هذه المرة من القطيف، في المنطقة الشرقية من المملكة العربية
السعودية، حين قاد الشيخ مخلف بن دهام الشمري يوم الجمعة قبل
الفائت وفدا سنيا مكونا من ستة أشخاص للصلاة في أحد مساجد الشيعة
المعروفة، وبإمامة الشيخ السعودي حسن الصفار، مسجلا بذلك أول سابقة
في المملكة للصلاة المشتركة بين المسلمين السنّة والشيعة، ومبادرا
إلى تغيير القناعة السائدة باستحالة التلاقي الديني بين الطرفين.
جاءت المبادرة من الشيخ الشمري ردا على البيان الطائفي الذي
وقعه 22 من العلماء السلفيين، والذي حاول إحياء الفكر التكفيري من
جديد، واتهام بعض الأطراف الإسلامية بأنهم صنيعة اليهود لمجرد
اختلافهم معهم في العقيدة، ووصف حزب الله بالحزب الفاجر، على رغم
جهوده في مقاومة العدوان الإسرائيلي!! ومبادرة الشيخ مخلف الشمري،
هي رد عملي بالغ الدلالة على أن المملكة العربية السعودية ودول
الخليج، بل ومجتمعات العالم الإسلامي كافة، ليست حكرا على
المتشددين والمتطرفين، فلايزال للعقلانية والاعتدال مكان رحب في
نفوس المجتمعات العربية والخليجية، وأن التطرف والتشدد ليسا سمة
الإسلاميين كافة.
حتى وقت قريب، كانت الصورة السائدة عن المملكة، والتي حاول أن
يرسمها مشايخ الدين المتشددون، هي تصدير الفتنة الطائفية إلى دول
الجوار، وإثارة الخلافات حول قضايا ومسائل عقائدية وفقهية، بمبرر
ومن دون مبرر، فلا أحد يستطيع أن يجيبك عن ماهية المشروع الذي
تستهدفه الفتنة ودويها الهائل، لكن الكثيرين لا يترددون في إبداء
استعداداتهم المادية والمعنوية لدعم الفتنة ودعاتها المتشددين.
لقد أثرت تلك الجهود بصورة ملحوظة على سمعة المملكة، ولاسيما
أنها البلد الأكثر تأثيرا وأهمية في المنطقة، بسبب تاريخ المملكة
والأماكن المقدسة التي تحتويها، كما أنها اللاعب الأساس الذي يحدد
جهة البوصلة للبلدان الإسلامية الأخرى، لكن المؤسسة الدينية في
المملكة استغلت تلك الاعتبارات السابقة لتحويل المملكة حاضنا مهما
للحركة السلفية المتشددة، وللتوسع على حساب الأطراف والمؤسسات
الدينية الأخرى، وهو ما حدث بالضبط، حيث توسعت المؤسسة الدينية
المتشددة، وتحولت إلى جماعات وحركات وكيانات قائمة بذاتها، وكما
خرج من رحمها مدارس سلمية تميل إلى الدرس الديني والتوجيه الأخلاقي،
فإنها خرّجت إلى جانبهم جماعات تميل إلى التطرف والتشدد الديني،
وكانت حاضنا لجماعات السيف والمنسف، وتحول بعضها إلى عبء على
الدولة السعودية ذاتها.
وتفاقمت هذه الحدة مع دخول المنطقة في توترات سياسية وعسكرية
حادة، فكانت فرصة للفئات المتشددة لاستغلال مكانة الدولة وموقعها
الديني للتأثير على الحالة الإسلامية، وتوجيه الفكر الإسلامي نحو
التصادم مع المدارس الدينية والتكوينات الاجتماعية، فصعدت موجة
التكفير، وبدأت لغة الطرد من الدين بالتكاثر بصورة مفاجئة في
العالم الإسلامي، واستعيدت مصطلحات وممارسات عصر الفتنة بين
الدولتين العثمانية والصفوية، ولم يسلم من تلك الاتهامات، لا
الشيعة بمدارسهم المتعددة، ولا السنة المعتدلون، أو المختلفون مع
المدرسة السلفية، ولم تكد تنتهي تلك الموجة التكفيرية إلا وبرزت
على الساح فرق جديدة من داخل المدرسة السلفية تدعو إلى تكفير
الحكام، وتُبرر أعمال العنف ضد الدولة والمجتمع.
ويبدو لي أن هذه مفارقة جديرة بالدراسة والتتبع.. فعلى الرغم من
أن السلف التقليديين لا يرون الخروج على الأنظمة القائمة، ويقرون
بإمارة الحاكم، ووجوب السمع والطاعة، وسرية النصيحة لأولي الأمر،
إلا أن ثقافتهم التي لا تخلو من التشنج ضد المختلفين معهم،
والقائمة على البحث عن محطات نزاع مفتعلة حول قضايا لا تتصل بحياة
الناس وهمومهم الحقيقية، جعلت منهم العباءة الواسعة التي يتخرج
منها دعاة العنف.
ومن المؤسف أن تلك التوجهات المتطرفة لعبت دورا أساسيا في تقويض
جهود الوحدة والسلم الداخلي التي قادتها نخبة من علماء ومثقفي
الأمة، كما أسهمت في تنحية المساعي الطويلة التي حاولت المؤسسات
الدينية والوحدوية أن تفعلها لمصلحة مشروع ومستقبل الوحدة
الإسلامية، فقد نجح الفكر المتطرف في إثارة الشكوك تجاه تلك الجهود
والمساهمات، بما أدى إلى تقويضها واضمحلالها شيئا فشيئا.
في الآونة الأخيرة بُذلت جهود في عكس هذا الاتجاه، ويبدو لي أن
العديد من الأطراف بدأ يستشعر ضرورة محاصرة خط الفتنة، وأكاد أتلمس
ذلك عند العديد من الأطراف السنية والشيعية المعتدلة والواعية، كما
أتلمسها عند بعض أقطاب الدولة السعودية.. فعلى رغم استمرار فكر
الفتنة، فإن العشرات من الكتابات والخطابات والمبادرات بدأت
بالحديث بصوت مرتفع حول وحدة الأمة، والاستهزاء برجال الفتنة،
والتأكيد على أضرار خط الفتنة على الإسلام وصورته في الداخل
والخارج، وكذلك على مستقبل وصورة الدولة السعودية أمام العالم
الإسلامي والغربي.
وأعتقد أن مبادرات في حجم مبادرة الشيخ الشمري وأمثالها، هي
كفيلة بزحزحة فكر التطرف عن الساحة، والانتصار لخط الاعتدال، لأن
الكثير من سوء الفهم بين الأطراف الإسلامية ناتج عن عدم التعارف،
وجهل كل طرف بطبيعة وعقائد وأفكار الطرف الآخر، وهو الأمر الذي
يمكن تجاوزه بالحوار، وإسقاط الحواجز، وحسنا فعل شيعة القطيف في
تشكيل وفد مكون من خمسين شخصا للصلاة في أحد مساجد السنة، فالتحية
ترد بمثلها، أو أحسن منها.
إن رعاية مثل تلك الجهود الوحدوية كفيل بتحويل دور علماء الدين
في المملكة من داعم للفتنة الطائفية، إلى رافد للوحدة الإسلامية،
وأحسب أن العقلاء داخل المملكة سواء في الحكم، أو في المؤسسات
الدينية المعتدلة قادرة على تحقيق ذلك وأكثر.
* كاتب كويتي
ahmed.shehab@awan.com |