إن ارتباط المجتمع الإنساني بالقيم والدوافع والحاجات العليا
للإنسان، على الرغم من أهمية ضرورات البقاء ودوافعه الحافظة للنوع،
وتلبية الحاجات الفطرية الأساسية, إن هذا الارتباط يجعل لهذا
المجتمع قيمته ودوره البنائي الأساسي في الازدهار والاستقرار
والأمن الغذائي والاجتماعي،والضمانة الحقيقية لحفظ الأمن والسلام
العالمي.
إذ أن هذا الارتباط يخفف من غلواء الانحراف والانجرار وراء
نزعة القطيع في التزام الحاجات الأساسية، والاستناد إلى الغرائزية
في التوجه دون حساب القوة الدافعة إلى الامتداد الحضاري والمدني،
بإشباع هذه النزعات أوتلك، مما تحدد الوظيفة الآنية والمحدودة
للإنسان، وللمحيط الاجتماعي حوله،في تأكيد الحفظ
والصيانة،والالتفاع بالملبس والمسكن، والانتفاع بالطعام
والشراب,والتكاثر والتناسل, وطلب الرزق والتماس سبله بمختلف
الوسائل،ثم الانتقال إلى ألوان الزخرف والرياش والترفيه – رغم
أهمية كل ذلك كما أسلفنا – وهو ما يجنح إليه الإنسان بطبيعته، مع
استخدام قواه وطاقاته وفاعليته وإمكاناته الجسدية والعلمية
والنفسية، لإشباع هذه الأساسيات مهما كلفه ذلك من سعي متواصل،
وتذليل للعقبات، وقهر للصعاب.
وقد تصل درجة الصراع، وقد تنتقل إلى العنف والقتل والتدمير،
ونهب الدول، وسلب إمكانات، وقهر مجتمعات... مما يهدد السلام
العالمي، وينذر بكوارث ومحن، ويزرع أحقادا وثارات، ويجرّ ويلات
وحروبا طاحنة، تدير – مرة أخرى – عجلة الكراهية والتأريث والفتك
والإركاب بكل أشكاله وصوره، والمفاهيم وردود أفعال والتراكمات التي
تؤدي إلى إحن وأوبئة نفسية، تتوغل في أعماق الأفراد والجماعات،
وتلون الأعماق بكل السخائم والمعكرات، والركون إلى رواكد آسنة،
ورؤىً مخضبة بألوان مكفهرة، وأشكال في الانتقام، لينتقل هذا الإرث
إلى المناهج والمفاهيم، والتربية والإعلام، والتوجيه والإرشاد، في
شكل بيانات وآراء وكتب مدرسية وتوجيهات ومدارس سياسية، مما يصبغ
المجتمعات بالتدابر والقطيعة، والاستعداد للإرهاب بأشكاله وصوره،
وتهيئة الأرضية الملائمة لكل عمل عدواني، من شأنه أن يدمر كل أسباب
الثقة والتواصل، ويهيء الأرضية للقمع والفساد والاضطراب الاجتماعي.
وفي المقابل نجد كل الأسباب والأسانيد والدعائم لفكر هو ثمرة
عقائد ومفاهيم ورؤى ً أكثر تلبية للحاجات والضرورات القيمية
والأخلاقية والتربوية المقابلة، والتي تتجاوز الحاجة الإنسانية
الفطرية، إلى الحاجات والضرورات والقيم العليا التي تحافظ على
امتداد النوع الإنساني، وتفاعله، وتكامله، وصولا إلى درجة من
الارتقاء والتحرر من العقد الذاتية، والنزعات الغرائزية، وأساسيات
القطيع الضامنة للنوع، إلى أساسيات المجتمع الإنساني، فيبدأ بتكوين
الإنساني في ضميره وتصوره وشعوره، وقيمه وإحساسه بالحياة في كل
جوانبها المشرقة، وآفاقها المبدعة، ومفاهيمها في العلوم والمعارف
وثمرات الإبداع، والقيم الإنسانية والتراثية الرفيعة، مما يدل على
الارتقاء فوق الدوافع العضوية، بتحرير الإنسان ومحيطه من كل ألوان
الرهق النفسي، والعبودية للغريزة، والانصياع للدافع العدواني،
ومحاولة تملك ما للآخرين، والاستحواذ على الأرض والكيان والمتاع،
والممتلكات، والإمعان في سلب إدارة الشعوب، والتفكير الوصائي،
والرؤية العنصرية الاستعلائية، ومفاهيم التحكم والإقصاء، وإشاعة
الفتك والتعذيب النفسي والجسدي، وفرض حالات الاغتراب..
مما يضير بإنسانية هذا المخلوق الذي يحمل كل كوامن الإبداع،
وكل عناصر ونوازع القيمة الإنسانية العليا، مما يمكن استجاشة
دخائله، ونبش الكامن من الدافع إلى كل ما هو نافع ومثمر ومفيد في
بناء عوامل السلم والمدنية والخير والازدهار، ونشر قيم الفضيلة،
ونزع كل نزعات التوتر والدافع باتجاه التصعيد، تأسيسا لحالة قويمة
دافعة باتجاه البناء والإعداد والتوجيه لمجتمع إنساني، يزدهر فيه
الإنسان بعطائه، وفكره، وإبداعه، وتقدمه في الميادين العلمية،
بالاستفادة من كل معطيات التقدم العلمي والتطور الإنساني، عبر
اعتماد منهج حواري، حوار الحضارات والمذاهب والاتجاهات والأفكار
للوصول إلى قيم مشتركة، ومثل عليا تلتقي حولها الجماعة الإنسانية,
والمجتمع الإنساني بكل خصاله العالية..
إن نقطة الانطلاق الأساسية في بناء السلم العالمي، وإشادة صرح
مجتمع مستقر عادل، تتكافأ فيه الفرص، وتستتب فيه الأحوال والهيئات
والأوضاع، وتتنامى من خلال المناخات الهادئة الرحبة كل أسباب
التطور العلمي،ومواكبة المجتمع الإنساني الرائد..
أن نقطة الانطلاق هذه تتأتى من خلال تحرير ذات الإنسان وفكره
وشعوره من الدوافع العضوية، والغرائز والشهوات القريبة
والاستئثارات الفردية، ونزعات ذاتية مفرطة في الدونية، وفق معايير
وقيم واوضاع ومناهج، وإعداد طويل وعميق ومؤثر،ليملك قرار نفسه
ومجتمعه،ويدرك حريته وإنعتاقه من ربقة المفاهيم التطورات
البدائية وحس القطيع،إلى رحابة الفكر الإنساني,ومقومات إبداعه،
وأسباب تقدمه وإزدهاره، وما يفعل ذلك بقوة في المجتمع المحيط،
لتترسخ مبادئ السلم, و ترتقي إلى الازدهار العلمي والاقتصادي
والاجتماعي،وتنتفي كل اسباب التوتر والعنف وقيم الكراهية....
إن أكبر وأهم مقومات السلام العالمي, والاستقرار المدني،
والازهار والأمن،وتقدم المجتمعات الإنسانية على نسق البناء وإعداد
الإنسان ورفع سويته، تتجلى بتعزيز قيمه الرفيعة، ودوافعه العليا،
وتهذيب نظرته وتطهيرها من دنس الحقد، ورجس الكراهية, وتنقية
مفاهيمه, ودفعها باتجاه النقاء,والإيمان بالحياة في ظل التواصل
والتكامل والتساند والبناء، وبخاصة مع ابناء وطن يجتمع فيه كل طيف
بما يحقق التناغم والتنوع والتقارن والتعددية وعوامل إثرائها،
باحترام الإرث الإنساني الجامع, بعلومه وآدابه وفنونه، وقيمه
الروحية, وتراثه الأخلاقي، في عملية إعداد للإنسان ودوره, إعمارا
وتشييدا وتخطيطا، ورفعا لدعائم مجتمع يعتمد طرقا منوعة في الإنفاق
في سبيل بناء منهجي، يوفر المناخ العلمي المطلوب لرفاه الإنسان
ورخائه, وعلو كيانه ورفعة شأنه، باستبعاد ونبذ أسباب التصارع
والتناحر والأثرة والمقت والبغضاء, وكل مكامن الكيد والدسيسة
والوقيعة والتآمر, ومسالك التشويش والتضليل, والتوتير والإقصاء
وسوء توزيع الثروة وحكرها ووضعها في أيدي المتخمين من السماسرة
واللصوص والفاسدين, بحرمان مستحقيها ممن يعانون مرارة البؤس
والفاقة والإملاق, ممن لا يكادون يجدون ما يسد الرمق ويغني ويمني
من جوع ماحق,إلى جانب فقدان عوامل الراحة ودواعي الأمن في المال
والنفس وثمرات الكد المتواصل والجهد المغرق, ما يشهده يوميا من
حالات الفزع المرعب والإرهاب والفتك وإزهاق الأرواح بغير جريرة, مع
ما نشهده في كثير من الأحيان من تمييز واستعلاء عرقي وفتن مذهبية
وتناحر على الفكر والاختلاف وبث للفرقة والخصام في الرؤية السياسة
والفكرية واختلاف الرأي مما لايعد شناعة ولا إثما في مقاييس
المجتمع الإنساني المتحضر وآفاقه الرحيبة وفكره المستنير.
إن الدعوة إلى حرية الإنسان الفكرية وإغناء عالمه بالقيمة
الإنسانية الرفيعة وإعداد ه وتنشئته وتهييئه وطول تربيته وإغناء
مسيرته التربوية الحافلة بكل الطعوم والمفاهيم والرؤى العامرة
بحياة زاكية مزدهية نافعة من شأنها أن تضع القواعد الكبرى في بناء
أسس المدنية والعمران والقيمة الفضلى والحقيقية للإنسان, بما يرقى
بالدور الإنساني ويعلوبه, في محيط متحرك، ومن خلال عمل ميداني
واقعي يترجم هذه الرؤية عملا مجديا رائدا وبناء, يلحظ كل اسباب
ومقومات فكر عالمي متقدم، يخدم المسيرة الإنسانية الرفيعة, ويترجم
هذا التوجه في واقع مواجهة الاستعداد لكل عوامل الصراع والتوتر
وبؤره وما يتعلق بذلك من قيم استبدادية ونزعات تسلحية ، والطاقة
على محاربة كل ما يهدد هذا الوجود والكيان الإنساني، وتحركه
الاجتماعي، نحو نزع فتائل التوتر، وأسباب القمع وأشكال الاستبداد،
وتهيئة الأجواء إلى مناخات مدنية وديمقراطية تحافظ على حقوق
الإنسان والقانون الدولي، وعوامل تحرر الإنسان في المجتمع الإنساني
وترسيخ قيم الديمقراطية والعدل والمساواة في الفرص وإتاحة كل أسباب
التقدم نحو الشراكة الحقيقية بين مختلف أطياف المجتمع الإنساني
وتكويناته في العراق وأفغانستان والبلقان ولبنان وسوريا وسائر
بلدان الشرق الأوسط، وحسن التعامل مع طاقته وانطلاقته وفق تلك
المنظومة القيمية والمعرفية والأخلاقية الجامعة، ليكون ذلك عاصماً
من كل أشكال الهيمنة والاستبداد، وذهنية الإقصاء والاستعلاء وما
تجره من نكبات وارتدادات مؤسسية تؤدي بالمجتمع إلى التناحر
والتحارب وتهديد السلام في المجتمع، وما يخلف ذلك من أجواء مشحونة
تهدد السلم والأمن الإنساني، وتوسع رقعة الحرب والصراع، ليكون ذلك
مقدمة إلى تهديد السلم العالمي، وزرع بؤر مرشحة لذلك، وقابلة
للاحتراق والانفجار، وهوما ينبغي ملاحظته ومتابعته ولجم أسبابه
وتحديد عوامله، ومحاصرة ذلك كله، وفق منهج متكامل ميداني وعلمي
بعيدا عن الرؤى المجنحة والتخايل الرومانسي بقدر استناده إلى
مقومات سيكولوجية وفكرية راسخة.
فما يحصل في العراق وأفغانستان من استحقاقات فترات الارتكاز إلى
القمع والاستبداد، وما نشهده من تحول في ميزان القوى، وتحرك باتجاه
عملية سياسية تعددية جديدة تحترم خصائص الإنسان وسمات تمدنه
وتحضره، كذلك في لبنان في ظل اتفاق اختصر المسافات وتجاوز المحن
وحدد الوظيفة العملية في بناء عمل معقد يمكن أن يجر إلى تحول حقيقي
في منطقة الشرق الأوسط والعالم، بما يوصل إلى أمن وأمان وسلام
وتعددية مذهبية وسياسية وفكرية، وبعد عن القمع والتشريد والتقتيل
المذهبي والطائفي، وهوما نأمله في تحقيق الازدهار والمدنية في كل
جزء من العالم، بما يحقق العدل والكفاية وقرن الفكر بالممارسة.
* سكرتير البارتي الديمقراطي الكردي –
سوريا |