يشتكي معظم المهتمين بالشأن السياسي في دول الخليج العربي من
تباطؤ تطور وتبلور المفاهيم السياسية الحديثة، والتي تنعكس بصورة
مباشرة على تطور الحراك السياسي في الدولة، فعلى الرغم من اتسام
البيئة السياسية في دول الخليج بالاستقرار النسبي، واختفاء مظاهر
الثورات والانتفاضات والانقلابات المسلحة، إلا أن مجالات التحديث
السياسي حتى الآن تبدو محدودة إلى درجة كبيرة، رغم أن بعض دول
الخليج خطت خطوات واسعة في الممارسة السياسية، لكنها تبدو عاجزة عن
تحرير أو استيعاب المفاهيم الحديثة أو المستوردة من الخارج
واستثمارها في سبيل تطوير السياسة.
إطلالة سريعة على دول الخليج توضح مدى الهدوء الذي تتصف بها
بيئتها السياسية، وهو هدوء كامن فيه الكثير من الترقب والحذر،
ويعود ذلك إلى طبيعة الحكم التقليدي، فهو أعطى للسياسة صبغة خاصة
تميل إلى البساطة والتلقائية، لكنها من جهة أخرى لها قابلية
الاستجابة للتحديث، من ضمن شروط الحكم التقليدي، على أن المعنيين
بالتحديث السياسي من نخب ومفكري الخليج لم يعمدوا إلى تحديث
المفاهيم السياسية وتبيئتها، بقدر ما فضلوا المحافظة على الوضع
السائد والهدوء النسبي والمستقر، حتى بدا أن الحراك السياسي
الداخلي يقوده مزاج الشارع العام الذي يعتمد على ردود الأفعال
والتلقائية، أكثر مما تحركه التوجهات السياسية المدروسة، وهو ما
دعا بعض المتابعين للقول إن النخبة السياسية في الخليج تتبع مزاج
الشارع وتنقاد له، بدلا من أن تقود هي الشارع، وتحدد مساراته.
في الكويت على سبيل المثال يتلمس المرشح لمجلس الأمة مزاج
الشارع «ضد الحكومة، أو مع الحكومة» ليحدد حركته السياسية وفق ذلك
المزاج، وهذه المراعاة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بتحقيق الرضا
الجماعي، فلو كان كذلك لكفى، ولكنه في الحقيقة يستهدف تحقيق
المصالح الخاصة والفئوية على حساب الجمهور، وعلى حساب المصلحة
العامة أيضا، وقد لاحظ الجميع أن أكثر المرشحين ميلا إلى المواقف
الحكومية، يرفع شعارات صاخبة ضد الحكومة ورجالها في سبيل كسب ود
الشارع، بعيدا عن مطابقة ذلك السلوك للمبادئ أو مخالفتها، إن كان
لديه ثمة مبادئ.
التطور السياسي يعني التحرك في اتجاه تحقيق أهداف النظام
السياسي القائم، وعلى رأسها الديمقراطية، الحرية، الشرعية،
المشاركة الشعبية، العدالة، والعقلانية، ودول الخليج، كسائر الدول
العربية، لاتزال مثل هذه الحزمة الإصلاحية غائبة عنها، ويبدو
للمتابع الجاد أن حالة من النفور والتخاصم تكتنف العلاقة فيما بين
كل النظم التقليدية والمفاهيم السياسية الحديثة، فهما ضدان لا
يجتمعان عملا، وإن اجتمعا شعارا وعنوانا فقط.
وفي نظر بعض المهتمين، فإن المحافظة على الاستقرار السائد في
معظم دول الخليج، هو بحد ذاته هدف الحداثة السياسية أو التحديث
السياسي، ويميل هؤلاء إلى الدعوة إلى تجنب أي تصعيد من شأنه أن يخل
بهذا الإنجاز، على قاعدة عصفور باليد، لكن الأمر الذي يغيب عن
هؤلاء وأمثالهم أن تحديث السياسية في دولنا يستحق تقديم الكثير من
الجهد، وهو بالضرورة يعمل على حفظ النظام من السقوط، أو الانهيار،
أو التفكك، فتقادم النظام السياسي يجعله أقرب إلى التهالك بفعل
حركة الزمن، وزيادة الأعباء على النظم التقليدية، وهي أعباء لا
تستطيع الأنظمة الخليجية الحالية تجنبها إلا بصعود موجة التحديث
السياسي، وإثبات أنها دولة قادرة على العيش في القرن الحادي
والعشرين.
طريق الحداثة السياسية
الرغبة في التجديد لا تقدم جديدا، لا على مستوى المفهوم، ولا
على مستوى الواقع، وإنما يستلزم أمرها أن تبادر دول ومجتمعات
الخليج نحو التجديد بخطوات حثيثة ومدروسة، ولتحقيق ذلك ينبغي العمل
على توفير بيئة ملائمة تستوعب المفاهيم السياسية الحديثة، وأقترح
في سبيل تحقيق ذلك:
1 -دفع المؤسسات المدنية والأحزاب المقننة للالتزام بالأسس
الديمقراطية، وتشجيع حالة التدافع للقيادة، والتنافس بين مختلف
الشرائح والقطاعات، والتأكيد على ضرورة أن يسعى كل فرد إلى تفجير
طاقاته والتحرك نحو المواقع القيادية والعلمية، وأن الكفاءة وحدها
هي المعيار للتقدم وتعزيز المواقع، وليس درجة الولاء ودرجة الطاعة
والانقياد.
2 -تقليص القضايا السياسية السرية والوطنية الخاصة، والتي لا
يطلع عليها إلا أصحاب الشأن، فالكثير من القضايا السياسية تخص
المجتمع ككل، والإصرار على التعامل معها كحزمة أسرار، وكصناديق
مغلقة، يحد من فرص الوعي والمشاركة المجتمعية، ومن المؤسف أن دولنا
حولت مثل هذه الأمور إلى شأن خاص ومغلق، والكثير من القضايا
والنزاعات الداخلية لا يتم التعرف إلى تفاصيلها إلا من خلال مصادر
الإعلام الخارجية، وهي في الغالب تفاصيل غائمة ومضللة، ولكنها في
كل الظروف أكثر صدقية من الإعلام الرسمي.
3 -إصلاح مناهج التعليم، والتأكيد على جانب تنمية الحوار
والإبداع في التفكير بدلا من حالة التلقين والحفظ السائدة حاليا،
وتحفيز الطالب على روح البحث والانفتاح الفكري والثقافي على مختلف
التوجهات والمدارس بحثا عن نور الحقيقة، ولا يتحقق هذا الأمر إلا
من خلال إدخال منهج النقد التاريخي والعلمي في صلب المنهج الدراسي،
وإقرار الفقه المقارن كمقرر لا يتخرج الطالب من دون تحصيله، فهو
السبيل الوحيد لبناء الذهنية النقدية الحوارية بروح منفتحة وعقل
قادرة على الحسم، واتخاذ القرار المناسب، وهو بالعكس مما يجري الآن
تماما، فمخرجات التعليم الحالي تدفع نحو خلق جيل يُسلم عقله لصاحب
المنهج ولأستاذ المادة، ويسلب من الفرد قناعاته وآراءه وتصوراته
وبالتالي يصادر شخصيته.
4 -إلغاء القوانين والتشريعات كافة التي تعيق تطور الحس
الاجتماعي بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، من قبيل قانون
التجمعات، وقانون النشر، وغيرها من القوانين، وكفالة الحريات
العامة في ضوء العمل الإعلامي والثقافي الملتزم بالقضايا الجادة،
والبحث الذي يميل إلى النقد والتشريح العلمي، لكنه يلتزم حدود
الإنصاف والموضوعية والبعد عن التهريج والتعريض بآراء الآخرين، أو
بمعتقداتهم وأفكارهم، فالبحث العلمي والطرح الموضوعي دليل وعي،
وسبيل نهوض، ولا يجوز حرمان المجتمع من ثمراته بحجة سد منافذ الطعن
أمام القلة الملتبسة بالثوب الطائفي أو القبلي.
5 -حث المؤسسة الدينية، وأهل الفكر على الاشتغال المعرفي على
صياغة المفاهيم الحديثة، والتوفيق بينها وبين الدين والثقافة
الاجتماعية السائدة، والعمل على التوفيق بينها وبين سلوك الإنسان
المسلم وبالخصوص الملتزم، فالمؤمن هو الذي يستمع إلى مختلف الآراء
من دون توجس أو ريبة «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه»،
والقيادة السياسية الصالحة هي التي تلتزم لدى اتخاذ القرار برأي
القواعد الشعبية «وشاورهم بالأمر»، والعدل واجب لا يمكن التهاون في
أدائه، بخاصة في الشأن السياسي «اعدلوا هو أقرب للتقوى»، فالمنابر
ورجال الدين لهم دورهم الإيجابي في تحريض الفرد المسلم على التوفيق
بين التعاليم الدينية والمفردات السياسية الحديثة، وسد الفجوة
الهائلة بينهما.
* كاتب كويتي
ahmed.shehab@awan.co |