبل الفرصة السانحة بين يديه، لأنه أراد أن يغلب عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف، ففي موقعة صفين حاول جماعة معاوية أن يحولوا بين جماعة علي وبين مورد الماء – كما أسلفنا – فاقتحم أصحاب علي على طريق الماء امتلكوه، وحين حال جماعته دون سقيا الماء لجماعة معاوية صاح بهم، (ويحكم خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم، خلوا عنهم فإن الله عزّوجل نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم).

وهو لو أراد لهلك معظم جيش معاوية من العطش، وفي حرب البصرة لاحت له فرصة للفوز، فأبى أن يهتبلها واغضب أعوانه انصافاً لأعدائه لانه نهى أصحابه أن يسلبوا المال ويستبيحوا السبي وهو في رأيهم حلال فقالوا: (أتراه يحل لنا دماؤهم وتحرم علينا أموالهم؟)، فقال: إنما القوم أمثالكم من صفح عنا فهو منا ونحن منه ومن لج حتى يصاب فقتاله على الصدر والنحرة، وسنّ لهم سنة الفروسية، حين أوصاهم أن لا يقتلوا مدبراً...الخ، وأن لا يمدّوا يداً على مال لأنه مال اليتيم والأرامل.

هذه الروح الفروسية هي التي بغّضت إليه أن ينال أعداءه بالسباب والشتائم، وليس من دأب الفارس أن ينال أعداءه بغير الحسام، فلما سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم في صفين قال لهم: ( إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم أحوالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبهم لهم: ( اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به).

وحين طفق عمرو بن العاص ينعته بين أهل الشام بالهزل والدعابة، ويأمر بسبه على المنابر حتى وجب رده ودحض زعمه، فقال في بعض خطبه: ( عجباً لإبن النابغة، يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابة، وأني إمرؤ تلعابه أعافس وأمارس، لقد قال باطلاً ونطق آثماً، أما وشر القول الكذب، إنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلفها، ويُسأل فيبخل، ويخون العهد ويقطع الآل.. الخ.

وكان يجبه معاوية وغيره بنظائر هذه الكلمات حين يجترؤون عليه بما يغمطه من حقه ويقدح في دعوته، فلا يشذ عن ديدن الفرسان في روية فكره ولا في بوادر لسانه.

وتظهر شخصيته في أمور أخرى تجري مجراها فتتم الفروسية، منها: الفقه والنزوع إلى التصوف واستنباط حقائق الأمور، عدها بعض الناقدين خارج دائرة الفروسية على ظاهر ما قدروه.

ولكن التصوف والتجرد للحقيقة هو في معدنه جهاد في الحق وفي الله، لأن طبيعة الفروسية وطبيعة الجهاد من معدن واحد، ألا وهو مكارم الأخلاق، فقد عهدنا في كل ملة ومذهب وفي كل زمان فئات من الناس يجاهدون لأنهم متنطسون متدينون، أو يتدينون ويتنطسون لأنهم مجاهدون في سبيل الحق.

فالإمام علي (كرم) فارس عظيم وإنسان عظيم تتجلى فيه آداب الفروسية باجلى مظاهرها وروحها وأقصى أبعادها، فلم نجدها مكتملة في شخص غيره، ولا بدع أن اصبح إماماً للمقتدين من بعده لأنه التزم آدابها بكل دقة وأمانة وطبقها في حياته في العلن والباطن، لذلك كان القدوة لكثير من الشيع والفرق التي أتت بعده، وما شيعة الفتوة التي أسسها الخليفة الراضي والمستكفي إلا طريقاً من طرقه، وما آداب الفتوة إلا بعض آدابه حتى قيل فيه: لا فتى إلا علي، ولا سيف إلا ذو الفقار.

وما الذكرتيه الذين بقي منهم الكثيرون في أحيائنا القديمة وفي مدننا إلا إقتداء بسيرته وأخلاقه وآدابه.

وشخصية الإمام علي (كرم) في نهج البلاغة شخصية فذة، فارس شجاع ومؤمن ثائر، فهو رجل العقيدة القوية والإيمان الحي الذي تقوده العقيدة إلى القيام بجميع شعائر الدين وحمل الآخرين على اتباع هذا السبيل، وتقوده عقيدته الحية إلى الاستقامة، لا تعرف التواء ولا مواربة، بل تمضي في سبيل العدل والواجب من غير مراعاة للخواطر ولا محاباة للوجوه.

وفي الحقل الأدبي والأخلاقي كان علي (عليه السلام) مثالاً عالياً في الأخلاق والنزاهة والتجرد، جريئاً لا تأخذه في الحق لومة لائم، وفي الحرب والوغى، لا يخشى موتاً ولا يرهب عدواً، ولكن شجاعته لم تحجر قلبه ولم تقسّ نفسه، فكان رقيق العاطفة، عميقها، تظهر في مواقف كثيرة لا سيما عند وفاة زوجته فاطمة (كرم) إذ ظهر أن (حزنه سرمد وليله مسهد).

كان يكره الرياء ويحب الصراحة ويشجع على الحق، وقد انفض من حوله أقرب الناس إليه بسبب خصاله تلك وأخذوا يؤيدون معاوية، ففشل سياسياً وفاز معاوية بالخلافة لمداهنته (شعرة معاوية) الجميع، معتمداً على طبقة الأثرياء ودعم قريش التي كانت تحقد على بني هاشم.

لما توفي الرسول (ص) ولي الخلافة أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، فكان علي (عليه السلام) للجميع ظهراً ومعيناً، ومستشاراً وقاضياً، وفيق قال الخليفة عمر بن الخطاب في فتوى أخطأ فيها فصححها الإمام علي: لولا علي لهلك عمر.

في سنة 656م/35هـ بويع الإمام علي بالخلافة عقب مقتل الخليفة عثمان بن عفان، فبايعه الصحابة في المدينة، بينما أخذ معاوية بن أبي سفيان يؤلب الناس ومنهم بنو أمية عليه ويطالبه بقتلة عثمان، وانضمت إليهم عائشة زوجة الرسول وطلحة والزبير، فسار إليهم والتقاهم وكان النصر بجانبه، وسميت تلك الواقعة بـ (واقعة الجمل) لأن السيدة عائشة كانت راكبة على جملها تحرض الناس على قتال علي وجيشه، ولكنه زارها وأرسلها إلى المدينة معززة مكرمة.

وسار إلى محاربة معاوية في صفين (قرب الرقة حالياً) كاد يتغلب على معاوية لولا خدعة عمرو بن العاص برفع المصاحف، وأجبر الإمام على وقف القتال والتحكيم الذي انتهى بمأساة، فخُلع ولم يُخلع الإمام علي ولم يسقط معاوية، وعاد إلى الكوفة ليستعد لمنازلة معاوية من جديد، ولكن أحد الخوارج واسمه عبد الرحمن بن ملجم ضربه بسيف مسموم وهو في مسجد الكوفة عام 661م/40هـ مهراً لخطيبته التي قتل بعض أهلها في معركة النهروان وهم من الخوارج، ودفن في النجف الأشرف في العراق.

لم يعترف الناس بفضائل الإمام وعظمته إلا بعد مقتله، إن آثار مأساته ومأساة أولاده عبر التاريخ لا تزال حية في نفوس العرب والمسلمين تتجدد في كل عصر وتنعكس علي سياسة العالم العربي والإسلامي حتى يومنا هذا.

وتتجلى فضائل الإمام علي (عليه السلام) ومناقبه وزهده من الكثرة بحيث لا يستوعبه كلامنا هذا أو غيره من الكلام أو يبلغه أرب مسهب أو أطناب مطنب، فمن أهم الأشياء التي استحق بها الفضل والعبقرية: السبق إلى الإيمان، الهجرة، النصرة للرسول العربي والقربى منه، القناعة وبذل النفس، والعلم بالكتاب والتنزيل، والجهاد في سبيل الله، والورع والزهد، القضاء والحكم، الفقه والعلم، المؤاخاة لرسول الله، المناداة به يوم الغدير، إضافة لمسلكة الكلام ومعرفة بديهية بوسائل التعبير جمعت بين الطبع والصنعة معاً، ولغة عربية صقلها وليّنها العهد الجديد والحضارة والدين الجديد، مما أكسبه ثروة فكرية أدبية واسعة إلى جانب معرفة شيء من الفلسفة والماورائية والفقه، مما يجعل له محلاً رفيعاً في عالم الدين والأدب والاجتماع إضافة لميادين الحياة الأخرى العديدة التي عزّ وجودها في غيره.

نشأ الإمام علي (عليه السلام) على الحرية، حرية المعتقد فهو لم يتعبد للأصنام أو غيرها مما كان يعبد قومه، نشأ في حضن دار النبوة وفتح عينيه على مهيئات الرسالة، وبعد المبعث كان صاحب حرية الرأي في القول والعمل وظل ملتزماً بها حتى ساعة مقتله، فمن حرية الرأي بعض ما أوردناه سابقاً.

وحرية الرأي هي التي أبعدت عنه الخلافة حين طلب منه عبد الرحمن بن عوف أن يقول: بما معناه سأعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين أبي بكر وعمر.

فأجاب علي: سأعمل بكتاب الله وسنة رسوله واجتهاد الرأي.

وحين لامه طلحة والزبير على عدم الأخذ برأيهما أجابهما بما معناه: إنني لم أحتج لرأيكما ولا لرأي غيركما، ولو احتجت لذلك لفعلت. أنظر ص5 السطر الثاني.

وغير ذلك كثير مما لا تسعه هذه المقالة في حرية رأي الإمام، وهو ما سنفصله في كتابنا القادم (قيد التأليف) عن الإمام علي (كرم) إن أمد الله بعمري مما لم يكتب مثله عنه.

فيا أيها الإمام، أمير المؤمنين لا يسعني في الختام إلا أن أحييك بأجمل تحية قيلت في إنسان، السلام عليك يوم ولدت، ويوم مت، ويوم تبعث حياً.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

     دمشق في 7/7/2008م    

--------------------------------------------------------------------------------

الحرية عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

 

الشيخ عبد المجيد العصفور

بسم الله الرحمن الرحيم

 مدخل

أشار حكم قانوني يوم الجمعة الماضي (11/7/2008م)، إلى أن فرنسا رفضت منح الجنسية لامرأة مغربية منقبة على أساس أن مفاهيمها"المتشددة"للإسلام لا تتماشى مع المعايير الفرنسية الأساسية مثل المساواة بين الجنسين.

وذكرت صحيفة "لوموند"أن هذه المرة الأولى التي يرفض فيها طلب احد المسلمين لأسباب تتعلق بالممارسات الدينية الشخصية، حسب حكم أصدره مجلس الدولة الشهر الماضي، ومجلس الدولة هيئة قضائية لها  القول النهائي في النزاعات بين الأفراد والإدارة العامة،والمرأة متزوجة من فرنسي ووصلت إلى فرنسا عام 2000 وتتحدث الفرنسية بطلاقة ولها ثلاثة أبناء ولدوا في فرنسا.

هذه القضية ستشعل من جديد النقاش بشان كيفية التوفيق بين حرية الديانة التي ينص عليها الدستور الفرنسي، والحقوق الأساسية الأخرى التي يشعر الفرنسيون أن طريقة حياة بعض المسلمين لا تتماشى معها.

هذه قضية حديثة من قضايا الجدل الواسع الذي يدور عادة عن الحرية في الكثير من المجتمعات الإنسانية، أردتها أن تكون مدخلا لموضوعنا في هذه المحاضرة التي عنوانها"الحرية عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام".

تعتبر مشكلة الحرية من أقدم المشكلات الفلسفية وأدقها، فقد واجهت الباحثين من قديم الزمان، وما برحت تؤرق مفكري اليوم كما أرقت من قبل فلاسفة اليونان وغيرهم،ولا توجد مرحلة في الفكر البشري لم تطرح فيه مشكلة الحرية على بساط البحث،وتتحول إلى مشكلة عويصة تتباين فيها الآراء ووجهات النظر.

ومشكلة الحرية بالذات هي من أكثر المسائل الفلسفية اتصالا بالعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة، والوجود الإنساني برمته، فضلا عن صلتها الواضحة بمشاكل ما بعد الطبيعة على حد تعبير الفلاسفة.

 مفهوم الحرية

 عادة ما نعني بالحرية تلك الملكة الخاصة التي تميز الكائن البشري الناطق، من حيث هو موجود عاقل يصدر في لفعاله عن إرادته هو،لا عن أية إرادة أخرى غريبة عنه،وهي بحسب معناها الاشتقاقي انعدام القسر الخارجي،والإنسان الحر بهذا المعنى هو من لم يكن عبدا أو أسيرا.

وقد اصطلح التقليد الفلسفي على تعريف الحرية بأنها اختيار الفعل عن روية مع استطاعة عدم اختياره أو استطاعة اختيار ضده.

لكن الرجوع إلى المعاجم الفلسفية نجد فيها أن كلمة "حرية" تحتمل من المعني مالا حصر له، بحيث قد يكون من المستحيل أن نقبل تعريفا واحدا باعتباره تعريفا عاما يصدق على سائر صور الحرية.

وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم الحرية يتوقف كثيرا على الحد المقابل الذي تثيره في الأذهان هذه الكلمة، فقد تقابلها لفظة الضرورة أو الحتمية أو القضاء والقدر أو الطبيعة.

وحسب النظريات الفلسفية فان هناك أربعة مفهومات للحرية

1/حرية الاختيار القائمة على الإرادة المطلقة:

 أو حرية استواء الطرفين، وهذا النوع من الحرية هو الذي يتبادر إلى أذهاننا جميعا حين نتصور أننا أحرار.

2/الحرية الأخلاقية،أو حرية الاستقلال الذاتي:

وهذا النوع من الحرية هو  الذي فيه نصمم ونعمل بعد تدبر وروية بحيث تجئ أفعالنا وليدة معرفة وتأمل،فالفعل الحر بهذا المعنى هو الفعل الصادر عن روية وتدبر وتعقل.

3/حرية الحكيم أو حرية الكمال:

وهو وثيق الصلة بالنوع السابق ولكنه ذو طابع معياري مثالي، يجعله أكثر سموا وشرفا، وحرية الكمال هي الصفة التي تميز ذلك الحكيم الذي استطاع أن يتحرر من كل شر، ومن كل كراهية ومن كل رغبة، حرية التحرر من عبودية الأهواء والغرائز والجهل.

4/الحرية السيكولوجية أو النفسية:

وهي حرية الفعل التلقائي الذي يعبر عن شخصياتنا، منبعثا من أعمق أعماق ذاتنا، ويذهب أنصار هذا الرأي مثل برجسون وفوبيه إلى أن الحرية تقوم على فكرة العمومية الشعورية، وهنا الحرية تكون بمثابة تلقائية روحية تعبر عن قدرتنا على الخلق أو الإبداع.

أقوال الإمام علي عن الحرية

قال علي عليه السلام:"أيها الناس إن ادم لم يلد عبدا ولا امة وان الناس كلهم أحرار.."

وقال عليه السلام أيضا:"لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا"

وقال سلام الله عليه:"لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حرا"

ويقول أيضا:"الحر حر ولو مسه الضر، والعبد عبد وان ساعده القدر"

ويقول صلوات الله وسلامه عليه:"الحرية منزهة من الغل والمكر"

ويقول أيضا:"من ترك الشهوات كان حرا"

ويقول أيضا:"العبد حر إن قنع، الحر عبد ما طمع"

ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام:"من قام بشرائط الحرية أهل للعتق، ومن قصر عن أحكام الحرية أعيد للرق"

ويقول أيضا:"من زهد في الدنيا اعتق نفسه وأرضى ربه"

ويقول عليه السلام:"من أوحش الناس تبرأ من الحرية"

 ويمكن لنا من خلال هذه الأقوال الشريفة للإمام علي عليه السلام أن نكشف عن رؤيته في مسالة الحرية، والتي ترينا أنها متقدمة على ما ذكره الفلاسفة وتنظر إلى أبعاد لم ينظروا إليها:

1/الحرية اصل إنساني، فكل إنسان يولد حرا، وهو ما يستدعي عدم التسلط عليه وإلغاء إرادته، وهذا اصل يدين كل أشكال الاستبداد والاستعباد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويمكن لنا من خلال هذا الأصل التأكيد على أن تفجير الطاقات الكامنة بداخل الإنسان تعتمد بشكل كبير على عودته لأصل خلقه وهو حر كريم، فكلما تمتع الإنسان بحرية في ممارسه أنشطته وفاعلياته في هذه الحياة كلما زادت قدرته على الإبداع، على العكس من ذلك فان التسلط عليه يفقده - بنسبة التسلط -القدرة على الإبداع، وهذا ما هو واضح لكل ذي عينين اليوم، ونحن نرى الأثر الواضح لهذا القانون الإنساني على مختلف الشعوب.

2/أنت من يقرر حرية نفسك وليس الآخرون، ودائما ستجد في الحياة من يسعى للنيل من حريتك ولو بنسبة، لذلك عليك أنت قبل غير أن تنتبه لهذه الحرية، وان تقرر أنت ماذا تريد وكيف تريد،ومع من تحقق ما تريد،وهنا لنا أن نتفق مع جورج جرداق،في تعرضه للفرق بين كلمة الإمام علي عليه السلام:"لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا"وكلمة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب التي يقول فيها:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارأ"حيث أن الإمام وجه كلمته مباشرة للإنسان بينما الثانية وجه فيها الخطاب لمن يسلب الحرية من الآخرين،وفي حالة استرداد الحرية لا يمكن أن تحدث إلا إذا قرر الإنسان نفسه ذلك،أما الآخرون فهم لا يهبون للناس حرية ولا يقدرون على سلبها منهم،إذا لم يريد الناس أنفسهم.

3/ليس الآخرون فقط هم الذين يمكن لهم استنقاص حرية الإنسان، بل الإنسان نفسه قد يعمل على استنقاص حريته، وذلك حين يتبع الرغبات النفسية الغير سوية كالطمع والجشع، والتكبر، أو الأمراض النفسية، والتي منها الغل والمكر، بل أن الانسان قد يكون عبدا حقيرا لشهوته، فتراه يستسلم لها ويترك اثمن ما أعطاه الله سبحانه وتعالى.

4/إن الحرية بحاجة إلى برنامج صارم يفرضه الانسان على نفسه، لان الطبيعة الأولى للنفس قد تقوده إلى الجهل والجهل استنقاص للحرية، أو قد تقوده لإتباع الشهوات وهو استنقاص للحرية أيضا، أو قد تقوده للظلم والتعدي على حقوق الآخرين وهو أيضا استنقاص للحرية،بل يفهم من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام،أن البعض من الناس يمكن لنا تقدير درجة الحرية عندهم من خلال سلوكهم الظاهري"من أوحش الناس  تبرأ من الحرية"

5/هناك علاقة بين الحرية والعبادة، بل أن العبادة الحقة والخضوع لله سبحانه وتعالى من صميم الحرية، ففي الوارد عن أمير المؤمنين(ع) انه قال:"الهي ما عبدتك إذ عبدك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك وإنما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك"

والرواية في ألفاظ أخرى، عن علي عليه السلام أو عن احد أولاده:"أن قوما عبدوا الله خوفا من ناره فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله طمعا في جنته فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله معرفة له فتلك عبادة الأحرار"

وهذا ما يكشف لنا أن الإمام سلام الله عليه يرى أن قمة الحرية تتمثل في قمة العبودية لله سبحانه وتعالى.

الحرية الدينية

  يقول تعالى:"الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات و الأرض و لا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم،لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم،الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون"

في سياق آيات عظيمة تؤكد عظمة الله و مالكيته للكون، وكونه حيا قيوما، لا يغفل للحظة زمن، مع تأكيد على مصير المؤمنين النير، ومصير الكافرين المظلم، يؤكد سبحانه وتعالى على مبدأ الحرية الدينية.

"لا إكراه في الدين"

وهذا إعلان صريح وواضح من حرية الاعتقاد، يقول العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية:"لا إكراه في الدين": ان كانت قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين، انتج حكما دينيا ينفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وان كان حكما إنشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله "قد تبين الرشد من الغي" كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد و الإيمان كرها، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، وهي.. ان الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية. الميزان ج2ص342.

وقد جاء في أسباب نزول هذه الآية،روايتان:

1/كانت النضير أرضعت رجالا من الاوس، فلما أمر النبي(ص) بإجلائهم قال أبناؤهم من الاوس:لنذهبن ولندين دينهم، فمنعهم أهلوهم واكرهوهم على الاسلام، ففيهم نزلت هذه الآية.

2/نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي (ص) ألا استكرههما فانهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فانزل الله فيه ذلك.

و إننا نرى ان التعبير القرآني جاء في صورة النفي المطلق للإكراه، وهو ما يسميه النحويون بنفي الجنس، نفي جنس الإكراه، أي نوع من الإكراه، وهو اعمق إيقاعا و أكد دلالة.

كما ان هنالك آيات أخرى تعزز الحرية الدينية بصف هذه الآية:

يقول تعالى:"انا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا"

"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" يونس/99.

ويقول تعالى أيضا:

"فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" الغاشية /21،22

"وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" الكهف /29

ويقول أيضا:

"نحن اعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد"

إذن..اذا الله سبحانه وتعالى يجعل الناس أحرارا في اختيار الإيمان به، أترى يرضى لهم بعد ذلك ان يكونوا غير أحرار في دنياهم، كأن يكونوا اسراء لإنسان ما أو فكرة ما أو ظرف ما؟

ان روح الدين تؤكد ان الإنسان حر في اختيار الدين وهو اكثر حرية حينما يصبح متدينا، بل ان الدين يعالج انحراف مدعي التدين بدعوته للعودة للحرية. وهذا يعني بشكل واضح ان الإنسان حينما يختار حريته فانه لن يرى حريته خلاف الحق، والدين لا يجانب الحق، بل يدعوا إليه.

ان الكثير من تمددات الاختلافات في واقعنا وتحولها الى صراعات شرسة، راجعة بالدرجة الأولى لتنازل قطيع من الناس عن حرياتهم، و إعطاء عقولهم إجازة في قبال الانقياد لفكرة ما أو إنسان ما أو رغبة ما، ولربما لم تكن الفكرة أو الإنسان أو حتى الرغبة، تروم هذا التضخم من الاختلاف وتحوله الى صراع مرير.

يقول الإمام علي عليه السلام:

"إنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أقوال تتبع فيتبع رجال رجالا.."

وهنا سؤال يفرض نفسه، ما الذي يجعل الإنسان يتنازل عن حريته؟

والجواب: قد يتنازل الإنسان عن حريته، طلبا لخير يرغب فيه أو درأ لشر يخاف منه، فقد يرغب الإنسان في مال أو جاه أو سلطان أو حماية، وقد يخاف فقدان شيء من ذلك أو حتى فقدان حياته.

جيء بامرأة للخليفة الثاني عمر ابن الحطاب شهد عليها جماعة بالزنى و أراد إقامة الحد عليها لكنها طلبت الاستئناف وان يقضي في أمرها الإمام علي عليه السلام، ولما وقفت بين يديه أخبرته أنها تاهت في الصحراء وكاد العطش ان يقضي عليها فاستسقت الفاعل ماء لكنه أبى إلا ان تمكنه من نفسها فرفضت حتى أشرفت على الموت، حينها وافقت على شرطه. فاستثناها الإمام علي عليه السلام من الحد، ورأى أنها ممن تنطبق عليه حالة الاضطرار.

قد يضطر الإنسان للتنازل عن حريته لبعض الوقت، للحفاظ على ما هو أهم منها وهي الحياة، وسوى ذلك لاشيء اثمن بالنسبة للإنسان من حريته.

ومن أسوء حالات التنازل عن الحرية، هروب المرء من تقرير علاقاته مع الناس و الأفكار والرغبات بنفسه، و ايكال تلك المهمة لآخرين أو للظروف، وهذه الحالة بالذات هي ما نعانيه في أوساطنا.

وان العلاج الأنجع للعودة للحق والخروج من شرنقة الاختلافات، العودة للحرية، فطالما كان الإنسان أسيرا فانه لن يستطيع التوصل للحقيقة. ألم يقل أبو عبد الله الحسين عليه السلام لأعدائه ظهر عاشوراء وبعد ان رأى ان القوم لا يعرفون الدين الذي يعرفه:

"ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم"

ذلك لان الحرية تأبى على صاحبها ان يكون بصف الباطل.

هنا قد يبدر سؤال أخر، اذا كان الإنسان حرا، أفلا يتناقض ذلك مع الخضوع لأية قيادة بما في ذلك القيادة الدينية المتمثلة في النبي أو الإمام المعصوم أو الإمام الفقيه؟

والحق ان الإنسان حر في اختيار الدين الذي يؤمن به، وحينما يختار الدين الذي جاء من الله "الاسلام" فانه بحريته اختار طريقة الخضوع، فتصبح حريته في خضوعه لا تمرده، بلى هو رقيب على القيادة التي يتبعها في قيادته في خط الولاية لله.

--------------------------------------------------------------------------------

صيانة الحريات في حكومة الإمام علي عليه السلام

الأستاذ نبيل محسن

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أولاً: مقدمة: لا نعلم حاكماً في التاريخ زهد هذا الزهد كله، حتى رأى في نعله البالية خيراً من الأمارة، وسعى الناس إليه يحملونه إليها حملاً، إلا ما كان من أمر الإمام علي عليه السلام وحكومته، أليست الإمارة في ذاتها جزءاً من دنياه التي كان يراها أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها؟ وما عسى أن يكون لهذه الورقة من قيمة لو دامت وبقيت؟ فكيف وهي توشك أن تقضم في الفم الشره؟ وهل قصرت بلاغة الإمام في رسم صورتها ( الفنية) للتبشيع والتنفير منها حين قال إنها أهون في عينه من عراق خنزير في يد مجذوم؟ وهل سيجد بعد ذلك قيمة لشيء من زادها إلا التقوى؟ ماذا نقول لرجل أعطاه الله تعالى قلباً وعينين يرى بهما الدنيا عارية بحقيقتها لفظاً ومعنىً؟ أبداً، لن يكون لهذا السجين عشق إلا الإنعتاق من أسرها، والتخفف من إصرها، والتوحد بلذيذ مناجاة الله، والشوق إلى لقياه، حتى يكون كما عبّر: آنس بالموت من الطفل بثدي أمه. إنه الإمام الذي زم نفسه بزمامها وألجمها بلجامها، وأقسم أنه سيروضها برياضة التقوى حتى تهش إلى القرص مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً. ولن يشغله هذا الزهد كله – مع ذلك – من أن يجعل حركة حياته حرباً على الظالم، ونصفاً للمظلوم، وأن تكون حرية الإنسان وكرامته أسمى أهداف حكومته.

ثانياً: حكومة الإمام عليه السلام وإعلان المبادئ:

وخطب علي في الناس ليعلن مبادئ حكمه، فقال: ( أيها الناس، إن لي عليكم حقاً، ولكم عليّ حق، فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم  عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم.

إن المبادئ الأربعة التي أعلنها الإمام من حقوق الناس هي:

النصيحة – توفير الفئ (المال) – التعليم – التربية.

تشكل بحق أسس المجتمع الصالح الراشد.

إننا نرى أن هذه المبادئ هي التي تؤسس للحرية الإنسانية، فلا معنى للحرية بغير نصيحة، ولا بحال لها مع الظلم والإفقار، ولا ثمرة لها بغير تعليم وتربية.

ويؤكد في خطبة أخرى واجباته في مقام الإمامة بالقول: ( إنه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه، الإبلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والإحياء للسنة، وإقامة الحدود على مستحقيها، وإصدار السهمان على أهلها).

وفي تأكيده على أهمية العدالة الإنسانية أقسم أمام الناس: ( وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً).

ويلقي بهذه الوصية في آخر يوم من أيام دنياه إلى ولديه الحسن والحسين، قائلاً لهما: كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.

ولا تعجب من مساحة الحرية التي تمتع بها الناس على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم في حكومة علي عليه السلام، فإنها وبكل وضوح وبساطة ثمرة القيود الشرعية التي قيد بها نفسه، ونتاج إخلاصه لمدرسة الإسلام ومعلمها الأول رسول الرحمة المهداة صلوات الله عليه.

ثالثاً: مناخ للحريات:

على توفير مناخ الحريات الإنسانية عامة عبر خطبه ووصاياه وكتبه. ومن ذلك قوله في خطاب عام للناس: ( لا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا عندي بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ).

وفحوى هذا الكلام العربي المبين أن يرتفع الحرج والتكليف والخوف والمداراة في خطاب الرعية للحاكم، الذي يعلن لهم أنه لن يجد شيئاً من قول الحق ثقيلاً، ولا من فعله، ثم يأمرهم بقول ما يرونه حقاً، وتقديم ما يعتقدونه من الشورى عدلاً، ويقرر بهذا اللسان المبين الذي لا يقبل التأويل أنه بحاجة ذلك القول وتلك الشورى، فهو ليس في نفسه بفوق أن يخطئ، ولا يأمن ذلك من فعله، إلا أن يكفي الله ما هو أملك به.

ويعلم رعيته أن لهم عليه مثل ما له عليهم، وأن أعظم الحقوق هذا الحق المتبادل بين الوالي والرعية.

وكتب في وصيته للأشتر: ( أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يصح لك).

وفي هذا الكتاب للأشتر يأمره أن يجعل لذوي الحاجات مجلساً يكون آية التواضع والرحمة ومنه: ( واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غيري موطن: ( لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع) ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف)

إننا ندرك أن حرية التعبير والتظلم قد تكون متاحة من الناحية النظرية، وكم ادعى الحكام الظلمة عبر التاريخ ويدعون أن لشعوبهم حرية التعبير والتفكير والتظلم والشكوى والنقد، ولكن أنى يكون ذلك؟ وسحائب الخوف تظلل الرؤوس، وذهب الحاكم تميل إليه النفوس، فتخرس الألسنة رغباً أو رهباً.

أما علي فلم يكن عنده ترهيب ولا ترغيب للناس من أجل موالاته ونصرته وطاعته، فكم سيبقى معه ممن أخلص النصر، وانتظر من الله الأجر؟

وأورد ابن أبي الحديد في شرح النهج أن أمير المؤمنين كان له بيت مساه بيت القصص، يلقي الناس فيه رقاعهم، ولعله مرادف لما يعرف اليوم بصندوق الشكاوى.

رابعاً: صور من الحريات في خلافة أمير المؤمنين عليه السلام:

1-   حرية البيعة:

ما أكره الإمام أحداً على بيعته، بل لو جاز لقلنا إن الناس أكرهته على الإمارة، كما وصف الحال بقوله: (بسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها.......................................... العليل وحسرت إليها الكعاب).

وأكد هذه الحقيقة في رسالته إلى أهل الكوفة: (بايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيرين).

ثم نكث البيعة من نكث، فكان الإمام يغض الطرف عنهم ولم يشهر سيفاً ولم يبرز عنفاً، حتى ألبوا عليه، وجيشوا الجيوش، ورموه بما لم تجن يده ولا لسانه، في أسوأ استثمار لأجواء الحرية التي نعم بها أعدؤه ومخالفوه، كما نعم بها أقرب الناس إليه.

ولم يحاول الإمام أن يحد من حرية طلحة والزبير بعد أن بدت أمارات الغدر والنكث، حتى تعللا بالعمرة، وذهبا بكل حرية ليعودا قائدين لجيش يحاربه، ووصف ذلك بقوله: (وأبرزا حبيس رسول الله في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعاً غير مكره)

وأخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل، وكان قد بايع الإمام ثم نكث مع الناكثين وحاربه، فاستشفع الحسن والحسين، فكلماه فيه فخلى سبيله، ولم تستبد به شهوة الانتقام من رجل كان رأس الفتنة، وبطانة السوء في حكم الخليفة عثمان، ولم يقبل بيعته بعد النكث، وقال لولديه: ( لا حاجة لي في بيعته، إنها كف يهودية).

وخرج عليه خوارج من جيشه، وكفروه، ودعوا إلى قتله، وكانوا يروحون ويجيئون بين أصحابه الموالين، فلم يكن للإمام لغة معهم إلا الموعظة والنصيحة، ورجعت طائفة منهم إلى الجادة كما أحب ورجا.

وقام معاوية في الشام ليشعل حرباً ضروساً على الخلافة الشرعية، وليقتل فيها مئات من أصحاب رسول الله، ومنهم ثلاثة وستون شهيداً بسيوف معاوية من أصحاب بيعة الرضوان وحدها، كما يذكر أرباب السير.

وكانت سياسة الإمام العامة ما عبر عنه في أحد كتبه إلى جنده بشأن القتال: ( لا تبدؤوهم حتى يبدؤوكم).

وجاء كذلك في كتابه إلى معقل بن قيس حين أنفذه إلى الشام: ( لا تقاتلن إلا من قاتلك، ولا تدن من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس، حتى يأتيك أمري، ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم الإعذار إليهم).

بهذا الشعار هو الذي جعل حرب الإمام مع أهل القبلة دفاعية مئة بالمئة، ويعني أن الذي كان يشعل فتيل الحرب في كل مرة هم خصوم علي، ولولا ذلك لم يكن في التاريخ شيء اسمه وقعة الجمل ولا النهروان ولا صفين.

وقد ذكر أنه قلب الأمر من جميع وجوهه، حتى منعه ذلك من النوم، فما وجد خياراً إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وسبب له هذا التريث أن اتهمه بعض أصحابه بكراهية القتال، أو الشك في مشروعية القتال نفسه، حتى خطب فيه قائلاً: ( أما قولكم: أكل ذلك كراهية الموت؟ فوالله ما أبالي، أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إلي، وأما قولكم شكاً في أهل الشام! فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها).

هذا الحب العظيم هو الذي غلف سلم الإمام وحربه، وهو الذي جعل الرغبة في إنقاذ الغريق الآثم أكبر من شهوة قتله وإسلامه إلى عمله.

2-   حرية القتال:

ولم يكن عند علي تجنيد إجباري للحرب، ولم يفعل إلا ما فعله رسول الله من تحريض المؤمنين على القتال، والترغيب بأجر الآخرة، والزهادة فيمن زهد في هذه الفريضة.

وخطبته في فضل الجهاد التي يقول في أولها: ( إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه) أشهر من أن تعرف.

وكم شكا من تقاعس أصحابه، في حرب مصيرية بين نهج الإسلام ونهج الجاهلية، بين نظام الشورى وولاية العهد، بين مرجعية الإسلام ومرجعية كسرى وقيصر.

ومع كل هذا الخطر لهذه المواجهة، إلا أن الإمام لم يسلك سبيل الإكراه، وكان بنص كلامه يداري أصحابه، ويغضي على الأذى، ويصبر على أمر من طعم العلقم، وآلم للقلب من حز الشفار، وهذا (نهج البلاغة) ما تزال مواجعه واجفة، وجراحه نازفة، يعج إلى الله من تفرق عن الحق، أو اجتماع على الباطل.

وكيف لا تسهر عيناه ويعصر الألم قلبه وهو يعلم علم اليقين أن سنن الله لا تتخلف في خلقه، وأن التخاذل عن الحق لا يعقب إلا الهزيمة، لنستمع إليه يقول لأصحابه وهو يقرر هذه الحقيقة المحزنة التي يماري فيها بعض جهلة المسلمين إلى الآن: ( أما والذي نفسي بيد ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقي).

وقوله: ( إني والله لأظن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفركم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم، وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم).

وما لجفنه لا يؤرق وهذه حاله مع صحبه:

(منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، أقوم فيكم مستصرخاً، وأناديكم متغوثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثار، ولا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر..).

وكان من عواقب هذه المساءة أن يغير جند معاوية على أطراف البلاد، ويحتلوا بعض الأمصار، ويغتالوا قادة وولاة الإمام، ومنهم محمد بن أبي بكر، حيث صور الموقف في رسالته إلى ابن عباس قائلاً: (وقد كنت حثثت الناس على لحاقه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة، ودعوتهم سراً وجهراً وعوداً وبدءاً، فمنهم الأتي كارهاً، ومنهم المعتل كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً...).

وكانت الأخبار ترده من أمرائه بتكاسل الناس وتهربهم من الجهاد، فلا يزيد على أن يقول كما جاء في أحد كتبه: ( استغن بمن انقاد معك عمن تقاعس عنك، فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده، وقعوده أغنى من نهوضه).

وهو مشتق من أدب لقرآن وتوجيهه، حيث قال حكاية عن المنافقين: ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً).

ومن قوله في تعليم رسوله: ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم استأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين).

إنها حقاً رسالة السماء التي تجعل المنع من المشاركة في القتال عقوبة تجعل صاحبها مهان الجانب، هملاً ملقى كأنه من سقط المتاع.

ويبدو أن جهود الإمام كانت تفلح في استنهاض الهمم لدى أصحابه أحياناً، ولم يكن الموقف القتالي على سوية واحدة، وقد عبر الإمام عن رضاه في بعض المواقف عن تصديهم لجند معاوية، حيث يقول في كلام لهم: ( ولقد شفى وحاوح صدري أن رأيتكم بأخرة تحوزونهم كما حازوكم، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم، حساً بالنصال، وشحراً بالرماح، تركب أولاهم أخراهم كالإبل الهيم المطرود).

وهذا ما ألجأ أهل الشام إلى خدعة التحكيم، بعدما مالت كفة النصر إلى جيش علي، كان الموقف حاسماً، فقد كان في أصحاب الإمام من يريد المسالمة والراحة، فاضطروه إلى وقف القتال، وأقر أمر الحكومة مكرهاً، حتى وصف ذلك بقوله: ( كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً فأصبحت اليوم منهياً، وقد أحببتم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون).

لقد أمروه بالتحكيم، ثم نهوه عنه، حيث تبينت المكيدة، وعرفوا خطأهم، ولم يكتفوا بذلك بل أرادوا منه أن يشهد على نفسه بالكفر، ثم يعلن توبته، بل إسلامه من جديد!!

3-   حرية الولاء والبراء:

حين انشق الخوارج عن جيش الإمام في وقت حاسم كان يمكن أن يتغير معه مجرى التاريخ الإسلامي كله، ووجهوا سيوفهم إلى الجبهة الشرعية، حققوا لمعاوية أعظم ما تمنى في نومه فرآه يقظة، مقتل الإمام علي عليه السلام وانفراط عقد جيشه.

كان الخوارج يقولون في علي ما شاؤوا، وهم ينعمون بالحرية، وهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، إنه شيعته السابقون، وهم وإن كفروه في التحكيم، يعلمون حقاً ما تنطوي عليه نفسه من خلق عظيم، وقد عاد منهم من عاد إلى طاعته وولايته بعدما بصرهم، وأزال الشبهة من نفوسهم.

وجلس خارجي بين أصحاب علي يستمع معهم إلى بلاغة خطابه، ولم يلبث هذا الخارجي أن قال بالفم الملآن يعبر عن إعجابه بطريقته: قاتله الله كافراً ما أفقهه!

ويثب أصحاب الإمام ليقتلوه، إلا أنه يمنعهم ويقول: رويداً إنما هو سب بسب، أو عفو عن ذنب.

وبلغه أن ابن عباس عامله على البصرة يسيء معاملة بني تميم الذين وقفوا ضده في حرب الجمل، وربما حسب ابن عباس أن الغلظة على هؤلاء تشفي غيظ الإمام وغيظه، إلى أن الإمام أرسل برسالة عتاب ولوم لعامله قال فيها: ( وقد بلغني تنمرك لبني تميم، وغلظتك عليهم، وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر، وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام، وإن لهم بنا رحماً ماسة، وقرابة خاصة، نحن مأجورون على صلتها، ومأزورون على قطيعتها، فاربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر! فإنا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك).

يحق لنا أن نعجب ولكنها أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله إذ دخل مكة فاتحاً، وقال لأهلها: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

وهاهو تلميذه النجيب يوصي بأعدائه، ويذكر لهم فضائل في هذا المقام الذي تطمس الخصوم بعضهم فضائل بعض، ولا تطفو على السطح إلا سيئات الآخر، ولا ينسى الإمام تذكير ابن عباس بأن لبني تميم رحماً وقرابة، وأن عداوتهم له لا تسقط أجر الصلة ولا تمحو إثم القطيعة، فأي أخلاق!

وليت الحكام الذين ابتليت بهم الأمة تأسوا بشيء من هذه السيرة، فإن الحاكم الذي يوطد ملكه منهم كن ينصب همه لاستئصال أعداء الأمس، ومحوهم بالكلية من خارطة الدولة، ومن ناصرهم أو عطفته عليهم عاطفة.

وكان رجال يتركون ولاء الإمام ويفروه إلى معاوية بالشام لأسباب ذكرها الإمام في كتابه إلى سهل بن حنيف عامله على المدينة، حيث قال له: (بلغني أن رجالاً ممن قبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم، فكفى لهم غياً، ولك منهم شافياً، فرارهم من الهدى والحق، وإيضاعهم إلى العمى والجهل، وإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون إليها، وقد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعرفوا أن الناس عندنا في الحق أسوة، فهربوا إلى الأثرة، فبعداً لهم وسحقاً!! إنهم والله لم يفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل).

ولم يقل أحد من المتسللين إلى معاوية أنه فر من الظلم ولحق بالعدل، ولكن الحق ثقيل عند الناس في حكومة الإمام، فمع فضاء الحرية الواسع، لا تسامح في حدود الله، ولا تنازل عن حقوق الناس، ولا تصرف في بيت المال إلا من جهة الاستحقاق الشرعي، والعدالة الاجتماعية، وقد عوتب الإمام على التسوية في العطاء، فقال: ( لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف؟ وإنما المال مال الله).

وعند أكثر هؤلاء كان ولاء لعاجل الحطام، ونفساً ضعفت عن تحمل ضريبة الحق، وجاءه الحارث بن حوط ليعلن رأيه المعارض، قائلاً: أتراني أظن أن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ ولم يكن رد الإمام بذكر فضائله ومنزلته ووجوب طاعته، بل كان فحواه قاعدة شرعية عقلية عامة: اعرف الحق تعرف أهله.

لكن الحارث لا يريد أن يتعب نفسه في معرفة الحق أولاً، لأن ذلك يتطلب جهداً عقلياً في دراسة بدء الحدث وتطوره، وعرضه من ثم على أحكام القرآن، وحلاله وحرامه، ولو فعل ذلك لسمع الله تعالى يقول: ( فقاتلوا التي تبغي)، ولا يقول: ( اعتزلوا الطائفتين، كما اختار أن يفعل، ولم يحل الإمام بينه وبين اختياره.

4-   حرية في أداء الزكاة:

قد يتمكن حاكم من تحصيل المال قهراً وعنفاً من بعض رعيته، ولكنها لن تكون زكاة في جوهرها وأجرها، إذ لا أجر في الإكراه، كما تفقد بعدها الإنساني في تأليف قلوب الأغنياء والفقراء بعضها ببعض، وتصبح علاقة الحاكم بالمحكوم غلاً وحقداً، هذا إذا تمكن الجباة من تتبع حركة المال ونموه عند صاحبه، وخاصة مع اتساع رقعة الدولة، وتحول المال إلى صور مختلفة من النقد، وتعدد مجالات الصرف، واختلاف المذاهب في بعض موارد الزكاة أو الخمس.

إن الإكراه لا يؤسس تربية إسلامية في المجتمع، وهو قبل كل شيء مخالف لقاعة قرآنية عامة، (لا إكراه في الدين) لا يملك الحاكم أن يضع لها شيئاً من الاستثناءات، وكيف واتساقاً مع هذه القواعد، أقام الإمام نظام الزكاة في حكومته، وأبلغه إلى موظفيه على الصدقات، ولا مجال لإيراد نصوص وصاياه في ذلك لطولها، ولكن البعض يشي بالكل، جاء في إحداها: ( ولا تروعن مسلماً ولا تجتازن عليه كارهاً)، ثم أوصاه أن يلقي صاحب المال بما وسعه من اللطف والتهذيب، وأن يسأله الزكاة بهذا الأسلوب: (عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق، فتؤدوه إلى وليه، فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم، فانطلق معه من غير أن تخيفه أو  توعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل، فلا تدخلها إلا بإذنه).

هكذا وبوضوح وحسم، إذا قال صاحب المال: لا، فلا مناقشة مع رده، ولا مراجعة لقراره، ولا تحقيق في صدق قوله، ولا تتبع لحركة ماله وما انطوت عليه خزائنه، صاحب المال هو المرجع في وجوب الزكاة أو عدمه، وإن أدى الزكاة طائعاً فهو المنعم وهو المحسن، ولا يدخل على شيء من ملكه إلا بإذنه.

ومن كتاب له إلى عماله على الخراج: ( ولا تضربن أحداً سوطاً لمكان درهم، ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يعدي به على أهل الإسلام).

وهذا هو الحد الذي تقف عنده الحريات في حكومته: أن تلامس هذه الحريات حقوق الناس وتلحق بهم بالظلم.

5-   الحرية الفكرية:

لا يدخل في حيز التصور ولا التصديق أن يكون هذا الرجل الرباني الذي طالما تعرض لمن حضره من المسلمين يقوله الشهير: سلوني، ممن يحجر على الفكر، ويضيق ذرعاً بالسؤال، رغم أن من أشعلوا الحرب ضده لم يمكنوه من أن تثني له الوسادة.

لم يكن حرج على من شاء أن يسأل عما يشاء، فقد سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: أفأعبد ما لا أرى؟ قال: كيف تراه؟ قال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان..... الخ الكلام.

وكان في أصحابه من يدعي علم النجوم فنصح الإمام ألا يسير في وقت مسيره إلى أعدائه، وخوفه من الفشل، فاكتفى الإمام بوعظه وإرشاده ولم ينكل به، بل كشف أمام بقية الأصحاب عن عدم فائدة هذا العلم، وأن المنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر... ولم يأخذه بعقوبة، ولم يخرجه من أصحابه.

وقام من  أصحابه رجل آخر، فسأل مشككاً بحكمة قراره فيما يتعلق بالحكومة: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أي الأمرين أرشد؟ فبين عليه السلام حقيقة الموقف، وأنه ما أراد الحكومة ولا أمر بها، ولكنه أجاب رغبة أصحابه مكرهاً مع علمه بالمكيدة قبل تبينها لهم.

وظن بعض أصحابه به كراهة للقتال، أو الشك فيه حين استبطؤوه، فأصحر لهم بالعذر، وشرح الأمر.

وروي ابن عساكر: لما قدم علي من صفين قام إليه شيخ من أصحابه فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن مسيرنا إلى أهل الشام بقضاء الله وقدر؟ فقال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما قطعنا وادياً ولا علونا تلعة إلا بقضاء وقدر، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي، فقال علي: ولم؟ بل عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم مصعدون وفي منحدركم وأنتم منحدرون، وما كنتم في شيء من أموركم مكرهين، ولا إليها مضطرين.

فقال الشيخ: وقدراً حاتماً، لو كان ذلك لسقط الوعد والوعيد، ولبطل الثواب والعقاب، ولا أتت لائمة من الله لمذنب، ولا محمدة من الله لمحسن، ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب، ذلك مقال إخوان عبدة الأوثان وجنود الشيطان.. ثم قرأ علي: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه )، فقال الشيخ تلقاء وجهه ثم قال:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

 يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

 جزاك ربك عنا فيه إحسانا

لقد زالت الشبهة من نفسه بالحجة، لا بالتهديد والتكفير والنطع والسيف، كما أصبحت لغة الحوار بعد علي.

وقال له بعض اليهود: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه، فأجابه: ( إنما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لا إلهاً كما لهم آلهة، فقال: إنكم قوم تجهلون.

والخلاصة في ذلك أن الإمام قد نصب نفسه لتعليم الناس لا لزجرهم عن العلم، لأنه لا حرية بلا علم، ولا علم بلا حرية.

6-   لا إكراه في العمل:

وبالرغم من تعظيم الإمام للعمل، وعلمه بقيمته في الدين والدنيا، وكونه قدوة في الكد والكدح، وقد استخرج بيديه عيوناً في المدينة وينبع وسويعة، وأحيا بها مواتاً كثيرة، وأخرجها من ملكه، وزرع بيديه آلافاً من فسائل النخل، وتصدق بدار له بالمدينة، وبالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل بعدما استخرج ماءهما بكد يده، إلا أنه لم يكره أحداً في حكومته على أداء عمل...

ومن شواهد ذلك ما رواه البلاذري في أنساب الأشراف أن قوماً من الكوفة جاؤوه يسألونه أن يأمر عامله على الكوفة ليكلف الناس بحفر نهر يعود خيره على البلاد، فكتب الإمام إليه: ( أما بعد فإن قوماً من أهل عملك أتوني فذكروا أن لهم نهراً قد عفا ودرس، وأنهم إن حفروه واستخرجوه عمرت بلادهم، وقووا على خراجهم، وزاد فيء المسلمين قبلهم، وسألوني في الكتاب إليك لتأخذهم بعمله وتجمعهم لحفره والإنفاق عليه، ولست أرى أن أجبر أحداً على عمل يكرهه، فادعهم إليك فإن كان الأمر في النهر على ما وصفوا فمن أحب أن يعمل فمره بالعمل، والنهر لمن عمله دون كرهه، ولأن يعمروا ويقووا أحب إلي من أن يضعفوا والسلام).

خاتمة: شهادة علي وأزمة الحريات:

وطعنت ضربة ابن ملجم قلب الحرية في الصميم، وثارت أعاصير طغيان الحاكم لتكنس ما بقي من قيم السماحة والرحمة، وانفض عشاق الحرية من حوله، فردهم شهداء أو سجناء، واستمال من أراد الدنيا وهي في يده.

وكان أعظم شهداء الحرية سبط رسول الله الحسين الذي خيروه بين السلة وبين الذلة، بين البيعة وبين القتل.

وطلع حاكم ليقول لشعبه المسلم: لا يأمرني أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه، وكانت الناس تساق قهراً لحرب أعداء الحاكم، الذي تشكلت قداسته كما أحب، فأصبح له ذات ملكية وجلالة وسمو، وجمع في شخصه كل أنواع السلطات، وصارت مهمة الفقيه في الأعم الأغلب تطويع الفقه لمصلحة الحاكم، وشرعنة اغتصاب السلطة، والمؤاخاة بين كسرى وقيصر وبين أمير المؤمنين.

وتراكمت الظلمات في المجتمع المسلم سريعاً حتى سمعنا أنس بن مالك آخر الصحابة موتاً يقول لمن حوله: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله قيل: الصلاة، قال: أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها؟

وتكاثرت القيود على الفكر والقول والعمل، حتى كان الرجل ينام مسلماً، ويصبح كافراً أو زنديقاً أو مبتدعاً ولا يعلم من أين جاءت التلوث؟

لقد أحصيت في دراسة أعددتها عن الزندقة في العصر العباسي أكثر من ثمان وثلاثين تهمة للزندقة منها: القول بخلق القرآن- التوقف في القول بخلق القرآن – علم الكلام – إنكار رؤية الله في الآخرة – تقسيم الصلاة إلى فرض وسنة – التقية – تتبع الرخص...الخ

وكثيرون هؤلاء الذين قتلوا بتهم مزاجية كتهمة الزندقة ومنهم لسان الدين بن الخطيب أشهر علماء الأندلس، والملاحظ أن الفقهاء والحكام تمالؤوا على القتل بهذه التهم، وغالباً كان القتل ينفذ على مذهب الإمام مالك لأنه لا يقبل توبة الزنديق.

وتمددت فتاوى القتل حتى رأينا فقيهاً يفتي بقتل من ادعى أن الجهر بالنية في الصلاة واجبة، أو من أثبت الرسل والملائكة وسائط بينه وبين الله، أو من زعم أن الله لا يرى في الآخرة... إل كثير من أمثالها.

وكان من الطبيعي أن تطال حملات قمع الحرية أهل الكتاب في مملكة الحكام، فقد أمر أحد (أمراء المؤمنين) أن يحمل أهل الذمة في رقابهم كرات خشبية كبيرة، أمر بتخريب كنائسهم المحدثة، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب.. الخ

وغادر إمام الحرية الدنيا، وأمامه ريحانتان تسمعان قولته: (كونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً). والسلام عليكم   

--------------------------------------------------------------------------------

في ضوء مفهوم الحرية عند الإمام علي عليه السلام

الدكتور نزيه الحسن

 

1-   معنى الحرية:

تعليل الكرامة الذاتية للإنسان- في منظورنا الإسلامي- باعترافنا له، بدرجة خاصة في الوجود، ومهمة تكوينية وغائية، لا تشريعية.

والفلسفة الأوربية، تفصل بين الحقوق الطبيعية والفطرية، كلما دار الحديث حو الحقوق الإلهية، وهذه الفلسفة لا تستوعب الحقوق الإلهية إلا في شكلها التشريعي في حين أن الحقوق الطبيعية نوعان:

1-   حقوق طبيعية بلا هدف.

2-   وحقوق طبيعية ذات هدف.

ولا معنى للحقوق إذا انعدم الهدف والمسار الطبيعي والغائي، ولا معنى للتكامل وملاحقة الهدف دون مبدأ التوحيد.

والمعنى الصحيح للحرية: أنها ضرورة عدم إيجاد العائق، وهذا ما ينطبق على الإنسان فقط، ولا يصدق على النبات، أو الحيوان، وإن كان لهما حقوق أيضاً – ولا يجب إلحاق الأذى بالأخير، لكن عدم إلحاق الأذى يختلف عن مفهوم الحرية وهذا يعني أن الحرية من خصوصيات الإنسان.

والإنسان محترم لكونه يسير باتجاه الهدف التكاملي الطبيعي.

وهذا يعني أن التكامل محترم، ولا احترام للعقيدة التي تثبط قواه الكمالية وتحبسها، حتى لو كانت هذه العقيدة من انتخاب الإنسان نفسه.

والحرية في عقيدتنا تكليف وفرض، لابدّ من رعايته خلال تعامل الإنسان مع نفسه، وخلال تعامل الآخرين معه.

وتنقسم الحرية إلى قسمين:

1-   حرية معنوية.

2-   وحرية اجتماعية.

فتكليف الإنسان بأن لا يكون عبداً للخرافات الفكرية، والأهواء النفسية، يمثّل الجانب الباطني من الحرية.

في حين أن تكليف الآخرين بعدم تقييده، أو وضع العراقيل في طريقه، يمثّل الجانب الخارجي من الحرية.

قيمة الحرية:

هناك عوامل خمسة- كما يرى (هوبز) – تقع خلف التضارب الذي يعاني منه المجتمع الإنساني، وعدم وقوع مثله في التجمع الحيواني وهي:

أ‌-       التنافس بين أفراد النوع الإنساني.

ب‌-  اتساق خير الفرد واتحاده مع خير الجماعة في الحيوانات، عكس المجتمع الإنساني.

ت‌- بحث الإنسان عن الكمال، وتحديد النقص في الوضع القائم، ورسم الطروحات الجديدة.

ث‌- قابليته ( الإنسان) على الكلام، وقلب الحقائق.

ج‌-   سكون الحيوان بفعل الاستراحة، إلا أن الإنسان تتحرك أطماعه بعد الاستراحة الأولى، ويفكّر في تصدّر السلطة.

وما يمكن أن يكون مفيداً على هذا الصعيد، وأثبت جدارته بشكل عملي، هو: القوة التي تتسم بالصدق ( لا النفاق) من جهة.

وتمتلك قابلية التنفيذ والهيمنة على نفوس الناس، وتدمير مراكز إدارة سلب الحرية، وتتمثل بالدين من جهة أخرى.

والإسلام هو هذه القوة، حيث يتمتع بالصدق، ولديه القدرة، وقد تحدث التاريخ عن صدقه وقدرته.

وحرية الإرادة صحيحة ما دامت في مسار كمال الطبيعة التكوينية للإنسان، ولو قدّر لهذه الإرادة أن تعترض حرية الطبيعة في يوم ما، فلابدّ من التضحية بالإرادة من اجل الطبيعة، لا أن نضحي بالطبيعة من أجل الإرادة.

فكما أن الشهية من المنظار الطبي، وسيلة للجهاز الهضمي، فلابدّ من الاهتمام بها مادامت منسجمة مع الجهاز الهضمي وسائر الأجهزة الجسمية الأخرى، أما إذا أخلّت بهذا الانسجام – وهو ما يحدث في الإنسان بشكل أكبر من الحيوان – فلابدّ من التصدي لها.

ومن هنا – لا يعدّ منع الطبيب المريض من الاستجابة للشهية أمراً يتعارض مع حقوقه الحقيقة، في حين يعدّ منع جهة ما عن معالجته تعارضاً مع حقوقه الفطرية.

عن السؤال: الله أم الحرية؟ يكون جواب العلامة الشهيد المطهري:

الإيمان بالله من منظار الإسلام، يساوي اختيار الإنسان وحريته.

فالحرية بمعناها الحقيقي، جوهر الإنسان، فالقرآن الذي تحدّث عن عظمة الله اللامتناهية ومشيئته العامة، دافع عن الحرية أيضاً:

( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً).

أي أن الإنسان حر، بإمكانه انتخاب الطريق الصحيح، وبإمكانه انتخاب طريق الكفران بالنعمة وجحدها.

ويقول القرآن ايضاً: ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً، كلاًّ

 

 

 

 

 

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد  3/تموز/2008 - 1/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م