تستطيع العقول البشرية الواعية أن تحول الأحداث التي تمر عليها
إلى محطات تفكر وتأمل يُستخلص منها الدروس والعبر تؤطر لحياة
ومستقبل البشر، ولم يكن في المخيلة أن محطة من هذه المحطات تنقلها
رسالة قصيرة أُرسلت صبيحة يوم الأحد 26من جمادى الأولى فحواها: عظم
الله أجوركم في سماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي. فكانت
بالفعل إحدى المحطات والوقفات التي تستحق منا التفكر والـتأمل في
شخصية علمية كمثال يحتذى به في عالمنا الحالي.
• ما السر الخفي الذي حملته شخصية السيد
محمد رضا الشيرازي؟
عرفت الأوساط الدينية والحوزوية خصوصاً في قم المقدسة آية الله
السيد محمد رضا الشيرازي قدس الله نفسه كشخصية وككفاءة علمية
حوزوية تتنامى قدراتها وجوانبها المعرفية والأخلاقية يوماً بعد يوم،
فتنبأت له بمستقبل واعد كطود وعلمٍ من أعلام الفقاهة والعلم في
عصره.
لكن ما أحب أن أركز عليه في هذه الوقفات عبارة عن إشارات تأمل
في حياة السيد الجليل ليست لها علاقة بالجانب العلمي والمعرفي الذي
امتلكه، فهو جانب شهدت به الأوساط الدينية والعلمائية في قم والنجف
وكربلاء فلقب بالعالم والفقيه المجتهد بما احتوت عليه الكلمة من
معنى.
إن المتتبع لحياة هذا السيد الجليل يجدها شخصية ظلت لفترة طويلة
غير معروفة إلا ضمن إطار الحوزات العلمية والأوساط الثقافية، ولم
تـأخذ بعدها الحقيقي في الأوساط الاجتماعية والإعلامية إلا بشكل
متواضع حتى بعد وفاة والده المرجع الديني سماحة آية الله السيد
محمد الحسيني الشيرازي أعلى الله مقامه.
لكن مع وجود الانفتاح الإعلامي أسهمت بعض الإذاعات والفضائيات
وشبكة الانترنت في نقل محاضراته الدينية والأخلاقية إلى عامة الناس،
إلا أن من يراه عن قرب أو بعد يجد فيه جانباً و سراً وعمقاً
إيمانياً لايمكن وصفه تجلت بعض جوانبه لمن عاش معه وتتلمذ على يديه
وسمع لإرشاداته الدينية والعقائدية.
لعل أولى الوقفات والأسرار التي تكتنف شخصية هذا العالم: الصدق
وشدة الخوف من الله، فشتان بين عالم يحمل علماً ولايعمل بعلمه وبين
عالم يعمل بما يعلم، فكان سماحة السيد الشيرازي عالم عامل بعلمه
وتجسدت معرفته الإيمانية في تهذيب نفسه وتقويمها، فكان جديراً بأن
يُعرف بالعالم الرباني وهي صفة أولياء الله الصالحين.
ولعل في الكلمة التأبينية التي ألقاها سماحة المرجع آية الله
السيد صادق الشيرازي دام ظله في حقه إشارة إلى هذا الجانب بقوله: (كان
يخافك ويخاف فيك )، وهي كلمة من فَمِ عالمٍ ومرجعٍ يقول ما يرضي
الله بعيداً عن الميول والهوى، وهي شهادة عالم رباني إلى عالم
يستحق تلك الشهادة وليست شهادة عم لابن أخيه.
و بالفعل استطاع سماحة السيد أن يهذب نفسه ويروضها رياضة
روحانية تجلت في سلوكياته وحسن تعامله وأخلاقه التي شهد مع
المخالفين قبل المريدين، فكانت ابتسامته الإيمانية التي ارتسمت على
وجهه البوابة التي استطاع من خلالها الدخول إلى كل قلب من رآه
وسمعه، وهي صفة المؤمنين السالكين طريق النجاة فحاكى وَمثل بأخلاقه
سيرة محمد وأهل بيته الطاهرين ، الذين هم قدوته في كل عمل وسلوك،
وانطبق عليه قول الإمام علي (عليه السلام): إنّ الله تعالى يحب
المؤمن العالم الفقيه، الزاهد الخاشع، الحيّي العليم، الحسن الخلق،
المقتصد المنصف.
أما الوقفة الثانية والملفتة في حياة هذا السيد الجليل: أن كثير
من العلماء الذين وصلوا إلى هذه المنزلة الرفيعة من العلم والرقي
عن عالم الماديات يعيشون حالة من الاختلاء والصفاء النفسي والذهني
بعيداً عن جو المجتمعات في عالم خاص بهم، لكن السيد محمد رضا
الشيرازي بالرغم من امتلاكه لسمات الأخلاق وفصاحة المنطق والفقه
وكل تلك الفضائل لكنه أبى إلا أن يكون له الدور الرسالي والتوعوي
تجاه المجتمعات المسلمة، لأنه ركز على الجانب الأخلاقي الذي يُقوم
ويؤسس لباقي احتياجات البشر لكي يرقوا بحياتهم ومستقبلهم وتوجهاتهم
الفكرية والعلمية وبناء مؤسساتهم الاجتماعية، آخذاً بقول النبي
الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما بُعثت لأتمم مكارم
الأخلاق، فكانت كلمته الطيبة التي تعود الناس سماعها منه تجسيداً
للكينونة التي تحتويها شخصيته العملاقة.
أما الوقفة الثالثة: هي مع سر الكلمة التي تطلقها شفتاه الدالة
على زخم العلم والمعرفة والدقة في التعبير وترابط الأفكار فيما
يطرحه، فبالرغم من كلماته البسيطة والمفهومة لكنها قوية في محتواها
ومضامينها وذات تأثير سحري في نفوس متلقيها.
ولم يكن سهلاً على أي متحدث أو عالم مهما كانت براعته وقدرته أن
يملك قلوب الملايين في العالم بهذه السرعة الفائقة التي تسبق عمره
وزمانه، فجسد السيد الشيرازي البعد الإيماني والروحاني الذي شعر به
الناس عبر إطلالة وجهه واستشعار جانب الإخلاص وصفاء السريرة
وشفافية القلب التي جمعها في كلمات أرسلها لقلوبهم المتعطشة للغذاء
الروحي والإيماني في عالم تكالبت فيه معظم البشر على الماديات
والشهوات.
فنبرته الهادئة التي يطلق بها كلماته النورانية، المدفوعة بقوة
الإيمان والأخلاق وإشارات هادئة من يديه ونظرات ترتسم على عينيه،
كانت كسحر خفي يجذب المستمع والناظر إليه تنطلق كسهام موجهة تخترق
مسافات شاسعة لكي تتربع في قلوب سامعيها ومتلقيها، وبالفعل كانت
كلماته مدرسة أخلاقية وتربوية تسمو بنفسها عن عالم الماديات إلى
عالم ذي قيمة وتوجهات سامية تلامس الواقع وتتطلع إلى المستقبل،
واستطاع من خلالها أن يربط الناس بعالم الدين والقيم ويذكرهم
بخالقهم وآخرتهم.
أما الوقفة الرابعة والأخيرة: وهي الأعجب في هذا الرجل أنه كان
دقيقاً في محاسبته لنفسه، وهذا ما لاحظه الناس من خلال كلماته
المتأنية التي تطلقها شفتاه وهي في الأساس كلمات نصح وإرشاد، فكان
يتأنى ويفكر مع كل كلمة ترد في خاطره ليعرف دقتها وصحتها ثم يتفوه
بها !!، آخذاً بقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق آية 18.
و هنا وقفة مهمة تتجلى فيها النظرة العميقة لهذا السيد الجليل
من خلال تعاطيه مع روايات أهل البيت (عليهم السلام) فتجده حريصاً
على نقل رواياتهم بالنص لا بالمعنى عبر ورقة أو كتاب بين يديه، وهي
سمة واضحة بوجود عمق إيماني وتكاملي لهذا السيد الجليل، لكي لا يخل
نقلها بالنقص أو المعنى عن مقصدها ورسالتها، و لكي لا تفهم بمعاني
وتفسيرات أخرى، وتدل أيضاً على حرصه واحترامه لرواية المعصومين (عليهم
السلام) التي كان بمقدوره أن ينقلها محفوظة عن ظهر قلب.
ولفتة أخيرة نذكرها: فالمدقق في خط الورقة التي وجِدت في جيب
ثوبه، يتيقن أنه كتبها قبل وفاته بفترة قصيرة جداً، وكأنه شعر بدنو
أجله، وطلب فيها المعذرة ممن أحاط به، وحذف ما ينبغي حذفه شرعاً من
محاضراته، لكي يخرج من الدنيا وليس في رقبته حق لأحد، فكانت برهاناً
ناصحاً على قمة ورعه وتقواه ودقة محاسبته لنفسه، لدرجة يحاسب فيها
نفسه على عمل الخير الذي عمله، ويطلب فيها الصفح ممن أحاط به وهو
بهذا المستوى من الورع والتقوى !!.
• وقفات مع السيد محمد رضا الشيرازي
لعلي أستذكر وقفات متواضعة مع هذا السيد الجليل منها: عندما
تشرفت بزيارة سماحة السيد محمد رضا الشيرازي قدس الله نفسه في قم
المقدسة أوج حرب تموز على لبنان، كان من ضمن الحضور علماء وشخصيات
من لبنان يتحدثون عن الخراب والدمار الذي لحق بهم جراء العدوان
الغاشم للعدو الإسرائيلي، فدخل السيد محمد رضا الشيرازي، فأخذوا
يتحدثون عن هذه الحرب وتداعياتها، وأن كل شيء لحق به الدمار وأن
الهزيمة قريبة من إخواننا في لبنان، ثم رأيت سماحة السيد تبسم
ابتسامته الإيمانية وقال لهم: إذا كان لقوى العالم حساباتهم، فلله
حسابات لا يدركها ولا يعيها البشر وإن الله ناصر عباده المؤمنين.
!! فتعجب كيف يتحدث بهذه الثقة وهذا الاطمئنان، لكنها ثقة الإيمان
بالله واليقين بنصره.
وكان لي موقف آخر عندما حضرت له مجموعة من الأخوات الزائرات
فكان يتكلم معهن من وراء ستار، وهي قمة الورع والاحتياط، فطلبت
أحداهن التقاط صورة له للذكرى، فرد عليها مخاطباً: ( السيرة خير من
الصورة ) !!.
وشاءت الأقدار أن اسمع صوته قبل شهر من وفاته فكانت لدي قضية
أسرية طال التردد فيها، عندها قررت أن استخير عند سماحة السيد قدس
الله نفسه، فاتصلت به هاتفياً وسلمت عليه فبادلني بالتحية والسلام
وسؤالي عن اسمي وسبحان الله قال لي: إياك أن تفعل هذا الأمر ففيه
ندامة الدنيا والآخرة، فكان كلام السيد فيصل القضية، فبعد مدة من
الزمن كان بالفعل ما قاله السيد هو الصحيح، فتيقنت أنه رجل ينظر
بنور الله، لذلك قال الباقر (عليه السلام): اتقوا فراسة المؤمن
فإنه ينظر بنور الله، ثم تلا هذه الآية: { إنّ في ذلك لآيات
للمتوسّمين }.
• لماذا كُلُ هذا الحزن على السيد
الشيرازي؟ !!
لعل البعض لم يكن يتوقع أن يحظى هذا العالم بهذه المكانة
والمنزلة في قلوب الملايين من البشر، لكن خبر وفاته وماخلفه من حزن
وبكاء في نفوس المنصفين والمحبين، والبيانات التي أصدرتها مكاتب
المراجع في الحوزات العلمية في قم والنجف وكربلاء وشخصيات سياسية
وعلمائية وثقافية في أنحاء متعددة من العالم التي أثنت على مكانة
الفقيد ودوره الإسلامي والرسالي، لهي دليل على ثقل ودور هذا العالم
الكبير.
وبانت الحقيقة صادعة للعيان في التشييع المهيب لسماحة السيد
الشيرازي في قم المقدسة بحضور كبار العلماء والسادة وشخصيات من دول
مجاورة بالإضافة إلى الآلاف من الأوساط الشعبية الإيرانية، وكانت
المفاجأة عند دخول جنازة السيد الجليل أراضي الرافدين فتهافتت
الجموع على الطرقات المؤدية إلى كربلاء مروراً بمدن أخرى، ولم تكن
مدينة جده أمير المؤمنين (عليه السلام) أقل حزناً من غيرها، فكان
الحضور العلمائي والجماهير الشعبية التي هبت لتشييعه، أما المفاجأة
الكبرى فكانت عند جده الحسين (عليه السلام) بكربلاء حين تفاجأ
العالم بتمثيل وحضور رسمي وشعبي من جميع المنظمات والتكتلات
والأحزاب العراقية، والآلاف المؤلفة التي قُدرت بمليون ونصف
المليون فكانت صورة واضحة على مكانة السيد الشيرازي وحبهم له.
كنت أتذكر في هذا المقام عندما وصل إليّ الخبر المشئوم عن سماحة
السيد فسالت دموعي على خدي دون إرادة، وكان بصحبتي أحد المتسمين
بالمتدينين، فنقلت له الخبر، والعجيب أنه لم يحرك ساكناً كأنه خبر
عابر مثله مثل أي خبر يسمعه. !!.
لذلك جاء أحدهم بعد فترة ليقول لي: لماذا كلُ هذا الحزن على
السيد الشيرازي؟ !!، فلم أجد إلا أن أقول له ولأمثاله: إن من السذج
من يعتقد أنه الأوعى والأفهم من غيره، فأنا أنتمي إلى مدرسة تعلمت
منها أن أنظر لكل شخص بعلمه وعمله ومكانته، لا بتوجهه وفئته
وشريحته، لأني بمستوى أحترم فيه كل إنسان، وكل عالم وعامل في مدرسة
الولاء لمحمد وآله (ص)، لذلك حزن قلبي على كل عالم أخلص العمل أياً
كان توجهه وصفته، فبهذه العين بكيت السيد الخميني والسيد الحكيم
و... واليوم أبكي السيد محمد رضا الشيرازي، فعجباً لك أبعد كلُ ما
قلت جئت تسألني: لماذا كلُّ هذا الحزن على السيد الشيرازي؟ !!.
عذراً سيدي محمد رضا، فلا أملك أن أكتب فيك شعراً أو أخط
بأناملي نثراً، لكن فراقك خلف في قلبي حسرةً، فوا أسفاه على طود
العلم والتقى.
* كاتب وباحث سعودي – الأوجام
والمسئول الإعلامي لمركز الأسرة للتدريب
بالقطيف |