العراق شراكة التراب

أحمد شهاب

قتلت القوات الأميركية ستة أشخاص في غارة على مدينة الحلّة استهدفت عناصر من جيش المهدي، لكن الضحايا توزعوا بين الفريقين العراقيين، فريق السلطة وفريق المعارضة. فقد قُتل في الغارة اثنان من الشرطة وأربعة من المواطنين لا يعلم إن كانوا من أفراد جيش المهدي، أو من الأنصار فقط، وجاء ذلك بعد ساعات قليلة من الغارة الأميركية العنيفة التي استهدفت منزلا في البصرة نجم عنها سقوط ثلاثة قتلى أفادت الأنباء أنهم والدان وابنهما، يؤكد العارفون بأنهم ليسوا من جيش المهدي ولا تربطهم صلة بالسيد مقتدى أو أحد أتباعه، لكن المتحدث باسم القوات الأميركية أكد أن الغارة أصابت هدفا مهما في قيادة جيش المهدي.

وتشير آخر التقارير إلى أن المواجهات التي استمرت أسبوعا بين القوات الحكومية وجيش المهدي في البصرة أسفرت عن مقتل 500 شخص على الأقل وجرح حوالي ألف، كلهم من أبناء الشعب العراقي، سواء من ميليشيا الصدر أم من الجيش العراقي أم من الأبرياء الذين لا تربطهم أي صلة بالجانبين، ويشكل هؤلاء معظم أعداد الضحايا، فيما لم يُصب الضرر القوات الأميركية وحليفتها البريطانية التي دعمت الجيش بالمعدات الثقيلة والغارات الجوية الكثيفة.

قراءة الحدث من زاوية أمنية صرفة تُثبت بالدليل القاطع أن الحكومة ممثلة برئيس وزرائها المالكي أخفقت على رغم استعانتها بالقوات الأميركية والبريطانية من الوصول إلى تحقيق نصر ملموس على ميليشيا الصدر، إذ تؤكد معظم التقارير أن جيش المهدي أبلى بلاء حسنا في قتاله ضد القوات الحكومية والأميركية، واستطاع أن يواجه القوة النظامية بالكثير من رباطة الجأش والقدرة على توجيه ضربات ثقيلة، فعلى رغم سقوط أعداد كبيرة من القتلى في صفوف ميليشيا الصدر، إلا أنها لم تمنعهم من أن يوقعوا خسائر فادحة في الطرف المقابل، وإن كانت المحصلة في أعداد الضحايا تُرجح ما أسماه رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري بخروج طرفي النزاع من المعركة دون تحديد المنتصر.

أما قراءة مجرى الأحداث من ناحية سياسية، وحسب التحليلات الغربية، فإن أهم دوافع “صولة الفرسان” هو رغبة السيد نوري المالكي والتنظيمات السياسية المتحالفة معه على تعزيز وضعهم في الانتخابات المقرر إجراؤها في نوفمبر المقبل، من خلال كسر شوكة وهيمنة التيار الصدري على الشارع، بخاصة بعد بيان السيد مقتدى التاريخي بالانعزال والتفرغ للدراسة، وحديثه عن عدم انصياع البعض لجادة الصواب، وهو الأمر الذي فسرته بعض الجهات السياسية خطأ بأنه بداية تضاؤل نفوذ وحظوظ التيار الصدري، لكن ما جرى على أرض الميدان في الأيام الأخيرة أثبت أن مجرد التفكير في تخفيض حضور تيار الصدر السياسي هو ضرب من الخيال.

وقد كانت ملفتة أيضا مجريات معركة البصرة، فالأكثر أهمية من قدرة جيش المهدي على مواصلة القتال ضد القوات العراقية المدعومة عسكريا وفنيا من القوات الأميركية والبريطانية، هو قدرة السيد مقتدى الصدر على وقف القتال بصورة فورية وشاملة، وقد كان هذا الحدث شاهدا على أن جيش المهدي لا يزال يمثل قوة ذات حضور كثيف وفعالية عالية الأداء تأتمر بقرار واحد، ولم تتفكك إلى مجموعات متشرذمة كما كان متوقعا .

وعليه فإن سؤالا من قبيل، هل لا يزال التيار الصدري قادرا على التأثير في مسار الانتخابات القادمة،والتأثير تاليا على مسار العملية السياسية ؟

 الجواب سيكون وبكل تأكيد: نعم، واعتقد أن المواجهات الأخيرة ستكون لها تأثيرات عكسية على مستقبل الحكومة ورئيس وزرائها، وكل من تورط في إقحام الجنوب بهذه المواجهة المفتعلة، بينما سيحقق التيار الصدري مزيدا من الحضور والجاذبية النضالية.

العراق للعراقيين

لكن بغض النظر عن مقدار الخسارة والربح الذي حققه هذا الفريق أو ذاك على الآخر، فإن المعضلة تكمن في أن الخسارة تشمل جميع أطراف المعركة من الجانب العراقي بلا استثناء، فهي معركة لا رابح فيها إلا أعداء بناء وتشييد مستقبل العراق، وهو مستقبل لا يزال يكتنفه الغموض نتيجة استمرار حدة التوترات الأمنية والسياسية داخل المناطق المأهولة بالسكان، وهي توترات لا تتيح فرصة كبيرة لإعادة رسم خارطة طريق للمستقبل القادم.

لقد كان مؤملا أن يكون أحد أكثر وأهم الدروس رسوخا في ذهنية القادة والسياسيين العراقيين، هي التكلفة العالية التي يدفعها الجميع عند استخدامهم للعنف للتوصل إلى حلول فيما بينهم، فبعد سنوات من عذابات نظام البعث السابق، واستشراء الديكتاتورية على جميع أجزاء الدولة العراقية، انتظر الجميع أن تسود لغة الحوار كثابت في عملية التفاهم الوطني، فالعنف لا يستسقي سوى مزيد من العنف والقهر، بينما الحوار يولد حوارا آخر، وربما أكثر نضجا من الأول.

يجب ألا يتوهمن أحد بأن جلسة حوار أو اثنتين سوف تنهي حالة الارتياب بين فرقاء الساحة العراقية،مهما بالغنا في التفاؤل، فالشك والقلق من الآخرين أمر متوقع بين الأطراف المتنافسة، وهو الحالة الطبيعية التي تسم عادة علاقة السُّلطة بالمعارضة، لكن في النتيجة فإن غاية الأمل ليس الوصول إلى حالة متفانية من التوافق القلبي، وإنما تحقيق درجة مقنعة من التفاهم السياسي واللغة الوطنية المشتركة، ولا يتحقق ذلك إلا بعد تحديد الخطوط الأساسية للسياسة، والابتعاد عن لغة الإقصاء والتهميش.

إن الشراكة الوطنية تقتضي انفتاحا مكثفا بين أطراف الساحة، وهم هنا جميع العراقيين بلا استثناء، فلم يعد من حق أحد شطب الآخر، مهما اتكأ على مبررات بدت له مقنعة، فالعراق للعراقيين جميعا، وهم وحدهم من يمتلك الحق في تحديد مصير بلادهم.

إن أمام العراقيين فرصة طيبة للإقرار بالمشكلات القائمة وتحديد العلاجات الملائمة لها كخطوة أولى وعاجلة، أما الخطوة الثانية فهي الاقتناع بأن بناء لغة تفاهم مشتركة أمر بحاجة إلى الكثير من الوقت والممارسة والجهد، حتى تتحول تلقائيا إلى تقليد راسخ يصعب التنازل عنه لمصلحة خيارات راديكالية عنيفة كالتي رأيناها الأسبوع المنصرم.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 12 نيسان/2008 - 5/ربيع الثاني/1429