معايير فاعلية حقوق الإنسان.. وجهة نظر أمريكية 

شبكة النبأ: أضحت قضيتَي حقوق الإنسان والديمقراطية على أولويات الأجندة الأمريكية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، انطلاقا من قناعة أمريكية أن تراجع حقوق الإنسان والديمقراطية يعملان على تفريخ الإرهاب الذي لا يقتصر تأثيره على الدول المنتهكة لحقوق الإنسان، ولكن هذا التأثير أصبح عالميا، ويرى الأمريكيون أن الأحداث الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة خير مثال على ذلك؛ ولذا أولت الإدارة الأمريكية الحالية أهمية هامة لقضية حقوق الإنسان. بحسب موقع تقرير واشنطن.

وفي هذا الصدد تعددت الدراسات والكتابات التي تناولت قضية حقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأمريكية، ومن تلك الدراسات التي تناولت تلك القضية دراسة أعدتها روبرتا كوهين، الباحثة غير المقيمة بمعهد بروكينجز، والمتخصصة في قضايا حقوق الإنسان، وقد حملت الدراسة التي نشرها المعهد العنوان التالي: "دمج حقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأمريكية: التاريخ، التحديات ومعيار السياسة الفاعلة.

تنطلق الدراسة من أن فهم قضايا حقوق الإنسان الدولية يُعد أمراً ضرورياً للمسئولين الأمريكيين العاملين في مجالات الخدمات الخارجية والشؤون العامة والمساعدات. فالكثير من هؤلاء، إن لم يكن جميعهم، سيرسلون للعمل في دول ذات سجلات مثيرة للجدل بشأن مجال حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، قد يُرسل مسئول أمريكي إلى باكستان حيث أغلقت هناك محكمة العدل العليا، واعتقل الآلاف من معارضي الحكومة. كما قد يُرسل هذا المسئول إلى إثيوبيا، التي تدعمها أمريكا في غزوها للصومال، في حين تقدم الكونجرس بطلب يُقيد المساعدات العسكرية لها بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان.

وتؤكد الدراسة على أن غالبية الدبلوماسيين الأمريكيين سيتم إرسالهم للدول التي تُؤثر أوضاع حقوق الإنسان فيها على سياسات ومواقف الحكومة الأمريكية. وعليه فقد بدأت الدراسة بخلفية تاريخية لسياسة حقوق الإنسان، وأدوات تطبيقها والتحديات التي تواجهها، وأخيرا المعايير الضرورية لجعل هذه السياسة فعالة.

الخلفية التاريخية

تقول الدراسة أن سياسة حقوق الإنسان لعبت دوراً مهماً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة عبر التاريخ وذلك لأنها تأسست على دستور وحزمة من الحقوق التي تحفظ حريات الأفراد. وقد أشار الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي إلى حقوق الإنسان خلال خطابه الأول بعد توليه منصب الرئاسة، إلا أن الحديث بشكل صريح عن حقوق الإنسان كجزء أساسي في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية لم يبدأ إلا مع حلول السبعينيات من القرن الماضي. فقد أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، أن حقوق الإنسان تُعد "عنصراً مركزياً" في السياسة الخارجية الأمريكية.

وتُوضح الدراسة أن سياسة حقوق الإنسان لم تبدأ مع كارتر، بل بدأت مع الكونجرس بمطالب من جماعات حقوق الإنسان والمحامين والجماعات الكنسية واتحادات العمال والعلماء والأكاديميين وغيرهم. فتحت مسمى محاربة الشيوعية، كان هناك شعوراً بأن الولايات المتحدة ابتعدت كثيراً عن قيمها التقليدية، الأمر الذي أثر على وضع أمريكا عالميا. لذا كانت سياسة حقوق الإنسان التي بدأت في السبعينيات رد فعل لسياسة خارجية خالية من الاعتبارات الأخلاقية. وتشير الدراسة إلى أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر أخرج سياسة حقوق الإنسان من حساباته، واعتبر أنها ستُدمر العلاقات الثنائية مع حلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها. إلا أن الكونجرس رأى الأمور من منظور أخر، فقد أصدرت لجنة فرعية تابعة للجنة الشئون الخارجية تقريراً عام 1974 بعنوان "حقوق الإنسان في المجتمع الدولي: دعوة لقيادة الولايات المتحدة Human Rights In The World Community: A Call For US Leadership". وقد أوصى التقرير بأن تصبح مسالة حقوق الإنسان ذات أولوية في السياسة الخارجية، موضحا أن الموقف السائد دفع الولايات المتحدة إلى احتضان حكومات تنتهك كل حقوق الإنسان، تقريباً، التي يكفلها المجتمع الدولي.

وبناء على ذلك، فقد دعا الكونجرس إلى إثارة قضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة وفي كافة المسارح الدولية الأخرى، بالإضافة إلى تقييد المساعدات العسكرية والاقتصادية للحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان. فضلاً عن سنه تشريعاً يُطالب بإعداد تقرير عن كل دولة تتلقى مساعدات من الولايات المتحدة، ومنع المساعدات العسكرية والاقتصادية عن الحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان، واستثنى من ذلك أن تكون تلك الدولة تواجه كارثة إنسانية على سبيل المثال. وتشير الدراسة إلى أن الرئيس الأمريكي كارتر Carter تمسك بتطبيق هذه السياسة في السياسة الخارجية الأمريكية وذلك لعدة أسباب، منها:

أن نشر الحرية دولياً يتماشى مع قيم أمريكا، كما يخدم مصالحها القومية. وأكد كارتر Carter أن الأمن الأمريكي سيتم تعزيزه عن طريق التوسع في نشر قيم حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم. وأنه بحكم القانون الدولي فإن الولايات المتحدة مسئولة ولها الحق الشرعي في تعزيز حقوق الإنسان.

رأى كارتر ان أهداف حقوق الإنسان من الممكن السعي لتحقيقها بكفاءة، إلى جانب تحقيق الأهداف الأخرى للسياسة الخارجية الأمريكية.

أدوات تطبيق سياسة حقوق الإنسان

توضح الدراسة أن تطبيق سياسة حقول الإنسان يحتاج إلى خمسة أدوات، تتمثل في:

دبلوماسية نشطة: تتمثل في قيام المسئولين الأمريكيين بإثارة انتهاكات حقوق الإنسان والقضايا التي تتعلق بمصالح الأفراد، وذلك خلال لقاءاتها ومناقشاتها الثنائية مع الحكومات الأجنبية. فعلى سبيل المثال، شغلت الديمقراطية والانتخابات مكانة مهمة في الدبلوماسية الأمريكية خلال ولاية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، حيث تحول اسم "مكتب حقوق الإنسان" إلى "مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل". وخلال إدارة الرئيس الحالي بوش الابن، فقد ركزت إدارته على الدبلوماسية الخاصة والعامة لتعزيز الديمقراطية والحرية بمنطقة الشرق الأوسط، حسبما أشارت الدراسة.

التصريحات العامة، واستخدام "قوة الألفاظ" كما أسماها كارتر: فقد سعى كارتر من خلال هذه التصريحات والخطب إلى توضيح مواقف أمريكا، والتعليق على الحكومات الأجنبية، وأحيانا لتشجيع الالتزام بحقوق الإنسان في هذه الدول الأخرى.

وكان في بعض الأحيان يذكر اسم الدولة صراحة وأحيانا تكون الرسالة عامة. وعلى سبيل المثال، في عام 2007 انتقد بوش روسيا صراحة لاعتقالها متظاهرين قبيل الانتخابات البرلمانية.

الإيماءات الرمزية: وتبدأ هذه الأداة من تقليل العقود العسكرية مع دولة ما، إلى خطاب من الرئيس الأمريكي إلى منشق عن هذه الدولة. ويتضح ذلك من خلال تقديم الرئيس بوش ميدالية ذهبية للدلي لاما الزعيم الروحي لإقليم التبت في إيماءة رمزية تستهدف الصين.

الإجراءات الايجابية: وهي أن تقوم الولايات المتحدة بإرسال مساعدات اقتصادية أو بيع تكنولوجيا وغيرها إلى الحكومات التي تعمل على تحسين سجلها الخاص بحقوق الإنسان، أو قد يقوم الرئيس الأمريكي بزيارة دولة ما اعترافا منه بقيامها بدعم حقوق الإنسان، أو أنها في طريقها إلى تحقيق إصلاحات في هذا المجال.

فرض العقوبات: فرضت إدارة كارترCarter عقوبات على بعض الدول تمثلت في خفض المساعدات العسكرية، أو المبيعات؛ لفصل الولايات المتحدة عن ممارسات حكومات تلك البلدان. وقد منعت أمريكا بيع معدات الشرطة للصين حتى لا تساعد حكومتها على ممارسة القمع الداخلي.

تحديات تطبيق أمريكا سياسات حقوق الإنسان

تقول الدراسة أنه بالنظر إلى تحديات تطبيق سياسة حقوق الإنسان، يُلاحظ أن الكثير من هذه التحديات التي كان على إدارة كارتر التعامل معها هي نفسها التي تواجه صانعي القرار في واشنطن اليوم، ومن تلك التحديات:

تحدي كيفية التحدث عن حقوق الإنسان والديمقراطية بدون إحداث توتر في العلاقات مع الحكومات، أو أن يفسد أهداف السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام. فعلى سبيل المثال تعرضت إدارة كارتر للنقد بسبب قطع علاقاتها بحلفائها إبان الحرب ضد الشيوعية، كما قيل أن سياسة حقوق الإنسان ساهمت في الإطاحة بشاه إيران وإقامة نظام معاد لأمريكا.

واليوم يواجه بوش نفس المعضلة في باكستان، وتتمثل في إلى أي حد يجب على الولايات المتحدة أن تدعم الرئيس الباكستاني "برويز مشرف"، وهل ستولد الإطاحة به حكومة إسلامية متطرفة معادية لأمريكا كما في إيران؟، أم أنها ستؤدي إلى بديل أكثر ديمقراطية كما في شيلي والفلبين وكوريا الجنوبية؟.

أما التحدي الثاني فيتمثل في كيفية التعامل مع الأولويات، والتي تتمثل في المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تتعارض مع العمل بسياسة حقوق الإنسان. وتسرد الدراسة أمثلة تجسد هذه التحديات، منها:-

أنه خلال إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان طغت المصالح الإستراتيجية على الاهتمام بحقوق الإنسان في التعامل مع دولة جنوب إفريقيا، حيث سعت الإدارة الأمريكية وقتها إلى كسب تعاون جنوب إفريقيا للتقليل من النفوذ السوفيتي والكوبي في جنوب القارة الإفريقية، إلا أن الكونجرس عارض الابتعاد عن سياسة حقوق الإنسان خاصة عندما اندلعت أعمال العنف في جنوب إفريقيا عام 1983. وأصدر الكونجرس في 1986 قانون مناهضة سياسة التمييز العنصري، والذي بموجبه تم فرض عقوبات تجارية واقتصادية على جنوب إفريقيا، فضلا عن دعم المعارضة داخليا.

عند التعامل مع مسالة دارفور، فعلى الرغم من التزام إدارة بوش بسياسة حقوق الإنسان، إلا أن الأولويات السياسية عقدت تطبيقها. فخلال اجتماع أقيم في معهد بروكينجز العام الماضي، اعترف نائب وزير الخارجية الأمريكي روبرت زوليك ـ في ذلك الوقت ـ بهذه الحقيقة. وأوضح أنه كان من المتوقع أن تضغط أمريكا على حكومة السودان بسبب الأفعال الإجرامية التي تُرتكب في دارفور، لكنها في الوقت نفسه كان عليها أن تتعامل مع حكومة السودان من أجل دفع الخرطوم إلى التوقيع على اتفاقية سلام شاملة مع الجنوب في 2005.

ج- على صعيد العمليات الاستخباراتية، هناك أيضا سياسات تتعارض مع حقوق الإنسان. فإذا أصرت إدارة بوش على أن قدرة وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) على استخدام التعذيب ضد المشتبه بأنهم إرهابيون، فإن ذلك سيفسد ويقوض سياسة حقوق الإنسان. ويتضح ذلك، بحسب الدراسة، في حالة أفغانستان في الثمانينيات عندما شجعت المخابرات الأمريكية تأسيس جماعات إسلامية أصولية وقامت بتسليحها من أجل طرد الاحتلال السوفيتي، واعتبرت أن ذلك هو الهدف الاستراتيجي دون النظر إلى حماية حقوق الإنسان. وبعد قيام حكومة "طالبان" التي أرجعت البلاد إلى العصور الوسطى، والتي قدمت المأوي الآمن لتنظيم "القاعدة"، أعلت واشنطن من قضية حقوق الإنسان وتأسيساً على ذلك غزت أفغانستان عام 2001.

وتقول الدراسة أن سياسة حقوق الإنسان لا يجب أن تأتي دائما في المقدمة في كل الحالات، فهناك حالات تستدعي أن تكون تلك السياسة في المرتبة الثانية. فعلى سبيل المثال، يعد التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي لكوريا الشمالية ذي ألوية من التطرق لمسألة حقوق الإنسان في المحادثات السداسية.

معايير فاعلية سياسة حقوق الإنسان

وأخيرا تتحدث الدراسة عن المعايير الضرورية من أجل جعل سياسة حقوق الإنسان سياسة فعالة ومؤثرة وذلك من خلال:

أولا: المصداقية: والمقصود بها أنه لا يمكن لحكومة أن تطالب بتعزيز حقوق الإنسان خارجيا لو لم تحقق ذلك داخليا. ومعنى آخر هو أن المصداقية تعني سياسة قائمة على معلومات منطقية لا تقلل ولا تبالغ في المواقف من أجل أسباب سياسية.

ثانيا: أن تعزيز حقوق الإنسان مصلحة قومية، تعكس قيم أمريكا وتوفر الأمن القومي. وبمجرد أن تُعرف تلك السياسة على أنها مصلحة قومية، سيكون هناك رغبة لفعل أي شيء لتطبيقها.

ثالثا: أن تكون الحكومة بأكملها متحدة وراء سياسة حقوق الإنسان. بمعنى أنه على جميع الجهات بدءا من البيت الأبيض إلى وزارات الداخلية والتجارة والدفاع والمجتمع الاستخباراتي أن يأخذوا هذه السياسة بعين الاعتبار عند اتخاذ القرارات.

رابعا: يجب أن تكون السياسة واقعية، أي أنه لا يجب المغالاة في تقدير قوة أمريكا لإصلاح الدول وإرساء الديمقراطية بها أو جعلهم نسخ مصغرة من أمريكا.

خامسا: يجب أن تسعى سياسة حقوق الإنسان الفعالة إلى تحقيق يُوفق بين أهداف حقوق الإنسان والديمقراطية.

سادسا: يجب أن تسعى سياسة حقوق الإنسان الفعالة إلى تحقيق توافق بين أهداف حقوق الإنسان والأهداف الإنسانية. فعلى سبيل المثال، في حالة فرض عقوبات اقتصادية فيجب الأخذ في الاعتبار العواقب التي ستترتب عليها، فهل ستشجع هذه العقوبات التغيير المرغوب كما كان الحال في جنوب إفريقيا، إما أنها ستؤدي إلى الإضرار بصحة وغذاء الشعب كما هو الحال في العراق.

سابعا: يجب على سياسة حقوق الإنسان الفعالة أن تستجيب للحالات الطارئة لحقوق الإنسان، مثل القتل الجماعي والجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية والتي تُعرض أعداد كبيرة من الناس للخطر، عن طريق توفير حماية فعلية على أرض الواقع.

ثامنا: في ظل الصراعات الداخلية والحروب الأهلية الموجودة على الساحة هذه الأيام، يجب على سياسة حقوق الإنسان الفعالة أن تتعامل بشكل أكثر فاعلية مع الحكومات والجماعات غير الحكومية بحيث يتحمل الجانبان مسؤولية ما يجري معا على أرض الواقع.

تاسعا: يجب أن تشمل سياسة حقوق الإنسان حقوق المرأة والعمال والأطفال وهي المناطق التي تحرك إليها الولايات المتحدة بالفعل، بحسب الدراسة. كما يذهب البعض إلى ضرورة أن تشمل أيضا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالإضافة إلى الحريات المدنية والسياسية، وهي الأمور التي لم تتطرق إليها أمريكا حتى الآن.

وأخيرا، تتطلب سياسة حقوق الإنسان الفعالة إبقاء القوة والمتابعة؛ لأن الإصلاحات لا تحدث بين عشية وضحاها. فالدعم الحقيقي يحتاج إلى الاستمرارية والاتصال القوي مع الشعوب والمنظمات داخل الدول المعنية.

شبكة النبأ المعلوماتية- االخميس  10/تموز/2008 - 6/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م