صعود قوى عالمية جديدة.. أمريكا في خط

شبكة النبأ: شهد النظام الدولي في العقد الاخير تحولات كبيرة بشأن صعود قوى عالمية جديدة مثل الصين والاتحاد الاوربي واليابان والمانيا والهند، ولكن رغم الصعود المتزايد للقوى الجديدة وتزايد التحديات والمشاكل الداخلية والخارجية تظل الولايات المتحدة حتى الان في مركز الصدارة، بحسب رؤية فريد زكريا التي هي محور التقرير التالي.

في الوقت الذي يركز فيه البعض على القوة الاقتصادية الصينية وتفوقها على مثيلاتها الأمريكية، يعارض زكريا هذا، عن طريق مقارنة بين معدل وقيمة الناتج الإجمالي الصيني و الأمريكي.

فكما جاء في الكتاب يصل إجمالي الناتج القومي الإجمالي الصيني 3 تريليون دولار في حين يصل نظيره الأمريكي إلى 14 تريلون دولار. وبافتراض أن معدل النمو الصيني سيصل إلى 7% فإن ناتجها الإجمالي سوف يصل خلال عشر سنوات إلى 6 تريليون دولار، ويتضاعف خلال عام 2028 محققاً 12 تريليون دولار، وباعتبار أن الولايات المتحدة تنمو بمعدل "تاريخي" بـ 3.5 فإن ناتجها خلال عام 2028 سيصل إلى 28 تريليون دولار. ولكنه يري أنها مقارنة ساذجة ولكنها تقل سذاجة عن رؤية أن الصين ستحلق بالولايات المتحدة حلال عام 2020. بحسب موقع تقرير واشنطن.

ويرى زكريا، أن العلاقات في مجال الشئون الخارجية أكثر تعقيداً من مكوناتها المادية، واستمرار احتلال القوة العسكرية مكانتها وأهميتها في تحديد مدي قوة الدولة. وفي الوقت الذي تأتي فيه الصين في المرتبة الثانية من الإنفاق العسكري الأمريكي، تنفق الولايات المتحدة أكثر من باقي الدول التي تليها مجتمعة. ولكن البعض يربط بين الإنفاق العسكري والقوة الاقتصادية. وفي الوقت الذي تتراجع فيه القوة الاقتصادية الأمريكية يتوقع العديدين تراجعاً في الإنفاق العسكري الأمريكي، وبالتبعية النيل من مكانة القوة العسكرية والإنفاق العسكري الأمريكي.

ولا تقتصر مصادر القوة على القوة العسكرية، ولكن هناك مصادر أخرى والتي تحدث عنها "جوزيف ناي" من قوة ثقافية وتعليمية، سياسة، دبلوماسية، تكنولوجية.وعلى مستوي القوة الثقافية والتعليمية يرصد زكريا تراجعاً في قوة أمريكا التعليمية مستنداً إلى أرقام تشير إلى تخريج الصين 600 ألف مهندس سنوياً، والهند تخرج هي الأخرى 350 ألف مهندس، في حين يبلغ عدد المهندسين المتخرجين بالولايات المتحدة سنوياً 70 ألف. ولكن زكريا يشكك في تلك الأرقام لأنها تضم أفراد يحصلون على دورات تدريبية لمدة سنتين، وهو ما أكد عليه في مقالته المنشورة في مجلة الشؤون الخارجية، مؤكداً ليس على عدد الخريجين تُحدد قوة الدولة على المستوي التعليمي، ولكن على مخرجات العملية التعليمية من مهارات وقدرات علمية إبداعية وابتكاريه، والتي تتفوق فيها واشنطن على منافسيها.

كما تتفوق أمريكا على باقي الدول في المكانة العلمية، فتحتل الجماعات الأمريكية نسبة كبيرة من القائمة التي تضم أفضل خمسين جامعة عالمياً والتي تصل إلى 42% أو 68% من تلك القائمة. ويرى زكريا أن اختلاف النسبة يرجع إلى من يُعد تلك القائمة. ويضيف أيضاً أن الجامعات الهندية تعطي ما بين 35 إلى 50 درجة الدكتوراه في مجال علوم الحواسب الآلية كل عام. ولكن في الولايات المتحدة يصل الرقم إلى ألف درجة دكتوراه في العام. ويري أن بكين تفتخر بعدد جامعاتها المتنامي، ولكن الجامعات الأمريكية تظل في المقدمة ووجهة أي راغب في التعليم والدرجة العلمية من كافة أنحاء العالم.

ويقول زكريا أنه في عصر الثورة الصناعية كانت قوة الدولة تكمن في المواد الخام، ولكن في عصرنا هذا فإن قوة الدولة تكمن في التكنولوجيا وSoftware، والاختراعات والفرص والمنافسة، والتي تتفوق فيها واشنطن على مثيلاتها من باقي الدول الأخرى. ويضيف أيضاً في مقالته بدورية الشئون الخارجية أن واشنطن مهد الصناعات النانوتكنولجية (الصناعات التكنولوجية الدقيقة) والبيولوجية، وهي متفوقة على باقي الدول الأخرى، وتُحقق أرباحاً طائلة منها، فقد حققت عائدات من الصناعات التقنية الحيوية أكثر من 50 بليون دولار، وهو خمس أضعاف ما في أوروبا، وتحقق ما نسبته 76 في المائة من العائدات العالمية من التقنية الحيوية. فضلا ًعن حفاظها على مكانتها في مجالات العلم والثقافة والمعلومات.

ويؤكد أن واشنطن ستظل شباباً لارتفاع نسبة طبقة الشباب فيها – وهي تلك الطبقة التي يُعول عليها في تقدم الدول – ويقول أن الولايات المتحدة سوف تظل تتمتع بتلك الخصيصة؛ نظراً للهجرة المتوافدة عليها من باقي دول العالم، وذلك لأسباب متعددة لا تقل أهمية عن أنها بلد الديمقراطية والحرية، ونجاحها في دمج وصهر المهاجرين في بوتقة الثقافة والتاريخ الأمريكي، وقد ظهرت تجليات ذلك في منافسة أمريكي – أفريقي على منصب الرئاسة منافساً لأمريكي أبيض من مواطني الولايات المتحدة.

دور أمريكي فاعل في النظام الدولي الجديد

يؤكد زكريا في كتابه على أن الولايات المتحدة ستظل القوة الكبرى عالمياً ولكن هناك ضعف وحيد يعتري قوتها في النظام الدولي الجديد يتمثل تراجع رأسمالها السياسي، والذي يُرجعه زكريا إلى التأزم الأمريكي في العراق، وتراجع مكانة الولايات المتحدة عالمياً، ولكنه يري أن الولايات المتحدة ستظل القوة القادرة على إدارة صعود القوي الأخرى الساعية للعب دور القوي مناوئة للولايات المتحدة الأمريكية.

ويقول أن الولايات المتحدة ستظل القوي الكبرى على المستوي السياسي - الاقتصادي politico-military ، ولكن على باقي المجالات الأخرى الصناعية، المالية، التعليمية، الاجتماعية، والثقافية. هناك تحدي من قبل القوي الصاعدة عالمياً، والذي لا يعني اختفاء الهيمنة الأمريكية في تلك المجالات التي كانت تُسيطر عليها في السابق. ويري أن هذا لا يُؤشر على الدخول في عصر كراهية الولايات المتحدة الأمريكية Anti-Americanism، ولكنها تتحرك في عالم مع بعد السيطرة الأمريكية، والذي يُدار ويُشكل بمجموعة من القوي ومن أماكن متعددة.  فالعالم أصبح أقل مركزية وأكثر ترابطاً واتصالاً.

وفي الوقت الذي تُعاني فيه الولايات المتحدة الأمريكية من أزمات اقتصادية خلال السنوات الماضية، يرفض زكريا المقارنة بين سقوط الإمبراطورية البريطانية لأسباب اقتصادية وإمكانية سقوط الولايات المتحدة الأمريكية لأزماتها الاقتصادية التي تشهدها خلال الأعوام المنصرمة، ولاسيما خلال فترتي بوش الابن. فيقول أنه رغم العديد من الأزمات الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة إلا أنها أكثر قدرة على التعافي منها في أقرب وقت؛ لقدراتها التكنولوجية والصناعية والعلمية.

ويرى زكريا أن التأزم الاقتصادي الأمريكي، الحالي، ليس راجع إلى خلل أو قصور في المنظومة الاقتصادية الأمريكية، ولكنه يرجع بصورة جلية إلى سياسات الإدارة الحالية، والتي يمكن إصلاحها بصورة سريعة وسهلة. وفي حال تعافي الولايات المتحدة من أزماتها الاقتصادية فإنها ستضمن دور فاعل على المستوي العالمي. وقد صاغ مجموعة من السياسات التي تساعد على النهوض بالاقتصاد الأمريكي، منها: زيادة المدخرات، زيادة الدورات التدريبية في مجال العلوم والتكنولوجيا، وضمان المعاشات، وتخليق قوي عاملة من المهاجرين، وتحقيق أساليب كفئة في استغلال الطاقة.

وفي الوقت الذي يتحول فيه النظام الدولي الجديد بعيداً عن الأحادية القطبية الأمريكية، فإن زكريا يتوقع أن يكون دور الولايات المتحدة كسمسار عالمي global broker، فسوف يكون دورها تحديد الأجندة الدولية، والعمل على تكوين التحالفات لمواجهة الأزمات الدولية، وتعبئة الموارد. فحسب زكريا سوف يكون للولايات المتحدة دور حيوي في النظام الدولي الجديد، ولا يتوقع أن يكون هناك نظام دولي بدون الولايات المتحدة الأمريكية.

ويرى أن هناك العديد من التحديات السياسية والدبلوماسية الواجب على الولايات المتحدة التعامل معها. فقد أضحت الصين – على سبيل المثال – فاعل قوي في العديد من الملفات التي كانت حكراً على الولايات المتحدة لاسيما في منطقة الشرق الأوسط وفي كوريا الشمالية والملف النووي الإيراني، ناهيك عن دور القوي الصاعدة التي تستغل تراجع الولايات في أحد الملفات حتى تتقدم، ولعل هذا جلي في السياسة الروسية تجاه منطقة الشرق الأوسط الهادفة إلى ملء الفراغ والتأزم الأمريكي في العديد من الملفات الشرق أوسطية.

كيف تتعامل أمريكا مع النظام الدولي الجديد

يطرح الكتاب تساؤل حول كيفية تعامل الولايات المتحدة مع هذا النظام الدولي الجديد؟، الذي يري فيه زكريا نسخة من نظام الحرب الباردة، ولكنه هذه المرة بقوي تُؤمن بحرية السوق والديمقراطية، أي القيم الأمريكية، وقوي ذات خصائص ديمغرافية متزايدة، والتي لا تُبذر فوائضها المالية على الإنفاق العسكري، وهو تحدي جديد لم تواجهه الولايات المتحدة من قبل.

ولتعزيز مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي الجديد، طرح زكريا عدد من النصائح لصانع القرار الأمريكي منها إعادة ترتيب الأجندة والأولويات الأمريكية، والعمل مع الحلفاء والأصدقاء، والبعد عن الصيغة الأحادية في العمل الدولي، والالتزام بالمعايير الدولية في العمل والعلاقات الدولية. وفوق كل ذلك يجب على واشنطن العمل على زيادة شرعيتها بعد تراجعها خلال فترتي الرئيس بوش الابن. ويُعد هذا الكتاب دليل جيد لمواجهة التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة حالياً وفي المستقبل.

شبكة النبأ المعلوماتية- االثلاثاء  8/تموز/2008 - 4/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م