الحديث همسا أو جهرا عن قضية الانتخابات، أضحت من المواضيع
المهمة والبارزة لدى الشارع العراقي هذه الأيام، بصورة عامة،
والشارع السياسي بصورة اخص، وهي قضية تثير البهجة في حقيقة الأمر،
فهو تحول إلى سباق الصناديق البيضاء واحتكام الى ما تقره وتنتجه،
تاركين خلفنا تاريخ طويل من الصراعات العسكرية والانقلابات التي
تخرج من جنح الظلام لتنصب ملوكا ورؤساء بصيغة الحاكم الأعلى، بدون
أي شرعية أو أي غطاء قانوني، وهو هدف تحلم به وتنشده أكثر الشعوب
المقهورة والمتسلط عليها بقوة النار والحديد، وهو انجاز يستحق أن
نعتبره الانتصار الأهم في كل مجالات الاعمار والبناء.
القضية التي تستحق الوقوف عندها وإسنادها بكل قوة هي ثقافة (الانتخاب)
عموما كمفهوم، وترك المواطن يختار من يراه يمثله تمثيلا صحيحا،
لكن الشيء الجدير بالاهتمام هنا وما يثير الانتباه ما يلاحظه
المتصفح لأسماء الكيانات السياسية المسجلة لدى المفوضية العليا
للانتخابات من ظاهرة التهرب من العنوان الأبرز الذي طغى على
التجارب السابقة من الانتخابات سواء المحلية أو البرلمانية وهو
لباس الدين أو المذهب، فعنوان الـ (مستقل) أضحى اليوم هدف يحاول
الأغلب التقرب منه والتلبس به حقيقة أو عدمه.
وبعيدا عن الطريقة التي يرى كل كيان سبل نجاحه مرتبط بها،
وهي طريق مشروع في مجال السباق الانتخابي في أي بلد، لكننا نواجه
حقيقة عملية سجلت انتكاسة مازالت الساحة السياسية تعاني من آثارها
الى الآن، ومازالت تبعاتها تقيد حركة الحكومة بقيود من فولاذ، وهي
حالة التوافقات التي نتجت عن طريقة الانتخابات السابقة والتي كانت
النبرة الطائفية عنوانها الأبرز بحيث جعلت كل طائفة تنظر الى فئتها
على أنها المخلص من الخطر الداهم ودفاع الصد العالي من الزحف
المقابل، وهذا بدوره انطبق على الجميع بدون استثناء .
لينتج لنا تشكيل برلماني مرتب على شكل قومي و طائفي، وتنعكس
فكرة ترتيبه حتى على ابسط المواقع الوظيفية في طريقة التعيين
والتوظيف على أساس ذلك، ما نصبوا إليه في المرحلة والتجربة القادمة
أن يكون العنوان المعلن والشعار المرفوع عن الاستقلالية فعليا وليس
انتخابيا ومهنيا قبل أن يكون تجردا من طائفته أو فكره.
ويجب الالتفات إلى إن الارتباط بدين ومذهب وطائفة عنصر امتياز
و مرتكز مهم في أي مجتمع وخصوصا المجتمع العراقي، أيا كان هذا
النوع من التصنيف في طبيعة الأديان، ولون أساسي من ألوان الطيف
البشري المتنوع، وليس من المعيب التمسك به، لكن هل كان انتمائنا
الديني والعرقي حافزا و داعما في اتجاه رفد تيارنا الوطني وبناء
بلدنا بدون التخندق وراء التطرف والطائفة؟، وهل كنا منتمين الى
طائفة بدون طائفية أو ملتزمين بثوابت عقيدة دون تعصب؟.
لقد أصبحت الأسماء الدينية اليوم والعناوين المذهبية و(للأسف)
واقع الحال مشكلة وقضية أشبه بالتهمة بحيث يتقاتل البعض من اجل
دفعها عن أنفسهم وكأننا نحاول إفهام الآخرين بأننا لا نرتبط بدين
أو مذهب وان القادمين هم (مستقلون الى حد النخاع ) أو أن المستقلين
هم من يستحق التصويت فقط وباقي الكتل يجب عزلها أو عدم التصويت لها،
هذا خلل كبير ومفهوم خاطئ واقعا، فطبيعة تركيبتنا الاجتماعية في
العراق وصيغ الحياة ونمطية وسلوكية العائلة لا تمكننا من إنتاج فرد
مستقل بمعناه الدقيق جدا وهو ليس معيبا بقدر ما هو علامة ورافد
ايجابي مهم.
التفكير بهذا الطريق بحد ذاته يحتاج الى تفكيك عميق لمعنى
ومفهوم (المستقل) في بلدنا ومجتمعنا قياسا بالدول الأخرى، فمجتمع
كالمجتمع العراقي تحكمه الدين والطائفة والقبيلة لا يمكن أن يصبح
الفرد مستقلا كالاستقلال المعروف عنه في دولة تغايرنا التقاليد
والأعراف أو الالتزامات، نعم قد تكون الاستقلالية عملا أو انتماءا
سياسيا أو منهجا فكريا، ولكن هل يوجد لدينا من لا ينتمي الى طائفة
أو الى مذهب أو الى عشيرة؟، وبالنتيجة فانتماءه الى احد هذه
العناوين سيربطه بأحد المسميات.
قد لايكون هنالك استقلالية تامة، بل قد توجد استقلالية نسبية
ومعتد بها إثناء العمل أو الكتابة أو التعامل مع الآخرين أو اتخاذ
القرار وهي ظاهرة يجب أن تنمو وتتطور، وهي الهدف المنشود والتشخيص
الدقيق لعلاج الحالة العراقية بالخروج من بودقة التطرف الديني،
ولكن يبقى الشرط الأساس أن لا يكون ذلك على حساب التهرب من الهوية
الخاصة أو العامة.
ما نحتاجه في القول والفعل ليس دفع اسم الدين أو المذهب أو
القومية بعيدا، كي نثبت للآخرين بأننا مستقلون، ولكننا بحاجة الى
فهم أكثر لمفهوم (الاستقلالية) وتطبيقها، والعمل بهذا الاتجاه لا
يتم فقط بتسجيل الكيانات بأسماء تحاول إقناع الناخب بأنها ستأتي
بمرشحين لا ينتمون الى أي مكون أو طائفة أو دين.
المستقل الذي نحتاجه هو ليس الهروب من انتمائه أو لون
تمذهبه بل أن يكون مهنيا في موقع المسؤولية وممثلا لكل العراقيين
عند تنفيذ الواجب، والبرنامج الذي يعطي ثماره هو عندما يكون مطبقا
لمفهوم القانون المهني الصرف عند ارتقاء المنصب وليس عنوانا وشعار
يرفع عند الحملة الانتخابية فقط، ويستبطن مفاهيم أخرى عند الوصول
والتمكن.
الهدف المنشود هو الارتباط مع الآخر بمشتركات كثيرة أهمها
مبدأ المواطنة و قبول تحمل المسؤولية ودفع ضريبة الثقة المعطاة له
برد الجميل للجميع على تقديم أفضل الخدمات بأحسن وجه والبحث عن كل
المحتاجين ومتابعة حقوقهم وشؤونهم.
العملية ليست بالشاقة بل من البساطة بحيث لا تحتاج الى
البحث والعناء فالجميع قادرون على أن يصبحوا مستقلين أو يعودوا الى
ما كانوا عليه بالأساس ولكن نحتاج قبل ذلك الى أن نتخذ القرار في
أنفسنا ونحول العملية السياسة (مستقلة) برمتها بثوابتها و
بإداراتها وقياداتها وسنجد الرعية تسير على نفس النهج الذي يبدأ
به القادة.
التجربة القادمة اختبار جديد ومهم في إثبات أن النفس الحقيقي
للعمل مازال موجود وفرصة لتصحيح الأخطاء السابقة وتمكين صاحب
الفكر المهني والكفاءة من تبوء منصبه والوصول الى مكانه الصحيح،
الذي يجب أن يشغله ويعمل باستقلاليه كاملة وبنظرية فقه القانون
فقط، وهذا هو قمة التحرر من الأفكار الفئوية و المناطقية وعندها
نستطيع القول بأننا (مستقلون).
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |