في ذكرى الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كم نحن
بحاجة لان نحذو حذوها ونتبع خطواتها... ولانقيد أنفسنا بصفاتها فهي
بنت مَنْ زوج مَنْ أم مَنْ. نحن بحاجة أن نقف المواقف الصلبة وان
نخطو الخطوات الثابتة فلطالما تفرّق الناس عن الذين يسلكون طريق
ذات الشوكة وارتاحت أنفسهم لسهولة العيش وطلب الراحة وأظن أن مواقف
الزهراء عليها السلام ما كان ليثبت الرجال على المطالبة بها فأي
الدروس نستسقي من معين فاطمة الزهراء عليها السلام في ذكراها
الخالدة.
1. الثبات على المواقف:- يتطلب الثبات على الموقف الأيمان
بالقضية لتحمل الصعاب وُبعد الأقربين ولومهم وتقبل التهم والمحاججة
فيها ونصر الدنيا الذي لايأتي. فعندما طالبت الزهراء عليها السلام
بحقها في ميراثها ثبتت في المطالبة وحشدت الحجج التي انطلقت بها في
خطبتها وأفحمت السلطة... كان بإمكانها أن تترك لأمير المؤمنين عليه
السلام هذه المهمة.. كان بإمكانها أن تستعين بالمؤمنين الأكثر قرباً
ومعرفة بتفاصيل هذه الحقوق المالية ليكونوا شهوداً ولكنها انبرت
لهذا الأمر بنفسها لتبعث أكثر من رسالة مازلنا إلى يومنا هذا
نستشهد بها ونتعلم منها. فلو كانت تريد أن تثبت موقفاً ليس ألا
لقدمت طلبها دون المحاججة والثبات والإصرار على الموقف فقط لتعطي
درساً وهي القدوة بالمطالبة بالحقوق وإسقاط الفرض ولكنها مارست دور
المعارضة للسلطة كاملاً فأرسلت برسول يفاوض الرئيس في مسألتها
ويطالب بحقها كخطوة أولى.
ثم بدت بالمواجهة والتصدي بنفسها في اجتماع خاص غير معلن لكشف
النوايا وتوضيح الأمور. ثم أنها أعلنت الأمر في خطبة عصماء في
المسجد وأمام الملأ، مما أفحم السلطة وأجبرهم على زيارتها
والاعتذار منها. ثم استمرت بفعلها المعارض بتأليب الجمع واستغلال
جميع الفرص السانحة فخطبت بالنسوة من المهاجرين والأنصار ووضحت
الكثير من الأمور وهي إن لم تستطع أن تطيح بالسلطة ولم تسترد حقها
في حياتها ألا إنها أعلنت نقمتها ومعارضتها بوصيتها المعروفة بان
لايحضر احد من خصومها عند دفنها وتجهيزها عليها السلام لتذكّر
بمخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه واله وتمنح القوة لحجتها وحقها
فيما بعد فهو القائل (صلى الله عليه واله) ((رضا فاطمة من رضاي
وسخط فاطمة من سخطي)).
2. القوة في الحجة:- من اجل لفت الأنظار إلى أي فكرة أو موضوع
أو قضية لابد من ترتيب الأفكار ووضع الدلائل الثبوتية والحقائق
الموضوعية تحت اليد وطرحها على طاولة المناقشة والحديث الواحدة تلو
الأخرى لإفحام المقابل ولردعه ومنعه من التجاوز ولجمع المؤيدين
والمظللَين بالأفكار الخاطئة.. فكم من حاملي مبادئ وقضايا عظيمة
أساءوا طرحها وإبرازها على الملاء فضاعت قضيتهم بسوء التدبير وقد
كانت الزهراء عليها السلام من أفضل مَنْ استعان بكتاب الله وسيرة
أبيها صلوات الله وسلامه عليه وعلى اله، فقد حشدت كل المعاني التي
تحرك العواطف والناس حديثي عهد بفقد الرسول صلى الله عليه واله
فكانت تستعين بتلك الحقبة الذهبية في إرجاع الناس إلى عقولهم ومنع
السلطة من الاستحواذ عليهم بحجة بليغة وبقول سديد ولا يتصور من
يقرأ سيرتها عليها السلام أنها امرأة عاشت بعد أبيها للأحزان
والبكاء فقط بل أنها أدت دوراً رفيعاً متميزاً... وحتى عندما ظهرت
للناس ذاهبة إلى المسجد النبوي الشريف حيث تحدثت بحديثها ذكّرت
الناس بسيرها ومشيتها التي كانت مشابهة لمشية الرسول صلى الله عليه
واله وحديثها وصوتها وطريقتها كل هذا له الأثر في شحذ الهمم
والعواطف معاً.
وهذا ما نحتاجه اليوم في جميع قضايانا فضلاً عن الاستعانة
بمواد القانون، وبالدستور، وبالمعاهدات والمواثيق الدولية وليس
بالطرح السياسي فقط فتلك أدلة مادية تفحم المقابل وبين ثناياها
يمكن الحديث سياسياً فلكسب قضايا الأمة لا يكفي الحديث دون الأدلة
الدامغة كأجوبة على مدعيات المقابل فالزهراء عليها السلام وان لم
تسترجع فدك ولكنها جعلت الخليفة أبو بكر يبكي ويقول ((أقيلوني
بيعتي)) اعترافاً منه بالخسارة.
3. توجيه مسار الحديث:- ما من شك أن المظهر العام لموضوع مطالبة
الزهراء عليها السلام هو المطالبة بإرثها وحقها الشرعي ألا أنها
عليها السلام اتخذت من هذا الموضوع الفرعي قليل الشأن والأهمية
بالنسبة لها اتخذته سبيلاً لتوجيه الأنظار إلى موضوع أهم واكبر
وأكثر أثراً في الأمة فقد سنحت الفرصة لها لتؤدي دورها في كشف
السلطة وتبيان أن الذي يخطأ في المسائل الشرعية وحقوق الناس
ويتعامل معها على هواه وكما يريد من الأسهل عليه أن يتلاعب بمصير
العباد ويحكم الشعب بحكمه لابحكم الشرع أو القانون أو الدستور أو
أي ضابط من الضوابط التي تتفق عليها الأمة ومثل هذا لا يليق أن
يخلف رسول الله صلى الله عليه واله ولا يليق أن يقف على شؤون الناس
التي تحررت من الجاهلية وانفتحت على معارف الإسلام.
كما لا يليق بأمةٍ أي امة في أي زمن أن ترضى بالأدنى مع وجود
الأعلى وأن تحتكم للجاهل مع وجود العالم أن تسلّم شؤونها للظالم
والفاسد مع وجود العادل. وقد يقول قائل لابأس باتخاذ مثل هؤلاء
مستشارين وأصحاب رأي في حاشية السلطة وأقول لا يوجد رأي افسد من
هذا فان المستشارين لايبتكرون المواضيع ولا يبتدعونها ولكنهم
يجيبون ويعطون المشورة في المسائل التي يطرحها الرئيس والحاكم وليس
لهم الحق في فرض الآراء عليهم وكم من رؤوس لمستشارين اطيحت بسبب ما
ادعوه بأنه تجاوز على سلطاتهم. وما كان ليقال
(الرجل المناسب في المكان المناسب) لولا وضوح فساد عكس ذلك. ولهذا
انتهجت فاطمة الزهراء عليها السلام نهجاً لم تلتفت إليه السلطة ففي
الوقت الذي تصوروا أنهم سيضعفون حجتها ويقللوا من شأن قضيتها قامت
عليها السلام بتحويل القضية إلى رأي عام وقدمت الحجة والفرق عندما
قالت في خطبتها عليها السلام ((فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد
صلى الله عليه واله بعد اللتيا والتي وبعد أن مُني ببُهَم الرجال
وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها
الله أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في
لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه
مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله صلى
الله عليه واله سيد أولياء الله، مشمراً، ناصحاً، مجداً كادحاً،
وانتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون)) فأين هذه المقارنة
وتوجيه الأنظار من موضوع الإرث والحق الشرعي.. ذلك أن الصديقة
الطاهرة عليها السلام وظفّت هذه الفرصة السانحة وهذا الحدث
التاريخي لقضية اشمل وأعم وفي صميم قضايا الأمة والتي جلبت
بتداعياتها الويل والثبور إلى يومنا هذا ولعل هذا الدرس من ابلغ
الدروس وأكثرها أهمية في واقعنا السياسي الحالي.
4. الشجاعة:- لا يُنكر ما تحلّت به الزهراء عليها السلام من
الشجاعة في أقدامها على المطالبة بالأسلوب وبطريقة العرض التي
يسردها التاريخ. وفي الحقيقة أن أي موضوع يُقدّم للعرض بحاجة إلى
شجاعة ولكن عندما يكون أطروحة معارضة للحكم وسائرة عكس التيار وفي
ظل ظروف يكتنفها الحذر هذا بالتأكيد بحاجة إلى شجاعة مضاعفة ونحن
لانستغرب ذلك من بضعة الرسول صلى الله عليه واله ولكن أنا أرى أن
العبرة المستقاة من موقف الزهراء عليها السلام وشجاعتها يتطلب
الاقتداء وهي لم تضرب هذا المثال ليتغنى به الشعراء أو ليذكره
التاريخ رمزاً لها بل ليحذو حذوه الناس وحري بالمرأة أن تكون أول
من يقتدي به ففي ذات الوقت الذي كانت به الزهراء عليها السلام تشكو
بثها وحزنها وهي تطوف بقبر أبيها معبرة عما يجول بخواطرها من
مكنونات الألم والأسى قائلةً:-
قد كان بعدك انباءًُ وهنبثة لو كنت
شاهدها لم تكثر الخطب
أنا فقدناك فقد الأرض وابلها واختل قومك
فأشهدهم ولا تغب
قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا فغاب عنا فكل
الخير محتجب
وكنت بدراً ونوراً يستضاء به عليك ينزل من ذي
العزة الكتب
تجهمتنا رجال واستخف بنا إذ غبت عنا فنحن
اليوم نغتصب
فسوف نبكيك ما عشنا ومابقيت منا العيون بتهمال
لها سكب
في ذات الوقت فهي تبرز بقوة وشجاعة لتسمع القوم وتذكرهم
وتبكيهم. نعم هكذا هي الزهراء البتول بنت أبيها (صلى الله عليه
واله) وما قدمت من دروس وعبر في عمرها الغض الفتي لجامعة تخرجت
منها العديد من النساء اللواتي وقفن المواقف المشرفة ونحن ألان في
معرض الذكرى نسأل نساء اليوم كم تعلمن من هذا الدرس وكم منهن يليق
أن يصفها القوم بفاطمية الخطى ومَنْ ستلتقطها (عليها السلام)
كالتقاط الطير للحب. |