إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول ما يُسخط الرب،
ولكنّا بفقدك أيها الرّضا لمحزونون.
رحيلك عنّا في وقتٍ كنّا نتطلّع فيه لعطائك الكبير، لهو من أكبر
الامتحانات التي نمرّ بها، وهو في حقيقته مصيبةٌ عظمى، نعيش ألمها
بقلوبنا ومشاعرنا.
إن مشاهد تشييع سماحة الفقيه الربّاني آية الله السيد محمد رضا
الشيرازي في عصر يوم الأربعاء الموافق 30 جمادى الأول 1429هـ (4
يونيو 2008م) في كربلاء المقدّسة تُعبّر عن مدى عظمة هذا الرجل،
ومكانته في القلوب المؤمنة، وأقولها بضرسٍ قاطع إن القلوب التي
شاهدت هذا التشييع المهيب، كانت تُشيّع مع الجماهير المؤمنة
الجثمان الطاهر.
فإلى روحه المقدّسة، وجسده الطاهر الذي أبى إلا أن يكون بجوار
جدّه الحسين ، نرفع سلامنا، ودعاءنا له بحياةٍ خالدة في جنّاتٍ
نعيم، مع أجداده الطاهرين محمدٍ وآله الميامين.
ولي في هذه الوقفة القصيرة مع سماحة السيد محمد رضا الشيرازي
عدة نقاط:
أولاً- تجلّيات الروح المحمّدية
إن من يقترب من سماحة السيد ويعرفه عن قرب، ويحضر مجلسه، أو
يستمع إلى محاضراته، يكتشف بوضوح عمق التجلّي للروح المحمّدية في
شخصية هذا العالم الكبير، فتواضعه، وأخلاقه السامية تُبؤ عن شخصيةٍ
دأبت على حب أهل البيت والتزمت بخطهم ونهجهم القويم.
ثانياً- العطاء العلمي
قد يتوفق إنسان لمحامد الخصال، وعظيم الأخلاق، إلا أنه ليس
بالضرورة أن يكون مناراً للعلم، أما سماحة السيد محمد رضا
الشيرازي، فهو من أؤلائك الذين وفّقهم الله تعالى لعظيم الأخلاق،
ومحاسن الصفات، وفوق ذلك كان قمةً في العطاء العلمي، فقد أحرز درجة
الاجتهاد في سنٍ مبكرة من عمره، ودرّس البحث الخارج في الحوزات
العلمية لقرابة (25) سنة. وكلما صادف أن عُرضت له محاضرة في قناة
الأنوار الفضائية، أجد نفسي منشدّة لمتابعة حديث سماحته، فهو يشدّك
بأسلوبه، وبغزارة فكره وعلمه وتحليله.
ومن مؤلفات هذا الرجل الفقيه: كتاب "الترتب" وهو بحث أصولي
معمّق كتبه للعلماء والمجتهدين ونال بسببه عدة إجازات اجتهاد، وله
تفسير للقرآن الكريم تحت عنوان: "التدبر في القرآن" طُبع منه
مجلدان، إضافةً للعديد من المؤلفات الأخرى.
ثالثاً- تطابقٌ بين القول والفعل
إن من أصعب الأمور التي قد يسقط في امتحانها الكثير، هي أن
تتطابق أقوال الإنسان مع أفعاله. وكون الإنسان في مرتبةٍ علمية
مرموقة، فإن الحاجة لتطابق القول مع الفعل يكون أكثر إلحاحاً، وقد
تجلى هذا الجانب المهم بوضوح في شخصية سماحة السيد محمد رضا
الشيرازي، وقد سمعنا هذا الكلام نظرياً ومن بعد، وعندما التقينا
سماحته وجدنا ذلك عملياً وبمرأى من أعيننا، فشخصيته متطابقة مع
قوله وحديثه، وبذلك استحقّ هذه المحبة الكبيرة في قلوب المؤمنين.
رابعاً- غصنٌ من شجرةٍ مباركة
الأسرة التي يتربى فيها الإنسان تؤثر أثراً كبيراً عليه، فإذا
كانت تلك الأسرة تحمل من المعارف والعلوم وعظيم الخصال الشيء
الكثير، فإن تلك المحاسن تنغرس في نفوس أبنائها، وهذا يدفعنا لأن
نُحصّن أسرنا لكي نضمن الثمار التي ستنتجها هذه الأسر.
وأسرة الشيرازي غنية عن التعريف لدى المجتمع الإسلامي قاطبةً،
فهي تضم أساطير العلماء والفقهاء في تاريخ التشيع، ومما يُميّز هذه
الأسرة العظيمة، أنها لم تُنجب علماء وفقهاء فحسب، وإنما أنجبت
مجاهدين في سبيل الحق والقيم، فمن هذه الأسرة الميرزا حسن الشيرازي
"صاحب ثورة التنباك"، والميرزا محمد تقي الشيرازي "صاحب ثورة
العشرين في العراق". وأما زعيم هذه الأسرة في عصرنا الحاضر هو والد
هذا الرجل الكبير سماحة الإمام المجدد الثاني السيد محمد مهدي
الحسيني الشيرازي.
وفي هذه الأسرة العريقة، والتي خرّجت أمثال هؤلاء المجددين
والذين وضعوا بصماتهم المميزة في تاريخ المرجعية وتاريخ التشيع
بشكلٍ عام، نشأ وترعرع سماحة السيد محمد رضا، فلا غرو أن يتسمّق
هذه المكانة العلمية الرفيعة، وأن يكون مناراً وعلماً ونوراً
يُهتدى به في زمنٍ تكالبت فيه قوى الشيطان والشر من أجل إخضاع
إنسان هذا العصر لمغريات الدنيا، ولزخارفها الزائلة.
حسن الختام
أبرز ما يهتم به الإنسان في حياته يظهر في اللحظات الحرجة منها،
وهل هناك لحظات أكثر حرجاً من شعور الإنسان بقرب أجله، ودنو رحيله،
وهنا يُكشّف للعيان أين يكون اهتمام هذا الإنسان، ومن ذلك الاهتمام
تظهر مكانته، وقيمته الحقيقية.
وما يؤكد لنا بأن سماحة السيد كان يشعر بندو أجله، تلك القصاصة
الورقية التي كانت بجيبه يوم رحيله، وقد تعجّبت كثيراً عندما دققت
النظر فيما خطّته يمين سماحته ودوّنها في تلك القصاصة التي عرضتها
قناة الأنوار الفضائية، وكأنه يتمثل جدّه رسول الله في لحظات
رحيله الأخيرة، فقد كتب سماحة السيد ما يؤرق تفكيره ليل نهار، وما
يُمثّل أعظم اهتماماته، إنه ذلك الحديث الذي ردّده رسول الله في
لحظات حياته الأخيرة، حيث كان يقول: «إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم
به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي». فيالها من وصيّةٍ عظيمةٍ
من قائد البشرية رسول الله ، واليوم تتجلى هذه الوصية من هذا الرجل
الكبير، والفقيه العظيم.
ومن المؤسف جداً أن يبقى حال مجتمعنا هكذا، بأن تُكشف حقائق
العظماء بعد رحيلهم، فيتندم الجميع على فقدهم، وإلى متى نبقى هكذا
نجهل عظماء أمتّنا، وكبار شخصياتها، سواءً على المستوى الإسلامي
العام، أو الشيعي الخاص، أو حتى على المستوى المحلي، ففي منطقتنا
علماء وشخصيات كبار، في مختلف المستويات والميادين، إلا أنه محكومٌ
علينا أن نجهلهم حتى إذا ماتوا عرفناهم، فترحمنا عليهم، وإذا تركوا
خلفهم تراثاً فإن كنّا نبرّهم سنهتم بتراثهم، وإلا قد يضيع تراثهم
بعد مماتهم كما ضاعوا فينا في حياتهم.
وأخيراً نرفع تعازينا الحارّة لمقام قائدنا وإمامنا صاحب العصر
والزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، وإلى مقام المرجعية سيما
المرجع الديني سماحة السيد صادق الحسيني الشيرازي، وإلى سماحة آية
الله السيد مرتضى الشيرازي، وإلى جميع آل الشيرازي، بهذا المصاب
الجلل، ونسأل الله تعالى أن يُلهمهم ويُلهم جميع القلوب التي شيّعت
الفقيد السعيد بالصبر والسلوان، وأن يخلف على الأمة بالخلف الصالح،
كما يقول جلّ ثناؤه: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (البقرة، 106).
وإلى روح الفقيد السعيد، والفقيه الكبير، سماحة آية الله السيد
محمد رضا الشيرازي نقرأ جميعاً سورة الفاتحة. |