ما يتعرض له المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية ذو الأصول
الأفريقية باراك أوباما حاليا يعد مأساة بكل المقاييس للنظام
السياسي الأميركي بصفة عامة وللحزب الديمقراطي والتيار الليبرالي
بأميركا بشكل خاص.
وذلك لأن الهجوم على أوباما تعدى العديد من الخطوط الحمر، فعلى
سبيل المثال تحولت أصوله المسلمة ولسبب للهجوم المتواصل على أوباما،
وكان من المفترض أن تمثل تلك الجذور رافدا هاما في شخصية رئيس
أميركا - التي تفخر بالتعددية وتبحث عن سياسة خارجية تساعدها على
فهم العالم والفوز باحترامه في الفترة الحالية.
هذا إضافة إلى سعي خصوم أوباما لتقليم أظافره من خلال الضغط
عليه للتخلي عن مواقفه والتراجع عن مسانديه واحدا تلو الأخر، ويمكن
هنا الإشارة إلى قضية قس أوباما الأفريقي الأميركي الغاضب والذي
أضطر أوباما تحت الضغوط لإدانة أرائه الناقدة لأميركا، وقد يكون
الرجل متشددا، ولكن المرشح الجمهوري جون ماكين يحظى بدعم - بل
ويسعى جاهدا للفوز بدعم - قيادات الجماعات اليمينية المتشددة
وبعضهم لا يقل تشددا في محافظته عن تشدد قس أوباما في ليبراليته
ونقده لأميركا، ومع ذلك تحث الجماعات اليمينة ماكين على التشدد لكي
يوحد الجمهوريين خلفه في الوقت الذي تطالب فيه الجماعات نفسها
أوباما بالتخلي عن مواقفه ومسانديه واحدا تلو الأخر.
وبذلك تتحول حملة أوباما من الهجوم إلى الدفاع المتواصل، ومن
البحث عن حلول جديدة ومبتكرة لمشاكل أميركا السياسية الداخلية
والخارجية إلى مجرد مرشح باهت وظل فارغ للأفكار الليبرالية
التقدمية وببغاء يردد ما يريد أن يسمعه الآخرون.
المؤسف هنا أن الهجوم على أوباما يأتي بمباركة ودعم قطاع واسع
وسط الديمقراطيين والليبراليين الأميركيين، فالحزب الديمقراطي
اليوم منقسم على نفسه بشكل حدي واضح بين مؤيدي أوباما وهيلاري
كلينتون والتي تمثل مصالح النخب الحاكمة للحزب الديمقراطي على مدى
العقود الأخيرة.
ولا تقدم هيلاري كلينتون ومسانديها المسيطرون على مقادير الحزب
الديمقراطي بدائل ليبرالية حقيقية فهي تبدو في كثير من الأحيان
كجمهورية معتدلة وربما متشددة خاصة على ساحة السياسة الخارجية،
ويبدو أن الحزب الديمقراطي لا يريد أن يتعلم الدرس، فمنذ تولي
رونالد ريجان الحكم والحزب الديمقراطي في تراجع، وذلك لأن النخب
التي تسيطر عليه ارتدت أمام مد التحالف اليميني المسيطر عن أجندتها
الليبرالية، وأعتقدت أن الميل للوسط والتخلي التدريجي عن المبادئ
الليبرالية واحدا تلو الأخر سوف يعيد لها الحكم والسيطرة.
في المقابل لم يتمكن الديمقراطيون في الوصول للحكم إلا لثماني
سنوات منذ عام 1980، وفي انتخابات عام 2004 الرئاسة فشلوا عندما
فضلوا جون كيري المهادن على هاورد دين الثائر، ويقول المتابعون أن
فوز الديمقراطيين بالانتخابات التشريعية الأخيرة (2006) لم يكن
بفضل مواقف جريئة تبنوها أو قيادات كاريزمية دفعوا بها بقدر ما كان
انعكاسا لرفض الأميركيين لأجندة بوش وفضائح إدارته والجمهوريين على
المستويين الداخلي والخارجي.
ولما أتيحت الفرصة أمام الديمقراطيين في الانتخابات الحالية
لتقديم مرشح كباراك أوباما أقل ما يوصف به هو أنه مرشح "مختلف"
يمتلك أجندة لا تعكس إلى حد ما الصراعات السياسية الداخلية واردات
جماعات المصالح الخاصة في أميركا بات الحزب الديمقراطي منقسما على
نفسه بدرجة قد لا تكلفه الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة
فقط.
فمأساة الحزب الديمقراطي الراهنة قد تكلفه الكثير، لأنها تعني
باختصار أن الحزب الديمقراطي والذي عرف تاريخيا بأنه حزب المهاجرين
والأقليات والفقراء والحقوق المدنية لم يعد منفتحا على الأفكار
السابقة بالدرجة التي تجعله يرشح رئيسا قادرا على طرح أفكار جادة
وجرئية أو حتى جديدة لعلاج مشاكل الجماعات السابقة، فالديمقراطيين
من أمثال هيلاري كلينتون وجون إدواردز ومن يقفون خلفهم يطمحون في
قيادات جمهورية "معتدلة" بتعريفهم تحافظ على الوضع القائم بقدر ما
تغيره.
وهذا يعني أن السياسة الأميركية التي تشهد خلال السنوات الأخيرة
مخاضا سياسيا ضخما وتقلبات عارمة قد تسفر عن انقسام تاريخي داخل
الحزب الديمقراطي، إنقسام يدفع فئات الديمقراطيين الأكثر محافظة
وصقورية نحو الحزب الجمهوري، أو ربما يدفع الفئات الأكثر انفتاحا
وليبرالية والتي يعبر عنها أوباما لفقدان ثقتهم بالحزب الديمقراطي
والبحث عن بديل ثالث، إنها حقا مأساة للديمقراطيين في أميركا.
http://www.alaabayoumi.com |