وحدها الأرض الخالية من التجمعات السكانية البشرية، تشهد هدوءا
واستقرارا دائما، فحيثما وجد بشر، وفي أي بقعة من بقاع الأرض، كان
هناك نزاعات وصراعات واختلافات.
وليس من المعيب أن نختلف في تصوراتنا، أو أن نتنازع في تحقيق
إرادتنا، فنحن -جميعا- لا نتفق في رؤيتنا للأشياء، وفي فهمنا لما
يحيط بنا، فما هو بديهي عند الآخرين قد لا يكون بديهيا عندي، وما
أعتقده أنه تصرف صحيح، قد تعتبره تصرفا خطأ، ولكن من المعيب حقا،
أن لا نفهم طبيعة اختلافاتنا، ولا نسعى إلى تقريب مسافات تصوراتنا
المتباعدة.
خلل في المجتمعات الإنسانية أن تطلق عنان النزاعات والاختلافات
والصراعات بين أفرادها، دون ضوابط إنسانية واجتماعية وثقافية تشكل
مصدرا ومرجعا في استتاب الأمن والاستقرار في البلاد، وهناك مشكلة
حقيقية في أن لا نمتلك الأدوات والوسائل التي تساعدنا في إطفاء
حرائق النزاعات التي يمكن أن تندلع في أي وقت أو ظرف تتوفر فيه
مصادرها.
وبالتالي، فكما هو مطلوب أن يكون في بيت كل واحد منا، صيدلية
طوارئ، فان المطلوب أيضا أن يكون لدينا- أفرادا ومؤسسات ودولا-
وسائل وأدوات لفض النزاعات وحلها بعد تشخيصها، لأن النزاعات - في
حقيقتها- مرض اجتماعي يمكن أن يصيب فردا أو مجموعة أفراد، وقد
يقتصر على الأطراف المباشرة لها، وقد تتعداها إلى غيرهم، فيكون
أشبه بالمرض المعدي الذي يمكن أن يصيب آخرين ليسوا طرفا فيها، وذلك
عندما تتحول النزاعات إلى حروب تأكل اليابس والأخضر.
من الضروري أن يكون لدى المتطوعين في فض النزاعات والاختلافات
معرفة جيدة بأصول ومصادر النزاعات والاختلافات، ومن الضروري أن
يكون العاملون في النزاعات مختصين وعارفين في طبيعة تلك النزاعات،
لان ذلك يجعلهم اقدر إلى طرح الحلول المناسبة التي تتلاءم مع أسباب
وطبيعة مصادر النزاعات.
ويمكن أن نقسم أهم أسباب النزاعات إلى الآتي:
-النزاعات الدينية: وهي النزاعات التي تحدث بين أتباع الديانات
المختلفة، سواء كانت الأديان سماوية أو وضعية: كالدين الإسلامي،
والمسيحي، واليهودي، والهندوسي، مثل النزاعات بين أتباع الدين
الإسلامي والدين المسيحي في فلسطين، وحالة النزاع الديني في
إندونيسيا بين المسلمين والمسيحيين، أو هي تلك النزاعات التي تنشب
بين أتباع المذاهب التي تتبع دينا واحدا، كالصراعات بين الكاثوليك
والبروتستانت في الدين المسيحي، وبين السنة والشيعة في الدين
الإسلامي، أو كالنزاعات التي تحدث بين أتباع المذهب الديني الواحد،
كالنزاعات بين المعتدلين والمتطرفين في المذهب السني.
-النزاعات السياسية: وهي الصراعات التي تنشب بين الأطراف
السياسية المختلفة، فتارة تكون بين حزبين أو أكثر في إطار الدولة
الواحدة مثل النزاعات التي تحدث في كل الدول التي تؤمن بوجود
الأحزاب في بلادها. وقد تتوسع لتكون بين دولتين أو أكثر على مسائل
تجارية أو مسائل حدودية، وقد تحل بالوسائل السلمية المعتادة أو
تتوسع إلى صراعات عنيفة وقتال يذهب فيه العشرات القتلى من الطرفين،
كالصراع بين العراق وإيران الذي استمر حوالي ثمان سنوات من القتال
العنيف، وبين الكويت والعراق والذي تطور إلى غزو واحتلال.
- النزاعات القومية: وهي الصراعات التي تنشأ بسبب الانتماء إلى
الأعراق المختلفة، ورؤية كل قومية أن لها أحقية في الوجود والعيش
الأفضل، ولها الحقوق والامتيازات دون القوميات الأخرى، كالنزاعات
العرقية بين الأكراد والعرب في العراق، وبين الأكراد والأتراك في
تركيا.
- النزاعات الفكرية: وهي النزاعات التي تندلع بين أتباع الأفكار
والتوجهات المختلفة، حيث يرى كل منهم أحقية وصحة الأفكار التي
يحملها، ويريد أن يطبقها في الأوساط الاجتماعية التي يعيش فيها،
ويرفض بشدة وجود اتباع الأفكار الأخرى، كالنزاعات الدائرة في
البلاد الغربية وأمريكا بين العلمانيين والإسلاميين، أو بين
القوميين والإسلاميين في البلاد العربية.
- النزاعات الاقتصادية: وهي النزاعات التي تنشأ بين طرفين
وطنيين أو دوليين بسبب عامل اقتصادي، أو تجاري، أو مالي.
أما وسائل فض النزاعات، فيمكن تقسيمها إلى وسائل وقائية،
ووسائل علاجية على النحو الآتي:
-الوسائل الوقائية: وهي الوسائل الهامة والضرورية التي تمنع
وترد حدوث أي نزاعات وصراعات قبل حدوثها، وهي تتعلق بطرح الأفكار
والرؤى الإيجابية والاستيعابية والشمولية والمبادئ العامة التي لا
يختلف فيها اثنان، كالتأكيد على الاخوة الإنسانية أو الدينية أو
الوطنية والحرية السياسية، ونشر ثقافة السلام وتغليب أفكار
اللاعنف، واللجوء دائما الى التفاوض والالتزام بالعهود والمواثيق
والمعاهدات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقنين الاختلاف
والتنوع في شكل وثيقة مدنية تتضمن احترام الأطراف كافة.
والتأكيد على أن التعايش السلمي يبنى على أساس الاعتراف
والاحترام المتبادل وحفظ الحقوق الإنسانية والوطنية، ونبذ
المشاحنات والمهاترات المذهبية والطائفية... وإعداد المناهج
التعليمية الداعية إلى السلام والمحبة، والعمل على توحيدها في إطار
البلد الواحد بحيث يتلقى الطلاب، سواء في المدارس الحكومية أو
الأهلية مواد تدريسية تكاد تتفق على مبادئ عامة، وقد أشار القرآن
الكريم إلى هذا كله بقوله "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم" .
- الوسائل العلاجية: وهي الوسائل التي يمكن اللجوء إليها في
حالة نشوب النزاعات والصراعات وتوسعها، كتفعيل مبادئ الدعوة إلى
التفاوض والصلح، واللجوء إلى المحاكم والقضاء، والتدخل الدولي
والإنساني السريع في مناطق النزاعات المختلفة لحماية السكان
المدنيين حماية عامة ضد آثار العمليات العسكرية وتجاوزات الأطراف
المعادية، وذلك من أجل تجنب انتهاكات القانون أو وقفها من جانب،
وحماية أرواح الأشخاص وصحتهم وكرامتهم مع العمل على ألا تؤدي آثار
النزاع إلى تعريض مستقبلهم للخطر من جانب آخر. وربما استخدم القوة
بمختلف أنواعها لمن لا يرجع عن ظلمه بما فيها القوة المسلحة، وهي
حالات استثنائية لا يجب اللجوء إليها إلا في الضرورات.
* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |