استراتيجية الغرب تقوم على محو الآخر وإلغائه

عولمة اللغة تراكم حضاري طبيعي أم صناعة امريكية؟

 

 

-          عشر لغات تتبعثر سنوياً من بين 6000 لغة تواجه الخطر

-          أكثر من 2500 لغة مهددة بالاختفاء على المدى القصير

-          مواقف الدول وشعوبها تباينت تجاه إستفحال ظاهرة عولمة اللغة الانكليزية التي غدت تشكل تهديدا ستراتيجياً للهوية الحضارية لكل الأمم

شبكة النبأ: استضاف اتحاد ادباء وكتاب نينوى الاديب رائد فؤاد الرديني الاستاذ بكلية الآداب جامعة البصرة وطالب الدكتوراه في كلية الآداب بجامعة الموصل للتحدث عن موضوع (عولمة اللغة في ضوء تحديات الصراع الحضاري)، في خطوة من الاتحاد للانفتاح على المحافظات الأخرى بعد انقطاع تام عنها بسبب الاحتلال وماخلفه من تناحرات مفتعلة بين الأخوة.

أدار الجلسة الدكتور أحمد جارالله عضو الاتحاد والتدريسي في كلية الآداب بجامعة الموصل بحضور عدد كبير من أعضاء الاتحاد، وتطرق الرديني بدايةً الى ان (اللغة تعد أبرز العناصر المميزة والفاعلة في تشكيل الهوية الحضارية والثقافية وهي العامل الأساس والمعبر عن هوية الأمة وحضارتها فلا نستطيع الحديث عن اللغة دون الحديث عن الهوية.

 لهذا فان اللغة هي الأداة الرئيسة التي من دونها لا نستطيع تحديد الهوية المعبرة عن ذاتية قوم ما والتعرف على انتماءاتهم وتاريخهم وماضيهم الحضاري، فقيمة اللغة لا تكمن في بنيتها الصوتية أو أنظمتها النحوية بقدر ما تكون قيمتها في سياقها الثقافي وامتدادها التاريخي ومرجعيتها الفكرية مما يعني ان اللغة ليست بالضرورة أداة مجردة لتبليغ الأفكار أو التفاهم بين المجتمع بقدر ماهي صورة ناطقة باسم متكلميها وأداة معبرة عن وعيهم وبنية إدراكهم وتطلعهم الحضاري ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

وأضاف الرديني (ان اللغة تعد بمثابة الرسالة الفكرية والثقافية التي تبني الأمة وتحمي كيانها وتحافظ على شخصيتها، بل هي المقوم الأساس لبناء الأمة وقيامها لأنها لغة التواصل والاتصال والصياغة لكل الأفكار وتفعيل العوامل الأخرى، فضلا عن كونها المدخل الأخطر لبعثرة الأمة والعبث بتراثها وتاريخها وذاكرتها وعزلها عن تجاربها وماضيها وقيمها وشخصيتها الحضارية، إنها تشكل أهم مقومات الارتكاز الحضاري، فهي تؤدي دورا أساسيا وفاعلا في قضايا ارتقاء الحضارات أو صراعها وسقوطها.

 وكما قال أحد المختصين (ما من حضارة انسانية إلا وصاحبها نهضة لغوية وما من صراع بشري إلا ويبطن في جوفه صراعاً لغويا حتى قيل انه يمكن صياغة تاريخ البشرية على أساس صراعاتها اللغوية). وعن النظرة التاريخية لمسار الحضارات قديمها وحديثها تابع الرديني قائلا (تكشف لنا ما تشكله اللغات من أثر في التنافس الحضاري، وكيف ان اللغة تعد الدعامة الرئيسة لكل حضارة وما من حضارة اندثرت أو ضاعت في متاهات الزمن إلا وكان للغة الدور الأكبر من ذلك من حيث هي عنصر فاعل في تفوق حضارة ما على حضارة أخرى، ولذلك فان صراع الحضارات يغدو في مساره التاريخي صراعا لغويا تنوب اللغة عنه كونها تجسيدا للهوية الحضارية في صراعها وتنافسها ليستحيل في النهاية انتصار اللغة أو هزيمتها، فالصراع اللغوي ليس معناه صراعاً من أجل لغة بنظامها الصوتي أو بنيتها النحوية والصرفية بقدر ماهو صراع أفكار ورؤى تحيل الى مرجعيات بسياقات متعددة فكرية ودينية واجتماعية وثقافية).

وعن ما تطرحه العولمة اليوم أشار الأديب(هذا ما يجعل مسألة الصراع الحضاري خاضعاً لمبدأ الأحادية التي تنفرد بالهيمنة على العالم كله، ولا تقبل صراعا على أساس الندية بل تسعى الى إعادة تشكيل العالم وفق النموذج الأمريكي الذي يعكس ممارسات القطب الأوحد بهويته ومرجعيته، محاولاً فرض ستراتيجيته التي تقوم على محو الآخر وإلغائه ومحاربة مقوماته الحضارية وطمسها ليحيل العالم الى دائرة مغلقة ثم من خلالها احتواء العقل الإنساني وإرادته وتفكيك بنيته الثقافية وأنظمته الفكرية لصالح حضارة واحدة هي حضارة الأقوى بتجلياتها المتعددة ثقافياً وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا ولغوياً، وكأن العولمة في طروحاتها تلك قد آمنت بمقولة اينشتاين (العالم إما كل واحد وإما لا شيء).

 ولما كانت العولمة تهدف الى تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله، فإنها في مسألة اللغة تسعى لتغليب لغة على حساب لغات أخرى بدعوى التواصل بين شعوب العالم وبناء العالم وبناء جسور التقارب والتفاهم والاندماج من خلال لغة عالمية واحدة لاسيما وان عصر العولمة هو عصر تتساقط فيه الحواجز اللغوية والحدود الإقليمية وتغدو شفافية التواصل هي السائدة في التفاعلات الحياتية، إلا ان السياقات التاريخية قد أثبتت صعوبة بل استحالة ذلك الحكم القديم الذي راود البشرية منذ أمد بعيد في عالم واحد يتكلم لغة واحدة ويتواصل البشر خلاله بطرائق متماثلة).

وشدد الرديني على (ان التنازل عن اللغة يعني تنازلاً عن الهوية والانتماء والتخلي عن الخصوصيات الثقافية). مشيرا بان (العولمة اللغوية في توجهها إنما تتجاهل التنوعات الحاصلة بين التجمعات الإنسانية وذلك بمحاولاتها إذابة الحواجز الثقافية واختراقها عبر لغة تواصلية تنزع نحو الانتشار والتوسيع، ما يعني ان المشهد اللغوي في العالم اليوم وتفعيل العولمة يتجه نحو تهميش لغات العالم وطمسها لصالح لغة واحدة متسيدة، ان عملية الهيمنة اللغوية التي تقوم عليها العولمة وما يستتبع ذلك من تغلغل في النسيج الثقافي والبنية الحضارية إنما يؤدي بالضرورة الى صدع جدار الأمة وحضارتها وبالتالي يكون مؤشرا من مؤشرات تحطم مقومات الذات وطمس هويتها، مما ينذر بأسباب سقوط الأمم والتنازل عن اللغة الأم والتخلي عن ارثها التاريخي الممتد عبر حقبة زمنية تمثل الفضاء الحضاري لهذه اللغة، وهو حكم على تلك اللغة والثقافة المنتمية لها بالموت، وهو ماتقدم عليه بعض الشعوب رغبة منها كما تظن في اللحاق بالتقدم الحضاري الذي اقتنعت به زيفاً، ويتم هذا الأمر عن طريق التنازل عن القيم والممارسات التي تمثل شخصية الأمة وتميزها).

واستطرد قائلاً (قدم المجلس البريطاني عام 1995 إحصاء جاء فيه، ان خمس سكان العالم يتكلمون الانكليزية بدرجة ما وان الحاجة من الباقين لتعلمها في ازدياد مستمر وبحلول عام 2000 سيكون هناك بليون شخص يتعلمون الانكليزية وستصبح اللغة الانكليزية هي اللغة الرئيسية لكثير من القطاعات التقنية وغيرها).

ومضى قائلاً (ان اللغات إزاء هذا التفوق للانكليزية تواجه تحدياً لغويا نوعيا لم يسبق له مثيل في المراحل التاريخية السابقة، تحد يقوم على تفوق لغة عالمية هي الانكليزية والتي تقوم بعملية غزو لغوي كبير تسعى من خلاله الى محاصرة اللغات والتضييق عليها ومحاولة التغلغل الى عمقها وتفكيك نسيجها اللغوي وتمزيقه وبعثرة أبنيتها التركيبية وأنظمتها الصوتية وخلخلة دلالاتها المعجمية وصولاً الى تمكين الانكليزية مكان هذه اللغات ومن ثم خلق فجوة لغوية بين تلك اللغات وشعوبها الأمر الذي يؤدي الى قطع أواصر الإيصال ومن ثم انعدام مقومات البقاء والوجود لتلك اللغات وبالتالي موتها واندثارها). كما أشار الرديني ان (عشر لغات تتبعثر سنويا من بين 6000 لغة نصفها على الأقل يواجه الخطر، اذ أكدت بعض الأبحاث ان أكثر من 2500 لغة مهددة بالاختفاء على المدى القصير).

مضيفا ان احد الخبراء أوضح (ان 234 لغة أصلية معاصرة اختفت كليا، ويحذر الخبراء من ان 90% من اللغات في العالم سوف تختفي في القرن الواحد والعشرين، كما توقع خبير ان يشهد القرن الواحد والعشرين اختفاء خمسة آلاف لغة يجري استخدامها حاليا نتيجة الانتشار غير المحدود للانكليزية). ونوه الرديني (ان بعض المختصين باللغات يرون ان اللغات التي ستكون ذات تأثير عالمي وحضور واسع الانتشار هي أربع لغات فقط، وهو ما أعلنه الاسباني كاميلو جوزي الحاصل على جائزة نوبل في الادب عام 1989 اذ رأى ان اغلب اللغات تنسحب من ساحة التعامل الكوني وستتقلص في أحجام محلية ضيقة ولن يبقى من لغات البشرية إلا أربع لغات قادرة على الحضور العالمي وعلى التداول الإنساني هنّ الانكليزية، الاسبانية، العربية والصينية).

وعن مواقف الدول ومعالجة هذه الحالة توصل الرديني الى (ان مواقف الدول وحكوماتها وشعوبها تباينت تجاه استفحال ظاهرة عولمة اللغة الانكليزية التي غدت تشكل تهديدا ستراتيجياً للهوية الحضارية لكل الأمم وبلا استثناء، اذ ان اللغات أضحت أمام واقع مصيري، فإما ان تقاوم وتستجلب أسباب البقاء والصمود وتكون في منافسة نوعية وإما ان تستسلم وتنهزم وتحكم على مستقبلها بالفشل والموت والانعدام، لذلك فان العالم اليوم يحاول ان يقاوم التسرب اللغوي الخارجي وان يضع حداً لتغلغل اللغة الانكليزية الى داخل مجتمعاته وذلك عبر وسائل متعددة وأساليب مختلفة منها سن قوانين وتشريعات، ومنها محاولة إيجاد تحالفات بين الدول التي تعتمد لغات من أصل مشترك أو السعي نحو إقامة المؤتمرات والمنتديات والمنظمات والمؤسسات العلمية والثقافية وهو ماتفعله كل من فرنسا وألمانيا واليابان والصين، ولكن أين العرب من هذا كله؟

شبكة النبأ المعلوماتية- االثلاثاء  8/تموز/2008 - 4/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م