هل المصالحة الوطنية حقيقة ناجحة

عباس النوري

نعم المصالحة الوطنية حقيقة، لكن ناجحة أو غير ناجحة هذا هو السؤال الأهم. نحن العراقيون لم نتصالح أبداً طيلة تاريخ العراق. وأن جميع الذين قالوا ويقولون أن العراقيين متحابين ومتآخين ليس له من الحقيقة بشيء، لكن هي رغبة وأمل الطيبين.

في مقالة سابقة ذكرت أسباب الحالة التي وضعت الجميع في مأزق سياسي وأمني وجعلتهم يبحثون عن مشروع مصالحة وطنية…وليس مصالحة قومية أو مذهبية، لأن هذين النوعين من المصالحة ضربٌ من الخيال ولن أقول مستحيل. وفي هذه المقالة سأجيب على الأسئلة الافتراضية التي وضعتها، مع أنني متأكد أن هناك كم كبير من الأسئلة التي يطرحها كثير من المثقفين والمراقبين، ويحاول السياسي الإجابة عليها بتبريرات أما لعدم معرفته الأجوبة المقنعة، أو لكونه خجول من قول الحقيقة لأن الحقيقة تكلفه أصوات انتخابية.

لو ألقينا نظرة تاريخية سريعة ومختصرة للعراق وتكوينه الجغرافي لوجدنا أن الاستعمار البريطاني والفرنسي قد قسم المنطقة لدول نتيجة لمحصلات الحرب العالمية الأولى والثانية. فكان نصيب الخطوط التي رسمت حدود العراق أنها وضعت أجزاء من مجتمعات ضمن دولة لا رغبةً من الشعوب ولا بالتشاور معهم، ولم يكن بأيدي الناس سلاحاً سياسياً يعارضون أمراً قد أقر من قبل المستعمر القوي. ومثل هذا الكلام لا يرضى به المتمسكين بالحلم العربي الكاذب (أمة عربية واحدة …ذات …). فالذين ينتمون للجزيرة العربية، والذين ينتمون لبلاد الشام ووادي الرافدين وبلاد فارس وقسم الكرد بين دول متعددة. فمجموع سكان عراق اليوم هم أقوام متنوعة لهم جذور تاريخية وثقافية تختلف عن بعضها البعض إن لم نقل لغوياً، بل أيضاً حضارياً وحتى أسلوبهم في ممارسة الحياة. ولهذا الأمر بحث طويل يقع ضمن دراسة واقع المجتمعات العراقية تاريخاً وثقافة.

هذا التنوع ليس أمراً سلبياً، لكن عدم الاعتراف به وبيانه بشكل واضح أدى لوجود سلبيات كثيرة. ولذلك إن تطلعنا على الأدبيات الشعبية لجميع المجتمعات العراقية لوجدنا الصراع منتشر ظاهر لكن غير عنيف. (ولنكات والأمثال العراقية) أثر كبير في زرع وثبات الفوارق بل ونشر الضغائن. ولو أن دراسة أجريت لعادات وتقاليد المجتمعات العراقية لنجد هناك فوارق وتطابق بين السكان القريبين للدول المحيطة بالعراق. فأن المجتمع المتجانس الواحد لا يمكن أن تتنوع لغاته يمكن أن تكون فوارق في اللهجات، لكن لو أخذنا مثلاً اللغة العربية واللغة الكردية فليس هناك أي أساسيات تلاقي أو تقارب، فأصل اللغة الكردية من جذور (أندو أوروبية) وبعيدة كل البعد عن اللغة العربية، واللهجات العربية في الموصل تختلف عن لهجات أهل الجنوب وأهل الجنوب تتقارب لهجاتهم وطباعهم مع سكان عر بستان. (مع أن سويسرا اتحادية ذات ثلاث لغات رئيسية الفرنسية والألمانية والإيطالية)، لكن التاريخ المتداول يتحدث عن الآشوريين والبابليين والساميين والآراميين وغيرهم من أقوام وتربط بالعراق. نعم وجدت على أرض العراق لكن لم تكن دولة محددة كالتي هي الآن. نحن أمام أمر واقع قبل به الأكثرية كأمر واقع مفروض، وهناك شعور ورغبة كبيرة لدى الكرد لينالوا دولتهم مثلهم كباقي البشر في تكوين دولة متجانسة ذا ثقافة عريقة وجذور تاريخية بعيدة لا تمس بالعرب لا من قريب ولا من بعيد…ولا أعرف غاية المحاولات التي تريد إلغاء هذا الحق من خلال الحديث عن وحدة الأرض والشعب.

لا أعرف السبب في قتل الأمل ومنع أمة من حلمهم الجميل، مع أن القيادات الكردية رغبت التعاون والعيش ضمن عراق فيدرالي اتحادي وهذا ما نص عليه الدستور برغبة واندفاع كبيرين.  ولي بحث طويل حول المجتمع العراقي نشرت بعض فصوله في مقالات متفرقة.

نظراً لعوامل تاريخية وثقافية ومجتمعية أرى أن المصالحة ضرورية وحقيقية، فلو أننا تخيلنا يوماً عراق يقر المتحدث باللغة العربية يتقن اللغة الكردية كما هو حال الكرد وليس فقط إتقانهم للغة العربية بل معرفتهم بتاريخ وثقافة وحضارة العرب، لكنا قد اقتربنا من الخطوط الأولية للتعايش السلمي الحقيقي…حين تتلاشى جميع ثوابت الحقد والكره الذي زرعاه المتسلطين على مر عصور تعاقب الحكومات والحروب المفروضة على الشعب الكردي.

العراقيون المتحدثون باللغة العربية وحسب تنوع بيئتهم وعلاقاتهم مع الدول المجاورة مازال كثير من الفوارق ثابتة في أعماق الأطراف إن كانت ثقافية أو دينية أو مذهبية. وكذلك في الطرف الشرقي من بلاد العراق يشترك الكرد الفيليين مع سكان محسوبين على دولة إيران في تاريخ وثقافة بعيدة الجذور، بل فهم قومٌ واحد متجانس، فصلت بينهم الحدود المصطنعة ليس إلا. فطبائع المناطق القريبة من الحدود السعودية غير طبائع أهل الأهوار والوسط…وطبائع السكان القريبين لحدود الأردن وسوريا لا تتقارب مع طبائع أهل الجنوب…بل هناك ثقافة مختلفة وأعراف مختلفة نوعٍ ما. ويمكن القول هناك تحديات كبيرة لرفع الفوارق.

لعب الاستعمار العثماني والصفوي دوراً مؤثراً في زرع كثير من الأحقاد وتباعد الأطراف عن بعضها البعض وإن كانت بينهم مشتركات كثيرة كاللغة والدين، وهذه الفوارق جلية حتى في مناطق داخل بغداد. ثم لم يذكر بشكلٍ واضح ثقافة الصابئة المندائيين وتاريخهم العريق في جنوب العراق وطبيعتهم وديانتهم حيث سكنوا آلاف السنين أطراف النهرين. ولم يذكر تاريخ الآشوريين وغيرهم من أقوام قطنت المنطقة لتاريخ بعيد حيث مازالوا متمسكين بعقائدهم وثقافاتهم دون أن يتطلع عليها عامة العراقيين…فأكثرهم ذابوا في المجتمع العراقي الغالب خوفاً من إظهار دياناتهم وثقافاتهم…وقد أبيد وأبعد الكثيرين منهم خلال الأعوام الخمس الماضية…وكثيرٌ منهم هرب لخارج العراق حفاظاً على أرواحهم من القتل العنصري والتطهير العرقي والفتنة الطائفية. مع أنهم شردوا في زمن الطاغية وسلب جميع محلاتهم وتجارتهم في صناعة الذهب. كما كان النظام البائد يريد محو أثر الكرد الفيليين من خلال قتل شبابهم وتهجير ما لا يقل عن مليون إنسان. ولم يأتي عملية التطهير العرقي لشيعة الجنوب وبالخصوص الأهوار بتجفيف المياه وحفر نهر سميَ باسم الطاغية لمحو أثار تلك الحضارة العريقة والتي تمتد لأكثر من ستة آلاف سنة.

المصالحة الوطنية ضرورية وقائمة، وأن تشكيل وزارة الدولة بعنوان وزارة المصالحة الوطنية كان التفاتاً مقصوداً من قبل السيد رئيس الوزراء له أثر فعال لرفع الفوارق والأحقاد القاتلة إن كانت الوزارة قد خططت لرفع الرواسب المختلقة وبيان الحقائق التاريخية والاعتراف بها جميعاً ثم العمل على التلاقي وليس التلاشي.

واكرر مرة أخرى بأن ما يذهب إليه البعض حول أن المراد من المصالحة الوطنية هو بين البعثيين والحكومة…قد صرح أكثر المسؤولين في الحكومة أن البعث كفكر انتهى (مع أننا سمعنا ونسمع بلقاءات في الخفاء والعلن، مثل لقاء بحر الميت وفي دول عالمية متعددة بين القيادات العراقية والقيادات البعثية)…حتى الذين يعدون من قادة البعث لهم نفس التصريح…أما إذا كان المراد القضاء على كل من كان بعثياً فهذا أمرٌ من المحال ولأسباب منها واقعية وأخرى منطقية. الجميع يعلم أن النظام البائد قد فرض شعار من ليس منا فهو علينا. وأنه كان في زمن الطاغية من غير الممكن الدخول لأي جامعة دون أن يكون الطالب بعثياً، ومن غير الممكن تسلم وظيفة دون أن ينضم المتقدم للوظيفة لحزب البعث، وكان إجبار العراقيين للتطوع في الجيش الشعبي والجيش العراقي بعد جر وإجبار العراق في حروب داخلية وخارجية. نعم الحزب فاشي عنصري وكلُ من أقترف جريمة بحق الشعب العراقي يجب أن يقدم للقضاء لينال عقابه…لكن من غير المنطقي ولا المعقول قتل مليون عراقي إن لم نقل سبعة ملايين عراقيين كانوا يعدون ضمن حزب البعث. القيادات التي ساهمت في القتل والتهجير والتعذيب والكوارث المتكررة على العراقيين يجب أن يحاسبوا وكم أتمنى ويتمنى معي الكثيرين لو أن البعثيين قدموا اعتذاراً للشعب العراقي عن مجمل الجرائم التي ساهموا فيها بشكلٍ وآخر. لكن هل لديهم القدرة…هل يمكن أن نطلب من كل بعثي أن يعلن للعلن براءته من البعث…وهل نقبل من القيادات التي تمثل البعث بالقيام بهذا الدور.

إذن بعد هذا العرض السريع أرى أن المصالحة الوطنية ضرورة وغاية وطنية، لكن يبقى السؤال بين من ومن؟ وإن كانت المصالحة مقتصرة بين الأحزاب والكتل المشاركة في العملية السياسية لتقسيم الكعكة العراقية دون إشراك عموم العراقيين لكي ينالوا جزءاً من ثمار المصالحة فهي مصالحة ناقصة…وإن حاول بعض السياسيين توضيح الأمر بأن توصل السياسيين لمصالحة سوف تدر نتائجها على عموم الشعب العراقي. وأن كانت المصالحة من أجل أن تكتسب الجهات الظالمة مكاسب سياسية وسلطوية على حساب الفقراء من أبناء الشعب العراقي فهذا مرفوض وردوده العكسية أكثر من نتائجه الإيجابية.

وإن كانت مقولة السيد رئيس الوزراء بأن المصالحة الوطنية نجحت فهو ضربٌ من الخيال كما قال بخصوص خطة فرض القانون نجحت بعد عودته من لندن وإجرائه للفحوصات الطبية ومن صحن الإمام الحسين عليه السلام أمام جموع الزائرين. وبعدها بأيام بدأت عملية الفرسان وليس فقط بعد خراب البصرة بل أمتد العنف للعديد من المحافظات ومازال القتل في بغداد العاصمة مستمر.

الرأي السائد بين المراقبين والمثقفين الوطنيين أن المصالحة ضرورية ولكن يجب أن تكون على أساس ضوابط وطنية بعيد عن مصالح قومية مذهبية عرقية. وأن يتغير الخطاب السياسي ليصبح خطاب يدافع عن مصالح الشعب العراقي بعيدة عن غايات الأجنبي وتطلعات أعداء العراق. وإلا فهي مصالحة مصلحي نقص فاقد للمقومات الحقيقية وبعيدة عن إرادة الشعب.

الرأي العام العراقي متذمر من كل ما تقوم به الحكومة والكتل السياسية، لأنهم لم ينالوا ولا جزء يسير من العيش الكريم فضلاً أنهم يرون أن أهم أسباب القتل المستمر هو سوء تصرف الأحزاب والقيادات السياسية. والشعب العراقي يدفع ثمناً باهظاً لعدم توافق القوى السياسية لتبعيتهم مصالح دول أجنبية لا تمس الوطن بشيء. عندما يلمس الإنسان العراقي البسيط أمراً مادياً ومردوداً على أرض الواقع قد يعيد ثقته بالحكومة والأحزاب. فليس هناك حزب قد أنجز ما وعد به من خلال برنامجه السياسي.

عامة العراقيين يرون أن العراق قد بيع للأجنبي ولا يحصلون من ثروات العراق إلا الفتات…أو بالأحرى لا يحصلون عليه إلا الحرمان والقتل ومزيد من التشرد والحقد والظلم. فعلى القيادات السياسية التنازل لمستوى مطالب الجماهير والمواطن البسيط…على القيادات أن تعي خطورة الرأي العام العراقي…عليهم الارتقاء للمستوى الوطنية وإشعار المواطن العراقي أنه فعلاً ينتمي لهذا الوطن لكي يتفاعل مع متطلبات المرحلة والمستقبل القريب في بناء دولة متطورة يكون القانون مرجع الجميع ويتحكم بالجميع…على الأقل الأنصاف يسود لأن العدل بعيد المنال.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 29 نيسان/2008 - 22/ربيع الثاني/1429