ثمة ضرورات ومؤشرات عديدة، تدفعنا إلى الاعتقاد أن المنطقة والظروف
الحساسة التي تمر بها، وطبيعة التحديات والمشاكل التي تواجهنا، كل هذا
يدفعنا إلى الاعتقاد أن هذه المنطقة بحاجة إلى مبادرات نوعية من أهلها،
تستهدف فضح الإرهابيين ورفع الغطاء الديني عنهم، وبناء حقائق وخطاب
إسلامي جديد قوامه الاعتدال والوسطية واحترام المكاسب الإنسانية
والحضارية. وخطاب الاعتدال، لا يمكن تعزيزه، وتعميق موجباته في الفضاء
الاجتماعي، بدون الحرية. فطريق الاعتدال الحقيقي، هو في توسيع دائرة
الحرية والحريات. فهي الوسيلة الحضارية الكبرى لتجذير مفهوم الاعتدال
في الوسط الاجتماعي والوطني.
وكل الممارسات الخاصة والعامة، المناقضة لمفهوم الحرية، هي ممارسات
مناقضة لمفهوم تعزيز الاعتدال في الفضاء الاجتماعي. فالعلاقة عميقة بين
مفهومي الاعتدال والحرية.
فالحريات بطبعها إذا توفرت في البيئة الاجتماعية، فإنها تدفع الناس
إلى المزيد من الوسطية والاعتدال. كما أن الاعتدال سيكرس الممارسة
السليمة لقيم ومتطلبات الحرية.
والمجتمع الذي يبحث عن الحرية، لا يمكن تحقيقها، بتبني خطاب الغلو
والتطرف والتعصب. لأن هذا الخطاب يباعد على المستوى النفسي والعملي بين
المجتمع والحرية.
والمؤسسة السياسية التي تبحث عن الاعتدال، بوسائل القهر والعنف،
فإنها لن تحقق إلا المزيد من الغلظة والشدة والعنف.
لهذا فإننا نستطيع القول: ان الطريق الحيوي لتعزيز خطاب الاعتدال في
الوطن، هو توسيع دائرة الحرية والحريات، والمزيد من الإجراءات
والمبادرات التي تصون حقوق الإنسان وتحول دون امتهان كرامته.
ومشكلات الحرية بكل مستوياتها، لا تعالج بإفنائها أو تقليص مساحتها،
وإنما بحمايتها، وتعزيز مقتضياتها بالقانون. وبهذا نصل إلى معادلة
واضحة لعملية تفكيك جذور خطاب وحقائق التطرف والتعصب، وبناء حقائق
التسامح والاعتدال. وهي (الحرية - الاعتدال - سيادة القانون).
فهذه هي العناصر الجوهرية لصياغة الفضاء الاجتماعي، بعيدا عن كل
أشكال الغلو والتعصب ونزعات الفوضى والخروج على النظام.
فالحرية هي طريق الاعتدال، ولا حماية لهما إلا بسيادة القانون الذي
يمارس دور الحماية والردع في آن.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن المنطقة تعيش اليوم مرحلة النتائج
والتداعيات الخطيرة لخطاب ديني متطرف، وإلغائي، ويعمل على طمس معالم
الاعتدال والتعايش السلمي في المنطقة.
لذلك فإن الحاجة ماسة اليوم، لبلورة استراتيجية وطنية وإسلامية
جديدة، تتبنى قيم الاعتدال والتسامح وحقوق الإنسان، وتتكيف مع مقتضيات
العصر، بحيث تتحول القيم الدينية إلى قيم دافعة إلى البناء والتنمية
والتعايش.
ويعاني المجال الإسلامي في هذه اللحظة التاريخية الحساسة الكثير من
عناصر التوتر المذهبي والتطرف الديني. بحيث أصبحنا نعاني في الكثير من
البلدان والمناطق من ظاهرة التوتر المذهبي أو القومي أو العرقي أو
السياسي المفتوح على احتمالات خطيرة تهدد الجميع في حاضره ومستقبله.
لهذا ومن أجل وقف الانحدار إلى الصراعات والتوترات المذهبية والداخلية،
نحن بحاجة إلى مبادرات وطنية وقومية وإسلامية تحول دون المزيد من
الانحدار على هذا الصعيد وتعمل عبر وسائل ومنهجيات مختلفة من أجل إشاعة
وتعميم ثقافة الاعتدال ومنهج العمل والفكر الوسطي بدون غلو أو تنطع.
ونحن نعتقد أن المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، تتحمل مسؤولية
عظيمة في هذا السياق، وتمتلك القدرة الفعلية للمساهمة في توجيه الرأي
العام باتجاه هذه القضايا والمتطلبات، التي تضبط نزعات التطرف والتوتر
الداخلي في العديد من البلدان العربية والإسلامية.
وفي هذا السياق نقدم مجموعة من التصورات والمقترحات التي تساهم في
تقديرنا في تعزيز خطاب وواقع الاعتدال في الوطن والأمة في مختلف
المجالات والحقول.
1- نشعر بأهمية أن تقود المؤسسات الثقافية والإعلامية حملة إعلامية
لتعزيز خيار الاعتدال والوسطية في الوطن والأمة، لتعريف أبناء الوطن
بأسس وآفاق الاعتدال والوسطية. وكلنا ثقة أن تبني حملة ثقافية وإعلامية
مدروسة وموضوعية من قبل المؤسسات الوطنية والإسلامية لتعزيز خيار
الاعتدال ونبذ ثقافة الكراهية والتطرف سيؤتي ثماره وسينعكس بشكل إيجابي
على حاضر ومستقبل الوطن والأمة في العديد من الميادين والحقول.
2- تأسيس منتدى وطني للاعتدال والوسطية، ومهمة هذا المنتدى عقد
الندوات والمحاضرات، والتعريف بالكتب والإصدارات التي تنسجم وخطاب
الاعتدال، والعمل الثقافي الذي يتجه إلى معالجة الإشكاليات الفكرية
والاجتماعية والسياسية التي تحول دون بروز خيار الاعتدال والوسطية بشكل
مؤسسي في الوطن والأمة.
3- الدعوة إلى تأسيس ميثاق إعلامي ينبذ العنف ويمنع بث كل المواد
الإعلامية التي تحض وتحث على الكراهية بكل أشكالها، وتدعو إلى التسامح
واحترام حقوق الإنسان والاعتدال والوسطية. وإننا اليوم نعتقد وبشكل
عميق أهمية أن يسعى الإعلام الحر لإنتاج صيغ احتضان ورعاية لكل المناشط
والمبادرات والتوجهات التي تعتبر معتدلة، وتدعو إلى التعايش ونبذ
الكراهية والعنف.
وإن حاجة أمتنا اليوم إلى خطاب الاعتدال، ليس حاجة ترفية، بل من
الحاجات الضرورية التي تساهم في حفظ وصيانة المكتسبات الحضارية، وتوفير
البيئة الملائمة لمواجهة الكثير من التحديات والصعوبات التي تستهدف
أمتنا في حاضرها ومستقبلها.
ويحدونا الأمل باتجاه أن تتبنى المؤسسات الثقافية والإعلامية
الوطنية هذه المسألة، وتقود الحملة الإعلامية والتثقيفية لتأكيد خيار
الاعتدال والوسطية في الوطن والأمة.
والاعتدال الذي نقصده، لا يعنى بأي حال من الأحوال التخلي عن ثوابت
الدين والوطن، وإنما يعني قراءة هذه الثوابت بعيدا عن الغلو والتطرف..
وبالتالي فالمطلوب على هذا الصعيد، هو تظهير قيم الاعتدال والوسطية
ونسج العلاقات الايجابية بين مختلف الأمم والشعوب والثقافات والحضارات.
وهذا التظهير ليس خاصا بحقل دون آخر، وإنما جميع حقول المجتمع ودوائره
المتعددة، معنية بشكل أساسي بتظهير قيم الاعتدال والوسطية في المجتمع
السعودي..
ولا يكفي في هذا السياق، أن نعلن الخطاب المتطرف والمغالي والمتشدد،
وإنما ينبغي أن يسند مشروع تفكيك وفضح الخطاب المتطرف، بصياغة خطاب
معتدل، وسطي، متوازن، ويبني حقائقه ووقائعه في الساحتين الثقافية
والاجتماعية..
فالمطلوب اليوم على الصعيد الوطني، وفي ظل هذه الظروف الحساسة
والتحديات الصعبة، العمل على صياغة خطاب وطني وسطي يفكك نزعات التطرف
والغلو، كما يبني حقائق الاعتدال والتسامح في الفضاء الاجتماعي. |