أُعلِن عن حملة تجري الآن لمكافحة الآفات التي تصيب النخيل،
بعد أنْ دمرت الحروب والإهمال أغلبية تلك الثروة التي كانت تشكل
ثاني أكبر الصادرات العراقية بعد البترول. وذكرت تقارير رسمية أن
الحملة تغطي ما يزيد قليلا عن (166 هكتارا..!!!) في محافظات بابل
وكربلاء والنجف وواسط وبغداد وديالى، بزيادة 33% عن السنة المنصرمة،
وقد تم إنجاز حوالي ثلث المساحة المحددة، على أن تستكمل باقي
المحافظات أواخر آيار مايو الجاري. وذكرت التقارير أن وزارة
الزراعة بالتعاون مع وزارة الدفاع تنهض بمسؤولية التخطيط للحملة
وتنفيذها...
إنَّ التفكير بعراق من دون نفط ممكن ولو في أبعد مدى لاحتمال
نفاد هذي الثروة الناضبة؛ لكن التفكير بعراق من دون شجرته
التقليدية النخلة فهو أمر مستحيل وهو الذي ظل يحتفظ بأولوية عالمية
في استنباتها وأسبقية اهتمام بزراعتها توفيرا لمصدر غذائي مهم
ومصدر ثروة وطنية أساس بعد البترول طوال عقود عديدة.. فضلا عن
أهمية وجود النخيل في استنبات أنماط أخرى من الأشجار كالحمضيات
التي تنمو وارفة في ظلالها. ومن الطبيعي أن نذكر هنا أنَّ العراق
سُمِّي أرض السواد لانتسابه لزراعته ومن أهم ذلك غابات النخيل؛
وأكثر أهمية ذكر الأنواع النادرة للنخيل بين مئات من أنواع التمر
الجنية التي توجد في بلاد النخيل...
ولقد كان للنخلة، شجرةَ َ مثمرةَ َ، أهميتها في مطلع القرن
المنصرم في أشد الأزمات الاقتصادية والضوائق الغذائية تحديدا.. ولن
نحتاج هنا إلى مزيد توضيح لكثير أنواع يمكن أن تتولد عن وجود
النخيل وثماره في الصناعات (الزراعية) الغذائية وغيرها.. وفي زمن
يعيش فيه العراق بلد النخيل أزمات منوعة مختلفة ومنها الغذائية
ومنها البيئية وغيرهما ينبغي التفكر مليا بأهمية وجود هذه الشجرة
في بلادنا لنواحي غنية مهمة كثيرة...
فالقيمة الغذائية وتشغيل الأيدي العاملة سواء في الزراعة أم في
الصناعات المرتبطة بها أم في الدورة الاقتصادية بالارتفاع بالقيم
التصديرية بخاصة من الأنواع النادرة المخصوصة بالعراق تحديدا.. إلى
جانب توفير رصيد مهم في مواجهة قضية الأمن الغذائي بوصفه جزءا مهما
من الأمن الوطني وتطمين تنويع الصادرات والاستعداد لأزمنة قابلة في
المدى المنظور حيث سينفد فيها البترول أو يتهاوى مع ظهور
البدائل...
وإذا تجاوزنا مؤقتا خطورة القيمة الغذائية ومدخلاتها في حياة
المجتمع الإنساني فإنَّ العراق يجابه اليوم أزمة بيئية خطيرة من
جهة التغيرات التي أحدثتها كوارث الحروب وحرائق آبار البترول
وغيرها وتصحر البلاد بعد الإهمال المفرط الذي تراجعت فيه غابات
التشجير فالنخيل تراجع من حوالي 35 مليون نخلة إلى أقل من 10 مليون
نخلة ليس منها إلا حوالي النصف مثمرة حقا [في وقت ارتفع عدد نخيل
دولة خليجية صحراوية من عشرة ملايين نخلة إلى أكثر من أربعين مليون
في المدة نفسها وبأهم أنواع كانت موجودة لدينا]... مع ملاحظة مهمة
للإصابات المرضية الواسعة بهذه الشجرة...
إنَّ مشكلة البيئة لا تقف عند نقاوة الفضاء العراقي وهوائه
الملوث بأشكال الغازات السامة والإشعاعات وذرات غبار ميدان المعارك
التي ما انفكت مستمرة منذ حوالي العقود الثلاثة.. ولكن المشكل
البيئي صار مزمنا في أبعد من التأثرات الطقسية اليومية حيث دخل
العراق مرحلة تغيرات مناخية طارئة يمكن أن تجعله بلدا صحراوي
المناخ يمتلئ بالتقلبات التي تعود بالكوارث على مواطنيه...
فما الحل في مثل هذي المشاكل المستفحلة؟ وما الأولويات في
التعاطي مع هذي المعضلات المعقدة المتداخلة؟
إنَّه لمن المفيد أن نشيد بأية بادرة لأجهزة الدولة من جهة
ولجهود الشركات الخاصة والمواطنين في التعاطي مع جدية الاهتمام
بالنخلة؛ ولكن القضية لا يمكنها أن تقف عند حدود حملة قد تكتنفها
أشكال حالات الفساد وهو السمة المرافقة لأي جهد في يومنا بخاصة مع
أرقام تضع نسب الفساد في درجة من الارتفاع بما لا يمكننا الاطمئنان
إلى الحملات الحكومية والمشروعات الخاصة المستندة للقروض
الرسمية...
عليه لابد من وضع خطة وطنية شاملة بشأن مشروع التشجير
بمستوياته التي تعالج الأحزمة حول المدن في التصدي للتصحر وزحفه
وفي محاولة إشاعة الخضرة والزحف المعاكس ضد الصحراء وفعلها.. وفي
الأثناء التعاطي مع مشروعات وطنية مبرمجة في تشجير جنوب العراق
ووسطه بشجرة النخيل وبالحمضيات مع اهتمام جدي يرتقي لمستوى
المسؤولية والأولوية في تشجير المنطقة بالنخيل... آخذين بعين
الاعتبار مرحلة تطهير البساتين والغابات الموجودة من الإصابات
المرضية وإخلاء العراق من أية أمراض معروفة والتأكد نهائيا من خلو
البلد من تلك السوسة [مجموعة الأمراض المعروفة] التي تنخر في
ثروتنا...
ومرحلة إعداد أراضي البساتين في مجالي تنظيف السواقي والجداول
الرئيسة والفرعية وإعداد التربة وتوفير وسائل الإرواء الصحيحة بلا
عراقيل ومعوقات ومن ثم الشروع بغرس الفسائل من الأنواع التي ستفيد
العراق في سدّ احتياجاته وفي توفير فرص تصدير من الثمار المنوعة
المخصوصة وفي نسبة القيمة المادية بين الصادرات الوطنية بعامة...
ومن أجل توفير الجهود وتفعيلها ينبغي للحكومة الاتحادية أن تنهض
بالتكليفات المناسبة لوضع خطة وطنية شاملة وكبرى بخاصة مع توافر
الموارد المادية اللازمة حاليا في فرصة نادرة في زمن ارتفاع أسعار
النفط على ألا تهمل هذه الخطة وجود الخبرات الأجنبية والمنظمات
الدولية وجهودها في الحملة من مستوى التخطيط إلى أبعد تفاصيل تنفيذ
مفردات الخطة بإشراف وطني عراقي تام... وبهذا تدخل حملة دولية
مرافقة بثقل حقيقي في التعاطي مع القضية.
وينبغي لهذه الخطة أن تستدعي جهود المواطنين في التشجير وتسهل
الأمر لهم بالخصوص إذ يمكن أن يجري الأمر بشعار في بيت نخلة
وشجيرات حمضية أو زيتون وأن تتم عملية إقراض المشروعات بطريقة مخطط
لها بأسقف تتناسب ووضع المحافظة وطبيعة الزراعة فيها وإمكاناتها
الفعلية والمستقبلية..
وأن تنهض وسائل الإعلام من فضائيات وصحف ومواقع أنترنت بالتصدي
لتقديم المعلومات والإحصاءات وتوفير قاعدة بيانات بكل شفافية
لمجريات الحملة الوطنية وآليات حركة زراعة النخلة وتشجير البلاد
ومشروعات العمل وكيفية سير العمل...
وأن يترافق مع الحملة وسائل التصدي لأية احتمالات تحصل بطريقة
سلبية تتطلب المعالجة الفورية بالتفاعل مع أصحاب المشروعات أو
أعمال الدولة وجهودها...
وقبل هذا وذاك فإنَّ بحوثا متخصصة منتظرة من متخصصينا لتقديمها
فورا وتجميعها في إطار مؤتمر وطني مخصوص لدراسة الموضوع من كل
جوانبه يساهم في هذا العمل المتخصص الأكاديمي مع المتخصص الميداني
الذي تعايش مع الحياة اليومية للنبتة وتعرف إلى متطلبات البستان
نفسه بوصفه المشروع المقصود في استنبات الغابات الأوسع...
إنَّ قضية عودة العراق ليكون مجددا بلد النخيل وعودة الشجرة إلى
بيتها الطبيعي أمر متاح وممكن بتوافر شروط العمل ونية تحقيق الهدف
بحجمه النوعي المنتظر.. أما بقاؤنا في إعلانات تملأ صحف الحكومة
وتلك الناطقة بلسان بعض أحزابها في دعاية ساذجة يعتقد أصحابها أنهم
يمكن أن يغطوا بها جرائم الفساد التي تتطلب أسماء مشروعات وهمية أو
مشروعات عابرة أو جزئية أو (نص نص \ نص ردن كما يقول المثل
المحكي)، أما بقاؤنا في شلل شبه تام بعيدا عن الحلول المؤملة
الجدية الحقيقية فلا يمكن القبول به لأننا لسنا بلدا يمكنه أن يحيا
بمثل هذه المشروعات القزمية البائسة..
فلا العراق ولا مستقبل العراقيين يمكن أن يكون ويبقى مع استمرار
نهج الأعمال الترقيعية... لقد أُهمِل العراق طويلا وعقودا عجافا
وئيدة قاتلة وما عاد بالمستطاع الانتظار أكثر إلا إذا كان المقصود
بمثل هذه الجهود والمشروعات من فتات موائد البلاد المنهوبة أن
يُزرق الناس بمورفينات استقبال الموت البطيء لبلاد عاشت عشرة آلاف
عام بخير ورفاه وعزّ... وكانت تصدر من فائض ثرواته الغذائية من
حبوب وثمار فصارت اليوم بعد عقود معدودة توزع على الناس الدقيق
(الطحين) مخلوطا ببرادة الحديد والحليب بثاليوم [سموم] القتل
الجماعي...
إنَّ كل مخلص فردا أو جماعة حزبا أو حركة سياسية أو مجموعة
فلاحية أو استثمارية، وزيرا أو حكومة، ليس بحاجة للدفاع عن نفسه
بلغة عراك الديكة والعميان وخطابات أنه متهم وأنه مقصود.. فكلنا
نحن العراقيين هنا مقصودون وطبعا أولنا من وضع نفسه في الصدارة في
البرلمان أو في الوزارة وفي الاستثمارات والمشروعات وكل مواطن وكل
مؤسسة.. فالجهد المقصود أن نترك خطاب الصراعات والاتهامات وأن ننزل
إلى ميدان العمل..
وميدان العمل فيه مسؤول حكومي وغير حكومي ومن يتأخر لا يمكن
القبول بمواصلته التمسك بكرسي المسؤولية لأن المهمة لا تكمن في
الكرسي ولا تكمن في من يكون عليه بل فيمن ينجز ويتحرك وأول الأمر
إعلان الخطة الوطنية والدولية بالخصوص.. وتوفير قاعدة البيانات
وتوفير الخطة وتوفير التصور الملائم للتنفيذ في ضوء الوقائع
ومجريات الميدان..
وما خلا كل ذلك ليس إلا تسويفا وتخديرا لحين القضاء الأخير على
حياة آخر كائن حي في بلد كان يُدعى العراق وأعتقد شخصيا أن آخر حي
يُضحى به في العراق بعد القضاء على شعبه سيكون شجرة النخيل.
وليس بعد هذا من مطلب ولا من كلام فما بعده ليس إلا العمل وهو
واجب مناط بوزارة معروفة ومهام محددة في:
1. إعداد مسودة مشروع وطني شامل بالخصوص.
2. الإعداد لمؤتمر وطني تخصصي تشارك فيه الطاقات والخبرات
الوطنية في الوطن والمهجر.
3. التقدم بخطة لجذب الجهود الدولية بحملة محددة المفردات
والأجندة البرامجية المرسومة وطنيا..
فهل من مجيب؟
أما إلى العراقيين كافة فهذه دعوتي: ليتوجه كل مواطن اليوم قبل
الغد إلى وزارة الزراعة يطلب فسيلة لحديقة بيته وكل فلاح وكل
مستثمر بطلب لشموله بحملة رش المبيدات وتنظيف بستانه ومشروعه ومنحه
ما يساعده على تجديد بستانه وتوسيعه... وهي دعوتي لكل متخصص أن
يتقدم بمشروع بحثي وطني لمعالجة القضية بعلمية وتخصص... ولتتشكل
لجنة وطنية للمتابعة بالخصوص...
إنَّ من يقيل المسؤول أعلى مسؤول في المجال هو أصغرعامل في
المجال المعني وإنَّ مسؤولية تحديد استجابة الوزير ومن هم دونه
مسؤولية وتفاعلهم ونجاحهم في المهمة تقع في قضية استزراع النخيل
على عاتق الفلاح نفسه..
* باحث أكاديمي في الشؤون السياسية \
ناشط في حقوق الإنسان
[email protected] |