الأَمْنُ فِي المَنْظُورِ القُرْآنِي..

(الحلقة الثانية)

 محمّد جواد سنبه

في الحلقة السابقة استعرضنا مفهوم الأمن ومدلولاته اللغويّة والإصطلاحيّة، وتناولنا بعض وجوه الأمن وصوره كالأمن النفسي، والأمن الشخصي والأمن الإقتصادي. وفي هذه الحلقة سنغطي شيئاً من بعض جوانب موضوع الأمن، أملاً في استكمال بقية تفرعاته في وقت لاحق.

3. الأمن المجتمعي:

مثلما تعامل القرآن الكريم مع مفهوم الأمن الشخصي، فإنّه يتعامل أيضاً مع مفهوم الأمن الجماعي أو أمن المجتمع،، فيقول تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ). (القرية: كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا وتقع على المدن وغيرها (تاج العروس)). من الملاحظ في هذه الآية المباركة، أنّ الأمن الاجتماعي، مرتبط ارتباطاً وثيقاً مع حالة الاستقرار الاقتصادي التي تسود المجتمع، وهذه الحالة من الاستقرار، تزيد من حالة الانتعاش الاقتصادي.

جاء في تفسير هذه الآية مايلي: (...ثلاث خصائص لهذه المنطقة العامرة المباركة: الخاصية الأولى: الأمن. الخاصية الثانية: الاطمئنان في إدامة الحياة. الخاصية الثالثة: جلب الأرزاق والمواد الغذائية الكثيرة إليها. وترتبط هذه الخواص فيما بينها ترابطاً علّياً وحسب تسلسلها، فكل خاصية ترتبط بما قبلها ارتباط علة ومعلول، فلو فقد الأمن لما اطمأن الإنسان على إدامة حياته في مكانه المعين، وإذا فقد الاثنان فلا رغبة حقيقية لأحد على الإنتاج وتحسين الوضع الاقتصادي هناك. فالآية تقدم درساً عملياً لمن يرغب في بلاد عامرة وحرة ومستقلة، فقبل كل شئ لابد من توفير حالة الأمن، ومن ثم بعث الاطمئنان في قلوب الناس بخصوص مستقبل وجودهم في تلك المنطقة، ومن بعد ذلك يأتي دور تحريك عجلة الاقتصاد. فبهذه النعم المادية الثلاثة تصل المجتمعات إلى درجة تكامل حياتها المادية فقط، ووصولا للحياة المتكاملة من كافة الجوانب (مادياً ومعنوياً)(الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل/ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/ ج 8/ ص352-354)(انتهى).

وآية اخرى تؤكد أنّ البلد الحرام الذي صار مقصداً للناس، لأنّ الأمن موجود فيه برعاية الله تعالى له، ومن يريد شدّ الرحال إليه، فلا يرتاب ولا يخشى على أمنه وسلامته (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، وهذا بدوره يشجع التجارة والانتعاش الاقتصادي. إنّ أهميّة الأمن تبرز أيضاً من خلال قسم الله تعالى بالبلد الأمين، أيّ الآمن المستقر، فقال تعالى (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ).

وكذلك استخدم القرآن الكريم مفهوم (الأمن الغذائي)، الذي يرتبط بصورة مباشرة مع حالة الأمن العام للانسان، فمن المؤكد أنّ البلد الذي يسيطر على حالته الاقتصادية، وينجح بابعاد غائلة الجوع عن مواطنيه، فإنّه يحقق لهم حالة الأمن الغذائي، التي بدورها تنتج حالة الأمن العام المرتبطة به، فقال تعالى في سورة قريش (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، وقال سبحانه كذك(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ). إن القرآن الكريم يؤكد بأنّ الأمن نعمة عظيمة، اذا استطاع الانسان أنْ يصل اليها، ومفتاح الوصول اليها هو العمل الصالح، الذي به يقام العدل والنظام في المجتمع: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

 إنّ ارتباط حالة الأمن بالاقتصاد قضيّة غاية في الحساسيّة، ولأجل ذلك أصبحت هذه الحالة، من ضمن السنن الإبتلائيّة، التي يمتحن بها الله تعالى، صبر المؤمنين وإيمانهم به سبحانه، فقال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). وفي موضع آخر من القرآن الكريم، يطمئن الله سبحانه آدم (ع)، ويوعده إنّ بقى في الجنّه، فسوف لا يجوع ولا يعرى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى).

 4. أمن المواطنة:

 المواطن الصالح، هو المنطقة الحصينة التي تقف بوجه عمليات التخريب، والتي تصمد أمام أعداء الوطن، لذا يلجأ المخربون لتدميرها بشتى السبل، من أجل عزل الدولة عنها، وكذلك عزلها عن الدولة. إنّ بناء المواطن الصالح مهمة أساسيّة، تتحمل الدولة قسطاً منها، لأنّ الدولة بيدها الكثير من المؤسسات التي تديرها وتسيطر عليها، والتي يمكن من خلالها تأمين البرامج الكفيلة، بانعاش المجتمع اقتصادياً وتوعوياً، وتستطيع تلبية احتياجاته الحياتية المختلفة، بيّد إنْ ذلك لا يسقط عن المجتمع دوره في بناء أفراده البناء الأمثل، في ترسيخ مفاهيم الوطنيّة والمواطنة الصالحة، ونشر حالة الوعي الفردي والجماعي. إنَّ المجتمع يتحمل قسطاً من هذه المسؤولية الكبيرة، حيث تقع عليه ابتداءاً مسؤولية التربية القويمة على المستوى الأسري، ثم تبدأ المسؤوليّة الفوقيّة الكبرى للدولة بصيغتها الرعويّة.

وأهم ركائز صنع المواطنة الصالحة، تتموضع في الجانب الاقتصادي للوطن، الذي يرفل بظله الفرد والمجتمع بنعمة الحياة الرغيدة. فكلما كان الاقتصاد منتعشاً في البلد، حينها تستطيع الدولة والمجتمع، انتاج المواطنين الصالحين بكلّ نجاح و بشكل فاعل ومؤثر. لنأخذ قبساً من قول الإمام أمير المؤمنين (ع)، باعتبارة المجسّد الواقعي لمدرسة القرآن الكريم، لنستجلي منه تصوراً ناضجاً، في علاقة الحالة الاقتصادية بموضوع المواطنة، فالإمام (ع) يربط بين المواطنة والفقر فيقول: (الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ، وَالْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ).

 إذن لا يمكن انتاج مواطنين مخلصين لوطنهم، مالم يستشعروا من الوطن، سدّ احتياجاتهم المتنوعة، وهذه نظريّة اجتماعيّة غاية في الروعة و الدّقّة. وهذه النظرة تفسر لنا سرّ تدهور مجتمعاتنا، التي تقوم بدور أشبه ما يكون، بدور حاضنة البيض الميكانيكيّة، التي تنتج أفراخ الدواجن للآخرين. فمجتمعاتنا تربي الأشخاص جميعهم، ومن بينهم الاذكياء والعباقرة، ولكن الفقر وفقدان الحريّة والأمن، وعدم وجود مبدأ تقدير الأفضل، وعدم رعاية المبدعين والكفاءآت، وعدم توفير الحماية لهم، هذه العوامل وغيرها، تجعلهم يهاجرون إلى البلدان الغنيّة المستقرة أمنياً، التي تستقطب العقول المبدعة (على الجاهز)، وهم في قمّة مرحلة نضجهم وعطائهم فتستثمر كفاءآتهم، وترشّدها لصالح خططها العملاقة في كافة المجالات.

 بينما تبقى الدّول الأمّ تدور في مضمار دائرة انتاج المتميّزين، وتقديمهم إلى الغير، وتجني من عمليّة الإنتاج هذه، نسبة متزايدة باضطراد، من ضعيفي الكفاءة أو فاقديها، و بذلك تتراكم أعداهم يوماً بعد يوم، مقابل تناقص الكفوئين يوماً بعد آخر، وذلك من أحد العوامل المهمة جداً، التي تحول دون تقدمنا وتطورنا. إنّي أرى أنْ نضيف مصطلحاً جديداً إلى مصطلحات الأمن، هو (أمن الكفاءآت)، يُعنى بدراسة الأسس الكفيلة، التي من شأنها أنْ تقدم البدائل، التي تقوم بدور كسر حالة الاستقطاب الخارجي، للعقول المتميّزة بعطائها، في مختلف المجالات والجوانب.

* كاتب وباحث عراقي

mj_sunbah@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء  28 أيار/2008 - 21/جماد الاول/1429