منذ فجر الدعوة الاسلامية ادرك المسلمون ان العراق سيكون الحاضن
الأول للإسلام والذائد عن بيضته، استعظموا شأنه ودققوا وصفه حتى
قالوا فيه (العراق جمجمة العرب ودرع والاسلام وكنز الايمان).
فكان أهل العراق من اوائل الداخلين الى الدين الاسلامي ومناصريه،
كما كانوا أول من بايع وناصر أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام
حتى غدى العراق قلب المجتمع الاسلامي، وكوفته أول عاصمة للخلافة
الاسلامية بعد المدينة المنورة.
وقد ارتضى آل البيت عليهم السلام أرض العراق مستقرا، وأبنائه
أتباع، فعن الإمام الصادق (ع): الحمد لله الذي جعل أجلّةَ مواليِّ
بالعراق.
وقد عرف أهل العراق بصعوبة المراس لما يتميزون به من تدبير
وتمحيص ودرايه بدلالات وعبر من خلال الاحداث النازلة بهم خلال
تاريخهم السحيق، لا ينزلون على سلطان حتى يقتنعوا به ويؤمنون جانبه.
ويصفهم المؤرخون بأهل نظر وذو فطن ثاقبة ومع الفطنة والنظر يكون
التنقيب والبحث، وما زال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة والشقاق
على أولي الظلم والاستبداد من الحكام الجائرين.
فكانت طاعتهم لآل البيت عليهم السلام مصدر لمعاناتهم على يد
ناصبي العداء لذرية الرسول صلى الله عليه واله وسلم من عهد
الأمويين حتى التاريخ الحديث.
وتتجلى عبر التاريخ الكثير من الصور والرموز الدالة على عشق
العراقيون لآل البيت عليهم السلام ولذريتهم الكرام، وتعلقهم
برجالات الفكر والفقه والتدين لا سيما العلماء والمرجعيات التي
تعاقبت على تولي زمام الامور الدينية والسياسية والعلمية في مدن
العراق المقدسة ككربلاء والنجف وسامراء والكاظمية، سيما بعض الاسر
المرجعية التي انجبت للامة العديد من الاعلام والفقهاء.
وما آيه الله الراحل السيد محمد رضا الشيرازي الا انموذجا واسوة
حسنة، عشقه العراقيون بصمت وتناقلوا افكاره بعمق، لم ينسه البعد
الحنين الى اهله ووطنه كما لم يتناساه اهله ووطنه، جاوروه رغم
غربته وابتعاده عنهم وجاورهم، بل تخلل قلوبهم، وما مشهد تشييع
جثمانه الطاهر الى مثواه الاخير الاعبرة وعبرة لأولي الالباب.
فمشهد سيل الحشود الهادرة التي شاركت تشييع الفقيد آية الله
السيد محمد رضا الشيرازي (قدس) يحتاج إلى وقفة تأمل طويلة، ونظرة
تمحيص دقيقة لتحليل بوادر هذه العواطف الجياشة النادرة.
فرب قائل يقول ........
لما تتزاحم هذه الملايين لتشييع رجل لم تطأ قدمه ارض العراق من
عشرات السنين؟
ولماذا كل هذا الحب المبكي والدموع السائلة على جثمان غريب؟
وكيف اجتمعت سنة العراق وشيعته ومسيحيوه على تأبين جثمان
الفقيد؟
ولكن إذا عرف السبب بطل العجب!
ففي الظروف الاستثنائية، والأحوال الانتقالية، تجد المجتمع
العراقي يعود إلى فطرته التي جبل عليها وصفاته المتجذره في الإسلام
وحب آل البيت عليهم السلام وموالاتهم، والتاريخ مهما طال عهده لا
يُحجب، فالعظماء والعلماء سيرتهم دائمة كالأسفار تتناقلها الأجيال
مهما جهد الظالمون طمسها، فنسب الفقيد يتجلى للناظرين كشمس الضحى
لا يخفى على جاهل أو عالم وسيرة آبائه وأجداده سطرت على صفحات
التاريخ العراقي والإسلامي اسطرا تتلألأ في التقى والعلم والجهاد.
وكيف لا وهم ذرية اشرف واطهر من وطأ البرية من الخلائق أجمعين
الرسول وال بيته عليهم صلوات الله وسلامه.
الأسرة التي أنحدر منها أية الله الفقيد السيد محمد رضا
الشيرازي (قدس) أسرة أصيلة عريقة تمتد جذورها في عمق التاريخ
والزمن، ويتلألئ أسمها في سماء المجد والعظمة والخلود، فقد أنجبت
هذه الأسرة خلال قرن واحد مجموعة كبيرة من الفقهاء والعلماء
والزعماء ومراجع التقليد والأدباء والشعراء وأهل الزهد والتقوى
والفضيلة.
ولا تستعرض تاريخ المجاهدين والشهداء إلا وتشرق _ من هذه الأسرة
_ مجموعة من الأسماء.
فهي أسرة علم وثقافة، وأسرة تقوى وفضيلة، وأسرة جهاد وتضحية.
ومنذ أكثر من مئة عام ومرجعية التقليد لا تكاد تنقطع عن هذه
الأسرة الكريمة، طفق الناس يرجعون في الفتوى والتقليد وسائر الشؤون
الدينية إلى جد الأسرة وزعيمها وكبيرها الإمام المجدد الراحل أية
الله العظمى الفقيه السيد محمد حسن الشيرازي رضوان الله عليه حتى
أصبح المرجع الوحيد للمسلمين الشيعة في كافة الأقطار والأمصار.
وكان خط المرجعية والفتوى والتقليد والقيام بأعباء الأمة
مستمراً في هذه الأسرة الكريمة وبعد جهاد واستشهاد العديد منهم
اتجهت الأنظار إلى أية الله العظمى الفقيه الجليل الإمام السيد
ميرزا مهدي الشيرازي رضوان الله.
وأما الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي (قدس سره) فهو الذي أمر
بالجهاد ضد الاستعمار البريطاني في العراق وإخراجه منه وفجر ثورة
العشرين الخالدة.
ولسلطان المؤلفين المجدد الثاني آية الله العظمى السيد محمد
الحسيني الشيرازي (قدس) والد الفقيد مواقف يجل لها التاريخ في
التصدي لأعتى طاغوت استولى على حكم العراق، حتى بعد اضطراره إلى
مغادرة العراق اثر صدور حكما غيابيا بالإعدام عليه.
فقد أغنى الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (قدس) بمؤلفاته
التي فاق عددها الألف مطبوع الساحة الدينية والثقافية والإنسانية
بالعديد من النظريات والعلوم.
أما السيد حسن الشيرازي عم الفقيد السيد محمد رضا (قدس)
اغتالته يد الخبث والجريمة من جلاوزة النظام البعثي الكافر في
بيروت ، وهو احد القرابين التي دأبت تقدمها ولا زالت هذه العائلة
في سبيل الإسلام القويم وحرية الشعوب.
وهكذا كانت هذه الأسرة العريقة، أسرة الجهاد والتضحية
والاستشهاد والبطولة.
لذا كانت الشخصية الغائبة الحاضرة في المشهد العراقي للفقيد
السيد محمد رضا الشيرازي (قدس) ذات تأثير مباشر في استقطاب
القناعات الصلدة من خلال طرحه الموضوعي للشؤون الاسلامية بمنطلق
اصلاحي جديد فند من خلالها العديد من الاطروحات المتطرفة ذات
المنهج العنفي.
ولسيرته الخالدة العديد من الوقفات تتجلى بالنبل والعفاف
والعلم، مما منَّ به عليه سبحانه وتعالى لتكون عبرٌ ينتهل منها
المسلمون.
فقد ولد في مدينة كربلاء المقدسة بالعراق سنة 1379هـجرية، نشأ
وترعرع بجوار سيد الكونين أبي عبد الله الحسين (عليه أفضل الصلاة
والسلام) فتعلم منه درس الولاء والتضحية والفداء في سبيل الله
عزوجل.
تربى في ظل والده الإمام الشيرازي الراحل فتهذب بأدبه وتعلم من
أخلاقه وعلمه.
بدأ دراسته الأولية في مدرسة حفاظ القرآن الكريم ثم التحق
بالحوزة العلمية في كربلاء المقدسة حيث درس مقدمات العلوم الدينية
لدى أساتذتها الكبار.
هاجر بصحبة والده إلى الكويت وذلك بعد الضغوط الكبيرة التي
لاقته أسرة الإمام الشيرازي من قبل الطغاة البعثيين في العراق.
وفي الكويت واصل دراسته العلمية فقرأ الرسائل والمكاسب على عمه
المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي(دام ظله)، وإلى
جانب ذلك كان يلقي محاضرات دينية علمية على الشباب المؤمن.
وفي سنة 1399هـجرية هاجر إلى إيران فحل بمدينة قم المقدسة حيث
استمر في دراسة السطوح حتى أكملها وبدأ دراسته العالية لدى والده
الإمام الشيرازي وعمه وكبار فقهاء الحوزة من أمثال آية الله العظمى
الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله، والمرجع الديني الشيخ مرزا جواد
التبريزي رحمه الله وغيرهم فنال مرتبة الفقاهة والاجتهاد.
كان من أساطين الأستاذة في حوزة قم المقدسة حيث بدأ بتدريس
المقدمات والسطوح العالية ومن عام 1408 هـ شرع بتدريس بحث خارج
الفقه والأصول على فضلاء الحوزة وكان مستمراً في تدريسه وعطائه
العلمي حتى وافته المنية.
كان قمة في الأخلاق والتواضع والبسمة على وجهه وحزنه في قلبه
كما ورد في صفات المؤمنين.
تربى في مدرسته العلمية عدد كبير من التلامذة الفضلاء وهم اليوم
من العلماء والمفكرين والمثقفين والمدرسين في الحوزات العلمية في
مختلف أرجاء العالم.
كما ترك محاضرات علمية وأخلاقية عديدة تبث عبر شاشات عدد من
الفضائيات الدينية حيث تلقى ترحيبا كبيرا من قبل المشاهدين لما لها
من اثر تربوي ونفسي عليهم، كما انها تطرح رؤية اسلامية معاصرة.
كما ترك كتبا علمية منها كتاب (الترتب) وهو بحث أصولي معمق كتبه
للعلماء والمجتهدين. وقد نال بسببه عدة إجازات إجتهاد.
ومن كتبه تفسير للقرآن الكريم اسمه (التدبر في القرآن) طبع منه
مجلدان ومن مؤلفاته (الرسول الأعظم ص رائد الحضارة الإنسانية)
و(خطب الجمعة) و(سلسلة المهدوية) و(ومضات) وغيرها.
* مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام/العلاقات
العامة
http://annabaa.org |