شبكة النبأ: إلحاقاً بالجزء الثالث نختتم سلسلة "نهج الاسلام في
نشر السلم والسلام"، بالجزء الرابع، والذي يركز على حرية الأديان
في القرآن الكريم بحسب رؤية الإمام الشيرازي (قدس سره).
حيث يعد الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)
من اهم منظري مشروع السلم الانساني والعالمي حتى ان كتابه الفقه
السلام يعتبر من اهم الكتب المعاصرة في هذا الباب، ذلك ان مشروعه
يمثل تأصيلا حقيقيا لمنهج الإسلام القائم على الرحمة والمحبة
والتعايش البشري والحكمة والموعظة الحسنة.
يقول (ليسنر بيرسون) وهو سياسي كندي 1897_ 1972 م حائز على
جائزة نوبل للسلام عام 1957 م: (ان رضاء الشعوب هو دعامة من دعائم
السلام) وهذه مقاربة فكرية رائعة مع طروحات ونظرية الامام الشيرازي
(رحمه الله) في السلم والسلام.
وايضاً هناك ترابط روحي خلاق في فكر الامام الشيرازي (رحمه الله)
بين السلام والاخلاق، يدعمه العالم (سبينواز) في قوله: (ان السلام
ليس شيئاً اخر غير العزم الذي ينبثق من فضائل الروح).
فالإمام الشيرازي (رحمه الله) يرفض العنف طريقاً للهدف العقائدي،
ويطرح مبدأ اللاعنف والمسالمة بكل مجالاتها واتجاهاتها المتعددة
النظرية والتطبيقية بدلاً عنه، وهو في ذلك يستلهم الفكرة من المنهج
الاسلامي الذي نص عليه القرآن الكريم ورسوله العظيم (ص) واهل بيته
الطاهرين (ع) فيقول (رحمه الله): (من الضروري للمارسي التغيير ان
يعملوا في مقدمة اهدافهم مسالمة الجميع، وأن يعيش الكل بسلام، فكما
ان للأنسان الحق في ان يعيش بكرامة وحرية ورفاه وسلام، عليه ان
يترك الاخرين يعيشون كذلك).
وبناء على ما تقدم فأن الامام الشيرازي عد داعية اللا عنف في
العصر الحديث لماً لطروحاته النوعية والكمية في مبدأ السلم والسلام
والتي تعد مؤشراً مهما للغاية من حيث دلالتها على امكانية التطبيق
الميداني في السلوك والممارسات، فالاتجاهات الاسلامية التي تؤمن
بقوة المبدأ، تستطيع ان تتلمس بدقة وعناية المفاهيم والاراء التي
طرحها الراحل الامام الشيرازي والتي تستند الى مفاهيم ورؤى القرآن
والسنة النبوية وروايات اهل البيت (ع).
أسس تعامل المسلمين مع غيرهم
أراد الاسلام حسن تعامل المسلمين مع غيرهم من الكفار والمشركين
وما اشبه ليطلع الاخرون على عقائد المسلمين وأعمالهم وشعائرهم و
اخلاقهم، حتى يرغبوا في الاسلام عقيدة وعملاً، حيث ان الاسلام جميل
في كل شؤونه فأذا رآه غير المسلم حرضه على المقارنة والمفاضلة بين
الاسلام وما هو عليه وانجذب اليه ضمن مقتضيات حسن العلاقة بينهما.
ومن خصائص السلم والسلام في هذا التعامل انه يؤدي الى تبادل
المصالح والافكار والسلوك والمنافع وتقوية الصلاة سواء كان الطرف
الاخر _ غير مسلم _ من الكفار الذميين، أو المحايدين أو المعاهدين،
بل وحتى المحاربين في بعض الصور، وقد اقتبس البعض هذا الاسلوب
الرائع فسماه بالوحدة الوطنية أو ما اشبه، وقد كان الامر على هذا
الحال منذ فجر الاسلام بين المسلمين ومختلف الكفار، ومن هنا نرى ان
الكفار كانوا يدخلون في دين الله افواجاً، لقد جعل الاسلام علاقة
المسلمين بغيرهم قائمة على اسس عقلية اخلاقية وعلى اكمل وجه...
مبتنية على السلم والسلام وبعيدة كل البعد عن العنف والارهاب، وهذا
مما يؤدي بالنتيجة الى احلال السلام وتأصيله، ومن تلك الاسس:
اولاً: المساواة: فقد قال سبحانه
بالنسبة الى عموم العلاقة بين المسلمين وغيرهم ما سبق من قوله
تعالى: ((يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً
وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير))
الحجرات 13، فلم يخصص الله سبحانه وتعالى هذا الحكم بالمسلمين فحسب،
بل يشمل المسلمين والكفار _ فكلهم متساوون في الانسانية وما يرتبط
بها من القوانين.
كما ان المسلمين متساوون في حقوقهم وواجباتهم العامة، الا اذا
كان هناك استثناء لجهة ، مثلاً الوظائف العامة في الدولة الاسلامية
كلها للجميع فلا يحق ان يقول الحاكم ،اعطي هذه الوظيفة لعربي دون
عجمي، أو الابيض دون الاحمر، أو للمدينة الفلانية دون الفلانية،
الا اذا كان شخصاً أكفىء من شخص اخر حيث تعطي الوظيفة للأكفأ،
وقوله تعالى: ((ان اكرمكم عند الله اتقاكم)) الحجرات 13.
وان كان الكلام في التقوى، لكن قد يفهم منه المعيار كما اشير
اليه في القرآن الحكي: ((ان خير من أستأجرت القوي الامين)) القصص
26، فهو قوي في العمل وأمين في المعاملة، وفي كلام يوسف (ع): ((اني
حفيظ عليم)) يوسف 55، فان العمل يحتاج الى العلم والامانة في الحفظ
فأذا كان احد شخصين له الكفاءة دون الاخر قدم الاول، وهذا ليس ضد
التساوي، وأنما من جهة خارجية انظمت الى احدهما دون الاخر، فأن
الانسان لا يسلم الامور الصغيرة الى من ليس له حفظ أو اذا كان له
حفظ ولكنه لسيت له امانة فكيف بالكبيرة، أو كيف بوظائف الدولة
العامة، وغيرها من سائر المعاملات؟!
ويعرف ما سيق انه اذا لم يكن محذور يكون المسلم والكافر
متساويين ايضاً فأن علياً (ع) صار اجير عند يهودي ، والرسول (ص)
استقرض من يهودي.
ثم لم يقتصر الاسلام في تشريعاته بأصل المساواة بين الانسان
والانسان، بل ذهب الى ابعد من هذا... فقد احل طعام اهل الكتاب في
غير اللحوم فأنها مشروطة بالتذكية، كما احل النكاح منهم حيث قال
سبحانه وتعالى: ((اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين أوتو الكتاب
حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم أذا اتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا
متخذي أخذان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من
الخاسرين)) المائدة: 5.
ثانياً: الحرية: ان الحرية
الاسلامية للجميع، مسلمين وغير مسلمين، ومن الواضح ان تكون الحرية
في أطار الاخلاق والفضيلة والتقوى وعدم الاضرار بالغير وما اشبه
مما هو مذكور في بابه... وكما هو شأن المسلم بعيداً عن الهوى
والرياء والتفاخر وحب الذات والانانية والجاه والسلطان والمال ونحو
ذلك... ولا يكون ذلك ألا بالتعددية في الظاهر وبالخوف من الله
سبحانه وتعالى في الباطن، فأن الايمان رقيب غريب في باطن الانسان
لا يتركه يحيد عن جادة الحق والصواب والخير العام.
والحرية التي قررها الاسلام ليست خاصة بالمسلمين بل تشمل أهل
الكتاب والكافرين ايضاً، وتقتصر على ذكر جملة فيها:
أ- الحرب الدينية: وخلاصتها أن اهل الكتاب وغيرهم لهما الحق في
ممارسة شعائرهم بكل حرية وهم أمنون على عقائدهم، دون ان يجبرهم احد
على تبديل عقيدتهم الى عقيدة اخرى، أو تبديل اعمالهم الى اعمال
اخرى كل في أطار وموازينه.
ب- الحرية الفكرية والثقافية: جعل الاسلام لغير المسلمين الحرية
والفكرية، كما في الحديث والحوار والمجادلة والمناقشة في حدود
العقل والمنطق، مع حث المسلمين وغيرهم على التزام الادب والاخلاق
والبعد عن الممارسات التي يأباها المنطق السليم من الخشونة والعنف،
يقول الله تعالى: ((ولا تجادلوا اهل الكتاب ألا بالتي هي احسن الا
الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي انزل الينا وانزل اليكم وألهنا
وإلهكم واحد ونحن له مسلمون)) العنكبوت 46.
وفي آية اخرى: ((وإنا أو أياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)) سبأ
24.
حيث تدل هذه الآيات على غاية الحنان واللطف والعطف مما لا تتوفر
الى في دين إلهي سماوي، ان الاسلام يعترف بشكل صريح واضح بحق
الحوار والمناقشة بين المسلم وغير المسلم، ولا يقر واقعة إلغاء
الحرية الفكرية والثقافية ومصادرة حق النقاش والجدال.
ج - الحرية العلمية والعملية: الاسلام دين العلم والمعرفة،
والتطور والتقدم، وما من شيء فيه الاويتحدث عن العلم والمعرفة،
والأيات القرآنية والروايات النبوية، وأحاديث العترة الطاهرة (ع)
في هذا المجال كثيرة جداً، وهناك شواهد عديدة على حرية اهل الكتاب
وغيرهم في مجال العلم والتعلم في عصر النبوة وبعدها، وكذلك في
التطور والتقدم العملي، فكانوا يتعلمون الانجيل والتوراة وما اشبه
ويقروؤنها ويؤلفون في ذلك ويعملون فيها، مضافاً الى الحريات الاخرى
التي منحت لهم كالحريات الاجتماعية والتجارية والاقتصادية وغيرها.
ثالثاً : الرعاية وحسن المعاملة:
ولم يقف الاسلام عند حد رعاية الكفار فيما لهم من الحقوق، بل
كان يرعاهم حتى لو أساؤا أولم يكن لهم من الحقوق شيء.
وشواهد المعاملة الحسنة مع الملل المتواجدة في بلاد المسلمين
كثيرة وفي الحديث ان رسول الله (ص) قال: (السلام تحية لمتلتنا
وأمان لذمتنا)، وتحية المسلمين التي تؤلف من القلوب وتقوي الصلات
وتربط الانسان بأخيه هي السلام، قال رسول الله (ص): ((أولى الناس
بالله وبرسوله من بدأ بالسلام)) وبذل السلام وأفشاؤه جزء من
الايمان.
وكثرة تكرار لفظ السلام على هذا النحو، مع احاطته بالجو الديني
التعسي، من شأنه ان يوقظ الحواس جميعها، ويوجه الافكار والانظار
الى المبدأ السامي العظيم المبني على السلم والسلام.
وهذا ما يشمل خيرة غير المسلمين ايضاً فيشكل امس المعاملة
الحسنة معهم... ومن شواهد المعاملة الحسنة: الصحيفة التي وادع فيها
النبي (ص) اليهود وذلك لما هاجر النبي (ص) الى المدينة وأقام اول
مجتمع اسلامي هناك، كتب صحيفة معروفة في السير والتاريخ بصحيفة
المدينة، تحدثت هذه الصحيفة عن علاقة المسلمين فيما بينهم، ثم
علاقتهم مع بطون اليهود المقيمين أنذاك في المدينة المنورة، مما
يعطي درساً في كيفية التعايش السلمي بين المواطنين.
ان اليهود اصبحوا مع المسلمين في المدينة المنورة كأمة واحدة
فاراد الرسول (ص) ان يجعل العيش المشترك على ارض المدينة المنورة
محمياً من أي تصدع واختلاف، فألزم الجميع تلك الوثيقة الواحدة
وبالعيش المشترك على ارض المدينة التي كان يسكنها المسلمون وغير
المسلمين وقد حرض الاسلام على زيارة وعيادة مرضاهم وتقديم الهدايا
لهم ومبادرتهم البيع والشراء وسائر المعاملات، وهكذا عمل المسلمون
طول التاريخ الاسلامي مع غير المسلمين سواء كانوا من اهل الكتاب أو
غير اهل الكتاب.
رابعاً : الحماية والدفاع عنهم
كفل الاسلام لأهل الكتاب وغيرهم حريتهم الدينية وحمايتهم
ومساواتهم مع المسلمين بشرط ان يدفعوا الجزية لدولة الاسلام، كما
يدفع المسلمون حقوقهم الشرعية الخمس والزكاة وما اشبه.
ومعنى الجزية ليس قبيحاً _ كما تصوره البعض _ وإنما هي مشنقة من
الجزء، بمعنى ان جزء من اموال الكفار يؤخذ منهم، مقابل حماية
الدولة لهم، مقابل ما تهيؤه الدولة لهم من الخدمات، كالمدارس
والمعاهد والطرق والمطارات والقطارات وما اشبه ذلك من المنافع
العامة.
فأخذ الجزية من غير المسلمين، هو بدل اخذ الزكاة وما اشبه من
المسلمين.. وانما الفرق في اللفظ فإن الجزية أخذ جزء من مال الكفار
في مقابل الزكاة التي هي عبارة عن التزكية والتطهير.
بل أحياناً جعل التزامات غير المسلمين أقل من التزامات المسلمين
كما يدل على ذلك نظام الضريبة في الاسلام.
أما بالنسبة لحمايتهم فقد وردت جملة من الروايات في ذلك منها ما
ورد عن رسول الله (ص): (من أخذ شيئاً من اموال اهل الذمة ظلماً فقد
خان الله ورسوله وجميع المؤمنين).
وعنه (ص) أيضاً: ((من ظلم معاهداً كنت خصمه)).
وفي الأية: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم
يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا أليهم ان الله يحب المقسطين *
أنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم
وظاهروا على اخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون))
الممتحنة 8_ 9.
حرية الاديان والمعتقدات في القرآن
من مبادىء الاسلام المهمة الواجبة التطبيق هو مبدأ تنعم الانسان
بالسلم والسلام، والامن والحرية، وأن لا يكره إنسان على رأي خاص
ونظرية خاصة سواء ترتبط بالكون أو الطبيعة أو الانسان، وحتى في
قضايا الدين فالمقرر عدم الأكراه في الدين.
ومن ادل الأيات القرآنية على مبدأ عدم الإكراه في الدين قوله
تعالى: ((لا إكراه في الدين)) البقرة 256.
وقوله عزوجل: ((لكم دينكم ولي دين)) الكافرون 6.
وقوله تعالى: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع
وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً)) الحج 40.
أشارة الى الاديان الاربعة التوحيدية، وحتى المجوس كان اصل
دينهم الدعوة الى التوحيد وأنما خالطته الاهواء فصاروا ثنوية (المانوية
مذهب يقول بإلهين أثنين، أله للخير وإله للشر)، كما ان الاهواء قد
دخلت دين المسيح (ع) فصاروا مثلين، حيث قال سبحانه: ((ولا تقولوا
ثلاثة انتهوا )) النساء 171.
وقوله تعالى: ((فذكر أنما انت مذكر * لست عليهم بمصيطر))
الغاشية 21_22.
وقوله سبحانه: ((أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
وهو اعلم بالمهتدين)) القصص 56 الى غير ذلك من الأيات.
وعلى هذا فالاسلام لا يرغم احد على اعتناق عقيدة معينة، ولا
يكره غير المسلمين على اعتناق عقيدته ليكونوا مسلمين، وإنما كان
يدعو الناس الى دين الاسلام بالحكمة والموعضة الحسنة، ويدعوا الى
استعمال العقل والنظر فيما خلق الله من اشياء، ويقول لكل انسان أن
شئت السعادة الابدية في الدنيا والآخرة فعليك ان تعتنق الاسلام عن
رغبة وأختيار، كما قال سبحانه: ((ومن يتبع غير الاسلام ديناً فلن
يقبل منه وهو في الأخرة من الخاسرين)) آل عمران 85، شي أخر، ثمة
فرق قصي بين الاثنين لا يمكن التغاضي عنه.
فقد ترك الاسلام للأنسان الحرية الكاملة لأختيار آرائه وأفكاره
وعقائده التي يرتضيها لنفسه حيث خلقه مختاراً وخلق له العقل، ولذا
يقول سبحانه: ((لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) البقرة
256.
وقال تعالى ((ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً أفأنت
تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) يونس 99، فأن الله لا يكره نفسه
فهل للرسول (ص) ان يكره؟ وهل لمن يقتدي بالرسول (ص) الحق بالقسر
والاكراه؟
ويقول: ((وما كان لنفس ان تؤمن ألا بأذن الله ويجعل الرجس على
الذين لا يعقلون)) يونس 100.
ولذا لم يعهد عن رسول الله (ص) ولا عن امير المؤمنين علي (ع)
أنهما اجبر الناس على الاسلام، أن النبي الاعظم (ص) لم يكره احد من
اسرائه على الاسلام ، وكذلك كان اصحاب النبي (ص) يفعلون مهتدين
بنوره ومقتدين بمعلمهم الاول.
ولم تتعرض الدول الاسلامية في مختلف العصور لغير المسلمين من
اهل الكتاب وغيرهم، في عقائدهم وعبادتهم، ولا تزال الكنائس وسائر
دور العبادة موجودة في الدول الاسلامية الى عصرنا هذا.
ان الحرية التي قررها الاسلام ليست خاصة بالمسلمين بل تشمل
الكافرين ايضاً، فلأهل الكتاب وغيرهم ان يمارسوا شعائرهم بكل حرية
وهم آمنون على عقائدهم دون ان يجبرهم احد على تبديل عقائدهم الى
عقيدة اخرى، أو تبديل اعمالهم الى اعمال اخرى .
الاسلام والتعايش السلمي
اصبح الفرق الشاسع واضحاً بين تهذيب الاديان والحضارات للأنسان
من جهة، وبين تهذيب الدين الاسلامي وحضارته له من جهة اخرى فكانت
حضارة الاسلام وتهذيبه مبتنية على السلم والسلام، على عكس غيره.
ويتضح ذلك بتصفح التاريخ وبملاحضة الكتب والقوانين المدونة
فالدين الاسلامي على مافي القرآن الكريم وسنة رسول الله (ص) وسيرة
الخلفاء الواقعين بعده من الائمة الطاهرين (ع) تدل على شمولية
السلم و السلام حتى لسائر الاديان، ويظهر جزء من ذلك في الاحتجاجات
بين الرسول الاعظم (ص) واهل بيته الطاهرين (ع) وبين المشركين و
الملحدين ومن اشبه .
كما ترى في التاريخ الاسلامي كثيراً من حكام المسلمين، الذين لم
يكونوا قساة على انفسهم وعلى غيرهم... كانوا يعاملون اليهود
والنصارى واتباع سائر الأديان والمذاهب بالتسامح واعطاء الحريات.
مثلاً: كان اليهود قبل الفتح الاسلامي بالاندلس يرضخون تحت تعسف
القوط، وظلوا على ذلك زمناً طويلاً الى ان دخل المسلمون الاندلس
فخلصوهم من هذا الاضطهاد وسمحوا لهم بحرية طقوسهم وحرية العمل
وحرية التجارة التي كانت محظورة عليهم من قبل، وأباحوا لهم ان
يمتلكوا بعد ان كانت الملكية محرمة عليهم، ولهذا نهضوا واشتهر
بعضهم في العلم والادب، بعد ان استنشقوا نسيم الحرية.
يقول احد الغربيين: (وكان في الاندلس طبقة العبيد ورقيق الارض
فقد رحبوا بالمسلمين الفاتحين، ليخلصوهم من قيود سادتهم القوط، ثم
اعتنق الكثير منهم الاسلام واستمتعوا في ظلال الحكم الاسلامي بحقوق
مدينة كانت محظورة عليهم، فصاروا يزرعون الارض وينتفعون بثمراتها
ويؤدون عنها خراجها للدولة، ولم يحدث ان اجبرت الدولة احد على ان
يسلم، ولقد استطاع النصارى ان ينهضوا بدينهم وينشروا مذهبهم، وهم
في رعاية المسلمين وفي حكمهم وفي العصر نفسه رسخت اقدامهم في مصر،
فأذا كانت الطوائف النصرانية الاخرى قد اخفقت في أظهار مثل هذا
النشاط القوي، فأن المسلمين ليسوا هم المسؤولون عن هذا الاخفاق،
اذا كانت الحكومة الاسلامية تعامل الطوائف المسيحية كلها على حد
سواء، وكانت تحمي بعضهم من اظطهاد بعض).
يقول (ترينون) في كتابه (اهل الذمة في الاسلام) (شهد البطريق
عيشوا أبان اثناء تولية منصبه... ان العرب الذين مكنهم الرب من
السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، أنهم ليسوا اعداء
النصرانية بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قدسيتنا وقسيسينا، ويمدون يد
العون إلى كنائسنا وديننا) .
ويقول (الكونت بندري دي كاستري): (وإذا انتقلنا من الفتح الأول
للإسلام إلى استقرار حكومته استقرارا منظماً رأيناه أكثر محاسن
وأنعم ملمساً بين مسيحي الشرق على الإطلاق، فما عارض العرب قط
شعائر الدين المسيحي بل بقيت روما نفسها حرة في المراسلات مع
الأساقفة الذين كانوا يرعون الأمة الخالية).
وفي سنة ( 1053م) كتب عالمهم إلى مسيحي إفريقيا يوصيهم باعتبار
أسقف؟مطرانا عاماً بينهم، وكان الوئام مستحكماً بين المسلمين
والنصارى حتى إن (غريغور السابع) كتب إلى النصارى يلومهم على
المحاكمة مع أسقفهم أمام المسلمين إلى إن يقول: لقد أبقى المسلمون
سكان الأندلس على دينهم وشرعهم وقضائهم وتوليهم بعض الوظائف حتى
كان منهم موظفون بخدمة الخلفاء وكثير منهم تولى قيادة الجيوش وتولد
عن هذه السياسة الرحيمة انحياز عقلاء الأمة الأندلسية إلى المسلمين
وحصل بينهم زواج كثير وكانت حرية الأديان بالغة منتهاها، لذلك لما
اضطهدت أوروبا اليهود لجؤوا إلى خلفاء الأندلس في قرطلة، ولكن لما
دخل الملك (كارلوس) سرقسطة أمر جنوده بهدم جميع معابد اليهود
ومساجد المسلمين.
ولما فتح العثمانيون القسطنطينية كان أكثر الشعب النصراني في
عيشه الكارثة ينقرون من أي اتفاق مع كنيسة روم الكاثوليكية ، اشد
من نفورهم من الاتفاق مع المسلمين.
لماذا رحبت الشعوب بالفاتحين؟
ولهذه الأسباب رحبت الشعوب بالفاتحين... وحقيقة الفتوحات
الإسلامية هي القضاء على الظلم والطغيان من قبل تلك الحكومة التي
كانت تعمل لكما هو خلاف الإنسانية، وهي أيضا وفي نفس الوقت دعوة
للشعوب لاعتناق الدين الإسلامي باختيارهم ومن دون إكراه، وذلك
لمبادئه السامية السمحاء، وأسلوب هذه الدعوة لم يكن القوة والقسر
والضغط ولم يكن الإكراه فيه وسيلة من وسائل الدخول في الدين كما
قال سبحانه: ((لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) البقرة
256، وإنما كان السبيل هو النظر المتريث والبحث المتأني واستعمال
العقل وإعمال الفكر الرصين، والنظر في ملكوت السماوات والأرض.
أما النصارى وغيرهم من الأديان وحتى المشركين، فلم يبدأ الرسول
بقتل احد منهم، وقد أرسل (ص) رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع
الملوك يدعوهم إلى الإسلام.
ومن هنا لا تعتبر الفتوحات الإسلامية حروباً توسعية، ولا
استعمارية، ولا استثمارية، ولا تنازعيه، بل هي الدعوة الدمثة
اللينة إلى دين متكامل من ألفه إلى يائه، فإذا وقف احد في سبيل هذه
الدعوة بتعذيب من آمن بها، أو وضع العقبات في سبيل تقدمها، أو حد
من أراد الدخول فيه، أو حجب الداعي عن تبليغه أو اخذ يخطط لضعضعته
وإيهانه... فأن الإسلام يأمر بعد ذلك، وإذا اقتضى الأمر وجب إشهار
السيف بالقدر الذي يزيل العترة والضرر والاعتداء فقط.
وان الشعوب المختلفة في البلاد المفتوحة رحبوا بالفاتحين
المسلمين اشد ترحيب وذلك لعدة عوامل كانت سبباً في استقرارهم
وأمنهم.
1- المعاملة الحسنة ومنح الحريات : لقد كان المسلمون على امتداد
تاريخ الإسلام يعاملون غير المسلمين أحسن من معاملة أمثالهم لهم،
وقد ذكر (نورمان ليتزانة) لما فتح العثمانيون القسطنطينية، أخذ
الناس يرددون الكلمة المشهورة التي نطق بها رئيس ديني في بيزنطة،
وفي ذلك الحين قال: (لخير لنا إن نرى العمامة في مدينتنا من إن نرى
فيها تاج البابوية) وذلك لأن تاج البابوية كان يضطرهم إلى قيود
كثيرة تحد من حرياتهم وتحملهم وتحملهم مالا طاقة لهم به، وتثقلهم
بما تضييق به النفس البشرية ذرعاً، بينما العمامة الإسلامية لم تكن
كذلك وإنما تعطي لهم الحرية في مختلف مشاريعهم وشعائرهم ولا تحملهم
ما لا طاقة لهم به وما يضيقون به ذرعاً.
2- سيرة المسلمين وتواضعهم: لقد تحدث مندوبو المقوقس عظيم القبط
في مصر بعد إن قابلوا الفاتح الإسلامي، فقالوا: رأينا قوما الموت
أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة ليس لأحد منهم
في الدنيا رغبة كجلوسهم على التراب وأميرهم كواحد منهم، لا يعرف
كبيرهم من صغيرهم، ولا السيد فيهم من العبد، فإذا حضرت الصلاة لم
يتخلف عنها احد ، يغسلون إطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.
ولهذا أحب الكفار المسلمين ودخلوا في دينهم أفواجاً، فالآية
الكريمة تقول: ((ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا)) النصر 2
حيث الكافرون يدخلون في الدين الإسلامي. |