رفات وحطامات السفن الغارقة

موانئ وموانع... المانع الثالث

كاظم فنجان الحمامي

كانت الموانئ العراقية أولى المراكز التجارية التي أقامها الإنسان على شواطئ كوكب الأرض. وانطلق منها نحو بحار الله الواسعة.. موانئ تألقت في فضائات التجارة البحرية الدولية. وحفرت اسمها في ذاكرة التاريخ. وتسلقت سلم المجد حتى تفوقت في ستينيات القرن الماضي على أشهر الموانئ العالمية..

 فهي الرئة البحرية الوحيدة التي يتنفس منها العراق , والنافذة الملاحية الوحيدة التي يطل من خلالها على الخليج العربي.. ثم تدهورت أحوالها ومزقتها أنياب الحروب , وخنقتها رياح الحصار , واغتالتها خناجر الجهل والتخلف...

لكنها لم تمت , ولن تفقد الأمل في استعادة مكانتها الدولية المرموقة بجهود المبدعين من أبناء الرافدين , على الرغم من كل الموانع التي تقف في طرقها. وهذه قصة إحدى هذه الموانع التي ليس لها وجود في الموانئ العالمية الأخرى.

فقد كانت الموانئ العراقية , والممرات المؤدية اليها , قبل يوم 21/9/1980 , تعج بالسفن والناقلات والزوارق  من كل الأنواع والأحجام والجنسيات.

وكانت السفن التجارية تصطف بانتظام على امتداد أرصفة موانئ المعقل , وأبو فلوس , والفاو , وأم قصر , وخور الزبير , والمنصات النفطية.. وكانت هناك سفن أخرى تشق طريقها على المسطحات المائية في شط العرب وخور عبدالله. وسفن أخرى تقف على المرساة بانتظار دورها في الرسو على الأرصفة...وفجأة , وقعت الكارثة , وصبت الحرب حممها الصاروخية على كل السفن والناقلات فدمرتها , وبعثرتها , وأحرقتها , وأغرقتها.. فتحولت ممراتنا الملاحية الى مقابر ابتلعت رفات الزوارق , وحطامات السفن التجارية والحربية. وتراكمت الأطيان فوق أجساد القطع البحرية المحطمة...وتعذر انتشالها بعد أن ظلت راقدة في جوف النهر قرابة ربع قرن.. وانصب تركيز ادارات الموانئ على ازاحة الغوارق الجاثمة في واجهات الأرصفة ومقترباتها. واستعانت في تنفيذ هذه الأعمال الشاقة بقدراتها المحدودة , وطاقاتها المتواضعة. وكانت في أمس الحاجة الى التخلص نهائياً من هذه الموانع العملاقة , والنهوض من جديد في وجه التحديات الصعبة...

وكان لابد لها من طلب العون والمساعدة من الجهات العليا..واستمرت في مطالباتها ردحاً من الزمان. فتارة تراها تطالب بمنح بقايا أشلاء الغوارق لمن ينبري لانتشالها , وتارة تطالب باستدعاء فرق عالمية متخصصة في مهنة التقطيع تحت الماء ورفع الأنقاض..

وكرست اهتماماتها في تحسين صورة الممرات الملاحية العراقية منذ عام 2003 ولحد الآن.. وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت في هذا الاتجاه , ما تزال السفن الكبيرة الغارقة تشكل أكبر الموانع وأعقدها..وما تزال ادارة الموانئ تناضل لوحدها في معركتها الطويلة مع الغوارق. متسلحة لهذه المهمة المعقدة بقدراتها البسيطة , ومن دون أن تتلقى أي دعم من المؤسسات الأخرى المعنية بالشأن البحري والتجاري.

 أما المنظمات البحرية العالمية , التي كانت تتباكى على أطلال الغوارق البحرية, وفي مقدمتها المنظمة الاقليمية لحماية البيئة البحرية في الخليج العربي (ROPME ) , فقد لاذت بالصمت المطبق , وفضلت الابتعاد عن هذه المشكلة العويصة. في حين استثمرت منظمات عالمية أخرى هذا الوضع البائس لمصالحها الخاصة , ومنها منظمة (UNEP), ومنظمة (UNDP) , التي راحت تبرم العقود الوهمية في الخفاء , وتتظاهر بحرصها المصطنع على تنظيف الممرات الملاحية العراقية والعمل تحت مظلة قوات الاحتلال , التي كانت تشاركها في نشاطاتها المزعومة والمثيرة للريبة والشك.

 ومن دون أن تطلع الموانئ على تفاصيل تلك المشاريع الغامضة وخطوات تنفيذها.. وقال (ميشال غوتييه) , وهو مدير البنى التحتية الاقليمي لمنظمة (UNDP) في تصريح له نشرته صحيفة Terradaily بتاريخ 6/10/2006: ((ان المنظمة انتشلت (32) سفينة غارقة في ميناء أم قصر وحده , خلال الفترة من حزيران 2003 الى حزيران2004. وان عمليات الانتشال كلفت (50) مليون دولار ؟؟. وأن منظمة (UNDP) كانت تعمل بالتنسيق والتشاور مع منظمة USAID )).. في حين لم يتم ابلاغ الموانئ بمراحل المشروع , أو بأسماء السفن المزعومة المنتشلة..

وفي تقرير آخر ذكرت فيه منظمة UNDP أن عدد السفن الغارقة يزيد على 282 سفينة. وهو رقم غير دقيق. وفيه الكثير من المبالغة. لأن الغوارق الفعلية المسجلة لا تتعدى 79 سفينة غارقة. ويبدو أن الأرقام الملفقة, التي أشارت اليها المنظمة في معظم تقاريرها, كانت تستهدف تشويه صورة الموانئ العراقية, التي ما زالت تواصل جهودها الحثيثة لاستئصال سرطان الغوارق, الذي مزق شرايين المياه الاقليمية العراقية, ووضع أمامها أصعب الموانع.... وللحديث بقية....

شبكة النبأ المعلوماتية- االاثنين 12 أيار/2008 - 5/جماد الاول/1429