شبكة النبأ: استمرارا لسلسلة "نهج الاسلام في نشر السلم والسلام"
ننشر (الجزء الثالث) والذي يركز على دور الاسلام في بناء الشخصية
الحضارية بحسب رؤية الإمام الشيرازي (قدس سره).
ويعد الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) من
اهم منظري مشروع السلم الانساني والعالمي حتى ان كتابه الفقه
السلام يعتبر من اهم الكتب المعاصرة في هذا الباب، ذلك ان مشروعه
يمثل تاصيلا حقيقيا لمنهج الاسلام القائم على الرحمة والمحبة
والتعايش البشري والحكمة والموعظة الحسنة.
عَملَ الاسلام على تهذيب الانسانية باكملها، وسموها ورفعتها،
ولأجل وصول الانسان الى شاطىء الامان والسلام، لأن الناس في نظر
القرآن الكريم والسنة المطهرة اسرة واحدة متعاونة متكاملة، وكلهم
أخوة كما قال سبحانه في كتابه الكريم: ((أنما المؤمنون إخوة)).
ومن هذا المنطلق قرر الاسلام مبادىء العدالة والمساواة والأخاء
والحرية والامن والرفاه للجميع. واكد على ذلك كثيراً. لأن الاسلام
يحب الحياة ويحرص على الامن، ويؤكد على السلم والسلام، وقد قال
الله سبحانه وتعالى: ((أولئك لهم الامن)).
وقال الله تعالى: ((الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)).
هناك اختلاف كبير بين تهذيب الحضارات المادية للإنسان وبين
تهذيب الشريعة الاسلامية له. أن تهذيب الانسان وسلامته هو احد
المبادىء التي عمق الاسلام جذورها في نفوس المسلمين كما قال سبحانه:
((والله يدعوا الى دار السلام))، فأصبحت جزء من كيانهم وعقيدة من
عقائدهم.
ولكن الانسان يختلف عما هو عليه في الحضارة المادية حينما تزداد
معارفة فتتحدد اهدافه مسيطر على الحياة فيفسدها بعد ان يزداد حرصه
وتتشعب طموحاته، بل هو في الاسلام يعمل من اجل التطور والاستقرار
والازدهار والسلام والتقدم في كافة مجالات الحياة ونواحيها، وقد
امر الاسلام المسلمين بذلك، في الاية الكريمة: ((وأنتم الاعلون)).
فالاسلام هو رسالة السلم والسلام الذي يريد للأنسانية الرقي
والتقدم والحضارة والسكينة والاطمئنان فأن الانسان غير الآمن في
مجتمعه ومسكنه وحياته لا يتمكن من ان يحقق الازدهار والنمو بل كثير
ما يسبب فقدان الامن لناشيء من الخوف ونحوه تحطيم الانسان في
ابعاده المختلفة واستنفاذ معنوياته السامية التي تحافظ على كرامته
وانسانيته.
الحضارات والاديان وبناء الشخصية
ان السؤال المطروح هو: هل تمكنت الحضارات والأديان من بناء
شخصية الإنسان؟
إن الهدف الذي يتوخاه الإسلام ويسعى إليه هو تهذيب الإنسان
وتمكينه من العيش في هذه الحياة الأولى والحياة الآخرة بأمن وسلام،
وقد تحقق ذلك فترة حكومة القوانين الإسلامية التي طبقها رسول الله
(ص) والإمام أمير المؤمنين (ع).
وهذا ما تدعيه أيضا سائر الحضارات والأديان وتسعى إليه، ولكن لم
تصقل سلوك الإنسان وتروض حاجاته ولم تهذب طبيعته تهذيباً كاملاً
حتى في عصرنا الحاضر، فكان التهذيب (على فرضه) بنحو المقتضى لا
العلة التامة، ولم تستطع تحقيق أسباب السلام له على هذه الأرض.
وذلك لأن الإنسان كلما تقدم في الحضارات المادية وزادت معارفه
تعددت أهدافه واستولى على الطبيعة وأفسدها أكثر فأكثر، وزاد حرصه،
وتشعبث مسالك هذا الطموح، ولذا يطلب الإنسان أكثر من القدر المحتاج
أليه، حيث قال سبحانه: ((الذي جمع مالاً وعدده)).
فالإنسان بالإضافة إلى احتياجاته للشؤون الحيوية وجماله العادي،
يريد ان يزداد في كل شيء، بما لا يحتاج أليه أطلاقاً، وحتى يصل إلى
مرحلة الطغيان. كما يشاهد ذلك في غالب الحكام، وقد عد لأحد الحكام
العباسيين بعد موته أربعة ملايين من الشباب. وأخر أربعة ألاف
جارية. وهكذا.. يتسم تاريخ الكثير من المبادئ وتعاليمها بالعنف
والإرهاب.
ولم تستطيع تلك المبادئ بل ولا الأديان السابقة من انجاز هدف
الإنسان وتهذيبه وتحقيق الأمن والسلام له. وذلك بسبب التحريق
المقصود الذي طرأ على الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل.
فنجد على سبيل المثال لا الحصر في (العهد القديم) للديانة
اليهودية يقول في الكتاب المقدس: ((وإذا اقتربتم من مدينة
لتحاربوها، فأعرضوا عليهم السلم أولاً فإذا استسلمت وفتحت لكم
أبوابها فجميع سكانها يكونون لكم تحت الجزية ويخدمونكم، وأن لم
تسالمكم بل حاربتكم فحاصرتموها، فأسلمها الرب ألهكم إلى أيديكم
فأضربوا كل ذكر فيها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم
وجميع ما في المدينة من غنيمة فاغنموها لأنفسكم وتمتعوا بغنيمة
أعدائكم التي أعطاكم الرب إلهكم، هكذا تفعلون بجميع المدن البعيدة
منكم جداً، التي لا تخص هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الأمم
التي يعطيها لكم الرب إلهكم ملكاً فلا تبقوا أحدا منها حياً بل
تحللون أبادتهم).
وكذلك بالنسبة للديانة النصرانية، فأنها لم تستطع تحقيق الأمن
والسلام للإنسان ولم تتمكن من تهذيبه، وقد ورد في (بشارة متى)
المتداول بأيدي المسيحيين بعد أن طرأت عليه التحريفات المقصودة: (إلا
تظنوا إي جئت لأحمل السلام إلى العالم، ما جئت لأحمل سلاماً بل
سيفاً، جئت لأفرق بين الابن وأبيه والبنت وأمها والكنه وحماتها،
ويكون الأعداء الإنسان أهل بيته، ومن أحب أباه وأمه أكثر مما يحبني
فلا يستحقني، ومن أحب ابنه أو ابنته أكثر مما يحبني فلا يستحقني،
ومن لا يحمل صليبه ويتعبني فلا يستحقني، ومن حفظ حياته يخسرها، ومن
خسر حياته من أجلي يحفظها).
ولا يخفى إن عقيدتنا في النبي موسى والنبي عيسى (عليهما السلام)
أنهما من أولي العزم من الرسل، وأنهما مبعوثان من عند أله حكيم
روؤف رحيم، وجاء للعالم بما يقتضي السلم والسلام ومهدا الدين
والإسلام، وقال عزوجل: ((وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من
ربهم ولا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون))؟، فلا نعتقد بمزاعم
هذين الكتابين المحرفين، فلا شك تلك النصوص محرفة حتماً عن
التعاليم السمحاء التي وردت في تلك الكتب المقدسة قبل تحريفها.
ومن خلال مقارنة بين ما ورد في (العهد القديم) و (بشارة متى)
نجد الأول اشد خطراً على الإنسانية من كتب النصارى، فأنه يتحدث عن
القتل والإبادة والإرهاب خلافاً لمفهوم الرحمة والشفقة والأمن
والسلام.
ومن الواضح إن النصرانية تؤيد كل ما كان في الدين اليهودي، وما
ورد في كتابهم، ولذا يتبع النصارى الكتابين معاً، ويسمونها (الكتاب
المقدس) وفي القرآن الحكيم تصديق لهذا الأمر، بالنسبة إلى عمل
المسيح (ع) قبل تحريفهم للكتابين، حيث يقول عن لسان عيسى (ع): ((ورسولاً
إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بأية من ربكم أني اخلق لكم من الطين
كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بأذن الله و ابرىء الأكمة
والأبرص واحيي الموتى بأذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في
بيوتكم إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين * ومصدقاً لما بين يدي
من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم
فاتقوا الله وأطيعون)) آل عمران 49_50.
آراء علماء في الإسلام _ الشيرازي أنموذجا:
هاجس الإنسان الأول هو تحقيق أعلى درجة من الاطمئنان والأمان
والراحة، فهو يدرك المخاطر، ويعلم بضرورة اتخاذ خطوات تبعده عن
الأذى، ومن هنا اختار لنفسه نظاماً وقائياً يحمي نفسه من نفسه،
ويحمي نفسه من الآخرين، فكان أفضل الطرق التي جربها طول التاريخ
مضافاً إلى تصريح المبادئ السماوية بذلك، هو الاهتداء إلى مبدأ (اللا
عنف) أو (المسالمة) كسلوك يدعوا إلى الركون إلى العقل. واللجوء إلى
التسامح. فهو السبيل العقلاني لحل إشكالات العصر المتزاحمة بفعل
توخي الطموحات المتسارعة ونشر الأفكار القسرية على الناس والمجتمع.
وأول دعاة اللا عنف والسلم هم الأنبياء (عليهم السلام)، فالدين
الإسلامي الحنيف صان للإنسان حقوقه ،وحرم الاعتداء على النفس
والغير، وهي ضروريات اعتبرها الإسلام غاية وهدفاً أساسيا ليكون
فرداً فعالاً في بناء الحضارة البشرية وتقدمها وازدهارها.
ومن هنا فأن الأصل في الإسلام والسلم واللا عنف ، وقد كان ذلك
واضحاً في بناء دعوته على السلم والسلام بقوله تعالى: ((ادخلوا في
السلم كافة))؟، وعليه فأن التاريخ الإسلامي والتشريع والفقه
الإسلاميين زاخران بمواقف الرسول الأعظم (ص) والأئمة الصالحين (ع)
بقول الإمام علي (ع): ((فأنهم صنفان:أما أخ لك في الدين، أو نظير
لك في الخلق))، أن الأساس الفكري والتطبيقي للدين الإسلامي قام على
إنسانية الإنسان، أياً كان دينه أو جنسه أو لونه أو عرقه أو معتقده.
فقد قال الله عزوجل: ((ولقد كرمنا بني ادم)) الاسراء 70، وقال
تعالى: ((أن أكرمكم عند الله اتقاكم)) الحجرات 13.
إن الإسلام كدين ونظام كوني ومنهج حياتي يقف من العنف والعدوان
والتعسف والإرهاب موقف المضاد، فكراً وسلوكاً.
وقد استطاع الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)
توظيف نموذج السلم والسلام الوارد في القرآن الكريم وأحاديث النبي
محمد (ص) والأئمة المعصومين (ع) مما يعد شاهداً ومصداقاً لقانون
السلم والسلام في الإسلام ضد العنف والإرهاب.
ولم يحث (رحمه الله) مسألة السلام ضد الإرهاب من الناحية
السياسية كما تطرح في وسائل الإعلام، ومنها على سبيل المثال
الالتزام بقرارات الأمم المتحدة وأنها تؤدي إلى السلام كما يتوهم
البعض لأن هذه المحافل غطاء وستر لتنفيذ مخططاتها.
إن المتناول الأدبي المستل من الشرع الإسلامي يعتبر هو داعية
السلم الحقيقي عبر مقوماتها ومقدماتها الإنسانية. لما له من دوامة
واستمرار بقوانينه السمحة.
والدين الإسلامي دين السلام، ودين محبة بين البشرية جمعاء، وان
الله سبحانه وتعالى بعث للبشرية أفضل السبل عن طريق رسوله محمد
(ص). حيث أرسله رحمة وهدى للعالمين لينير لهم الدروب والسبل ويوضح
لهم طريق الخير والمحبة، فالنبي (ص) وآل بيته الطاهرين هم دعاة سلم
ومحبة ومسالمة، دعاة نبذ العداوة والعنف، وحل المنازعات باللاعنف،
رغم إن الإنسان في تكوينه قد يرغب في القسوة وإتباع طرق العدوان،
إلا إن آل البيت (ع) كانوا اشد رحمة بالبشرية جمعاء.
وقد حمل لواء إل البيت (ع) المرجع الديني الراحل الشيرازي (رحمه
الله ) في عصرنا الحالي. ويعد من ابرز العلماء والفقهاء الذين
تبنوا نظرية السلم واللا عنف في مختلف جوانب الحياة، ابتداء من
علاقة الفرد بذاته، وانتهاء بعلاقته بالأخر أيا كان هذا الأخر
وبمعنى أوضح فأن الإمام الشيرازي (رحمه الله) لم يقصر تنظيره حول
فقه السلم واللاعنف فيما يتعلق بالجانب الفقهي فحسب، بل انطلق
بطرحه ليضفي على هذا المفهوم بعداً اشمل وأوسع برفضه كل إشكال
العنف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأسري وحتى في الحرب وذلك
اعتماداً على إن المسألة نظرية متكاملة، ومنهج سلوك متواصل، وخيار
حضاري، وعليه كان الشيرازي (رحمه الله) داعية اللاعنف ومجدداً
ورائداً في مبدأ السلام ونبذ الإرهاب في حل جميع المشكلات والقضايا
المعاصرة، وكل ما تعانيه البشرية من سلوكيات منحرفة، فانتشار
الأساليب والآليات التي يدعوا إليها سماحته في حل الصراعات الفردية
والجماعية والدولية في طريقها إلى التنفيذ. وما زالت دعواته إلى
المسالمة واللا عنف تجد طريقها إلى التطبيق الميداني، فقد جمع (قدس
سره) في طرحه لمبدأ المسالمة واللاعنف ارقي الاتجاهات والأفكار
المعاصرة، بل تنوعت بإبعادها أكثر مما طرحه (المهماتا غاندي) 1869_
1948 وهو احد ابرز رواد مبدأ اللاعنف في القرن العشرين. وذلك لأن
الإمام الشيرازي (رحمه الله) استلهم هذه الفكرة من القرآن الكريم
وسيرة النبي (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) ومن هنا يتضح أفضلية
أطروحته على سائر الأطروحات الموجودة عالمياً. وربما تجاوز معاصريه
في التقسيمات التخصصية النوعية لمبدأ السلام، فهو بدع بطرحه كنظرية
معرفية تارة وأبدع باعتباره يشكل مدرسة اجتماعية إنسانية لمبدأ
اللاعنف تارة أخرى. فضلاً عن العنصر الفعال في العمل والسلوك أو
التنظير العقلي تارة ثالثة، فقد نسج (رحمه الله) نظرية واتجاهات
متجانسة في السلام واللاعنف تناول خلالها رؤيته وأفكاره وأسلوبه
العلمي وخلفيته كإطار نظري مرجعي للرؤية الإسلامية. ونجح في ذلك
اكبر نجاح.
فحينما يرفض الإمام المجدد (رحمه الله) العنف والعدوان كأسلوب
لحل المشاكل، إنما يستند في ذلك إلى فكر الإسلام القائم على جانب
السلام بقوله: (إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن،
والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء).
وإزاء ذلك عندما يطرح آراءه ونظرياته كاتجاهات حديثة تواكب
السياقات الدولية في رفض التسلط والعنف والإرهاب بكل إشكاله على
الإفراد أو على الشعوب، أنما يستمد رؤيته من القران الكريم والسنة
النبوية وما قاله آل البيت (ع)، وكذلك الاعتماد على الحجج في
المنطق العقلي لاستنباط مبدأ المسالمة، بالإضافة إلى القدرة
الفائقة على الاجتهاد حول قضايا العصر. وكذلك التشخيص الموضوعي
للواقع الإسلامي ومشكلاته.
إن السلام ركيزة أساسية في النظرية السياسية التي يطرحها الإمام
الشيرازي (رحمه الله ) في بحوثه ودراساته وفي ممارساته وتطبيقاته.
فالسلام عند هدف وغاية من جهة، ووسيلة وطريقة من جهة أخرى إي إن
السلام مبدأ استراتيجي شامل، وهو ليس هاجساً كما يتصوره البعض
وإنما هو رؤية سياسية كاملة بدليل الشمولية والتوكيد. فالهاجس طارئ
فيما الرؤية ثبات واستمرار ونظر ودليل.
فنراه (رحمه الله) كقاعدة أولية وكقانون أصلي: (إن الأصل في
الإسلام السلم واللاعنف) وفيه تتفق رؤيته مع الآراء والاتجاهات
النظرية الحديثة في دراسة المجتمعات والشعوب ودعواتها إلى السلم
والمحبة، واستخدام المنطق العقلي، وقوته في قدرة التمييز بين الخير
والشر.
هذه الرؤية هي رؤية الإسلام، الذي يدعوا إلى التفاهم والحوار
وحل النزاعات كافة مهما تغيرت الأزمنة ولا سيما إن الإنسان هو
المخلوق الذي اصطفاه الله بين الكائنات الحية الأخرى لنشر تعاليم
الأديان كافة وحمل الرسالات وإشاعة الصفاء والمحبة بين الجميع.
يعرف الإمام الشيرازي (رحمه الله) مبدأ المسالمة أو اللا عنف في
تطبيقه العملي: ((إن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءاً أو
هدماً، بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى احد من العلاج. فهو بمثابة
البلسم الذي يوضع على الجسم المتألم حتى يطيب))، ثم يضيف: لذا
فالواجب على التيار الإسلامي والدولة الإسلامية، اختيار مبدأ
المسالمة بالنسبة إلى التيار وإبقاؤها بالنسبة إلى الدولة القائمة
حتى تتسع في بعدي الكم والكيف.
ويرى الإمام الشيرازي (رحمه الله) إن السلم يحتاج إلى نفس قوية
جداً تتلقى الصدمة بكل رحابة ولا تردها، حتى وان سمحت الفرصة
بالرد.
ثم يطرح سماحته تقسيماً نوعياً للأعنف أو المسالمة على ثلاثة
أقسام:
الأول: اللا عنف الملكي ، إي تكوين النفس بحيث تظهر على الجوارح.
الثاني: اللا عنف ألقسري الخارجي، إي إن الضعف اوجب ذلك فأن
الضعيف (عادة) يلجأ إلى هذا النوع من المسالمة للوصول إلى هدفه.
الثالث: اللا عنف ألقسري العقلاني، إي إن يرجح اللا عنف على
العنف، من باب الأهم والمهم، وهذا قادر على العنف لا كالثاني، ولا
ينبع اللا عنف عن ضمير وفضيلة، وإنما يرجحه حيث يراه طريقاً للوصول
إلى هدفه.
وهكذا ربى الإمام الشيرازي (رحمه الله) أجيالا على مبدأ اللا
عنف وأسس مدرسة السلم في عالمنا المعاصر _ فهذا نجله أية الله
السيد مرتضى الشيرازي يقول: إن الإسلام يدعو إلى اللا عنف
والمسالمة حتى في اللسان، ويستشهد بقول الله سبحانه وتعالى: ((ولا
تنسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم))
الإنعام 108.
وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): ((إني اكره لكم أن
تكونوا سبابين))، ويصل بالنتيجة بقوله: ((إن من يملك قوة المنطق لا
يحتاج إلى منطق القوة)) .
وعند عرض أراء ونظريات الإمام الشيرازي (رحمه الله) نجدها
مستلهمة من مدرسة القرآن والعترة، وعند ملاحظتها مع الآراء
والمنطلقات الأخلاقية للأديان السماوية منها وغير السماوية،
والاتجاهات الإصلاحية المعاصرة، نجد أنها تتفق مع المنطق الفكري
والسلوكي لمبدأ اللا عنف. فجميعها تدعوا إلى المسالمة واحترام
الرأي والمعتقد عند الإنسان، واحترام الإنسان كمخلوق بشري.
يرى الإمام الشيرازي (رحمه الله) إن قوة الروح غالية على قوة
الجسد وملكة المسالمة واللاعنف من صفات الروح التي تؤثر على سلوك
الإنسان وتصرفاته.
ونلاحظ ترابطاً جدلياً في نظرية الأمام الشيرازي (رحمه الله)
بين السلام العالمي والعدالة الاجتماعية، وهي أطروحة تؤكد عليها
جميع الدراسات المعاصرة بقوة.
آراء علماء الغرب في الإسلام
لا بد من تسجيل بعض الشهادات الصادرة من علماء الغرب التي تشيد
بحقيقة الدين الإسلامي والمسلمين، فأنها شهادة من علماء غير مسلمين
بمدى سلم الإسلام وسلامه.
ونبدأها برأي (الكونت هند ريك) حيث قال: (إن المسلمين امتازوا
بالمسالمة وحرية الأفكار في المعاملات ومحاسبتهم المخالفين).
وهذا يحملنا على تصديق ما قاله (روبنسون) : (أن شيعة محمد (ص)
هم وحدهم الذين جمعوا بني المحا سنة ومحييه انتشار دينهم، وهذه
المحبة هي التي دفعت العرب إلى طريق الفتح، فلم يتركوا أثرا لأفك
في طريقهم إلا ما كان لا بد منه في كل حرب وقتال ولم يقتلوا أمة
رفضت الإسلام).
وقال (غوستاف لوبون) في كتابه، حضارة العرب: (إن القوة لم تصمد
أمام قوة القرآن وان العرب تركوا الماديين أحرارا في أديانهم، فإذا
كان بعض النصارى قد أسلموا واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما كان
يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عند
بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السبل التي لم تعرفها الأديان
الأخرى، فقد عاملوا أهل سوريا ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه
بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين
عليهم سوى جزية زهيدة في مقابل حمايتهم أهم وحفظ الأمن بينهم،
والحق إن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب) كتاب
حضارة العرب.
وهنا لا بد من جواب ما ذكره غوستاف لوبون في رأيه المتقدم مما
صدر من العرب تجاه الماديين أو النصارى وهو: إن المعاملة الرقيقة
لم تتوقف على العرب المسلمين فقط، بل كل الأمة الإسلامية من عرب أو
عجم أو غيرهم كانوا يحملون الإسلام إلى غير المسلمين بهذه الروحية
الرقيقة والمعنوية المفعمة باللطف والحنان والسلام والواقعية، وكان
ذلك بفضل الإسلام، كما لا يخفى، وإلا فتاريخ عرب الجاهلية مليء
بالعنف والإرهاب.
وغزو هذه الفتوحات للعرب فقط من قبل غوستاف لوبون ربما لم تصدر
عن حسن نية وسلامة صدر، فأريد منها إبعاد دور الآخرين من القوميات
المختلفة في هذه الفتوحات.
ومع وجود علماء غرب يعترفون بفضل الإسلام. إلا إننا نشاهد منذ
أخذت الحضارة الغربية بزمام المبادرة، وتسمت مقاليد الأمور اشتعل
العالم بحروب دموية ضاربة لامثيل لها في التاريخ، تجاوزت كل
المعايير والقيم والمبادئ، وحسبنا شاهداً في هذا القرن الحربان
العالميتان ونتائجهما الوضيمة السيئة على البشرية إلى هذا اليوم،
فمن الصحيح إن الحضارة الغربية أمدت البشرية بشيء من الرفاه
والتقدم الضاعي وما أشبه ذلك، إلا انه من الصحيح أيضا والذي لا
يقبل الريبة واللبس أنها دمرت البشرية بالحروب الكبيرة والثورات
الفوضوية والفقر وأمثال ذلك. |