مصطلحات ثقافية: التراث

Heritage

التراث: Heritage

شبكة النبأ: التراث، هو مجموع ما خلفته قرائح الأقدمين وصفوة الأسلاف من فكر وعلم وفن ونمط عيش وفنون حضارة مما يمكن لجيلها الحالي الإفادة منه، والاستعانة به على حل ما يواجه من المشكلات والتحديات، أو تعريفه بأنه كل ما أفرزه الماضي من إفرازات، ضارة ونافعة، سامة وسليمة، لا يزال لها أثرها الفعال في مسلكنا ومعتقداتنا وأسلوب معيشتنا ونظرتنا إلى الحياة، منها ما يجدر بنا التمسك به وتنميته، ومنها ما ينبغي علينا محاولة استئصاله، أو الحد قدر الإمكان من نطاق سلبياته.

ورغم أن تراث كل دولة أو قبيلة هو تراث إنساني يملكه البشر في كل زمان ومكان إلا أن معايشة مفردات التراث في الواقع المعيشي ييسر الدخول إلى منجم التراث والتعامل مع كنوزه، وما دامت معايشة مفردات التراث في الواقع المعاش تيسر الدخول إلى منجم التراث، فلنا أن ندرك أن هذه المعايشة لا تتأتى إلا لمن هو على نفس عقيدة أصحاب التراث، ذلك أن المفردات المكتسبة من العقائد، هي أهم مكونات التراث.

التراث حياة أقوام.. لغتهم وأفكارهم وعقيدتهم وممارساتهم الحياتية ورؤاهم، إنجازاتهم وأعرافهم من عادات وتقاليد تصنع ما نطلق عليه الموروث. معنى التراث إذن بسيط والصعوبة تكمن في التعامل معه. وبساطة التراث التي أحالها النقد والتنظير إلى ألغاز تتطلب المعايشة الصادقة مع مفردات هذا التراث وفهمه، وفهم أنفسنا. وتأتي اللغة في مقدمة الموروثات التي تشكل ملامح التراث، لأنها وحدها المعبرة عن العادات والتقاليد والأعراف، عن الإنجازات والأحلام والرؤى، بل حتى عن الجماد الذي شكله الأجداد كأحد الفنون.. وفي طليعة الأمم التي ورثت حضارتها عبر اللغة، تأتي الأمة العربية بلغتها الثرية ومفرداتها الفصحى ولهجاتها القريبة من الفصحى الأم والتي صارت تشكل قاموساً يشي بتطور هذه اللغة الأم وفرادتها. "مجلة سطور، العدد 23، أكتوبر 1998".

والتراث هو تجارب السلف التي تركوها في المتاحف أو المقابر أو المنشآت أو المخطوطات وما زال لها تأثيرها في عصرنا الحاضر. "د. نعمات أحمد فؤاد – مجلة العربي – العدد 300".

يقول د. عبد الحميد يونس: "التراث العربي هو مجموع ما ورثناه، أو أورثتنا إياه أمتنا من الخبرات والإنجازات الأدبية والفنية والعلمية، ابتداءً من أعرق عصورها إيغالاً في التاريخ، حتى أعلى ذروة بلغتها في تقدّمها الحضاري.

فالتراث على هذا هو تاريخ الأمة السياسي والاجتماعي، والنُظُم الاقتصادية والقانونية التي شرعتها، ومجموع خبراتها الأدبية ومنجزاتها في الطب والكيمياء والفلك والفيزياء، وعلم الاجتماع وعلم النفس، وفن التصوير، والعمارة والتزيين، يضاف إلى هذه الخبرات المكتسبة عن طريق الممارسات اليومية والعلائق الاجتماعية التي كثيراً ما تصاغ في حكايات وخرافات وأمثال وحكم ومزح تجري على ألسنة الناس بأساليب تعبيرية متنوعة، تعكس خبراتهم النفسية والوجدانية ونشاطاتهم التخيلية، ومواقعهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية.

متعلقات

تعريف التراث(1)

 بمفهومه البسيط هو خلاصة ما خلَفته (ورثته ) الأجيال السالفة للأجيال الحالية . 

ومن الناحية العلمية هو علم ثقافي قائم بذاته يختص بقطاع معين من الثقافة (الثقافة التقليدية أو الشعبية) ويلقي الضوء عليها من زوايا تاريخية وجغرافية واجتماعية ونفسية.

استخداماته :

 تستخدم مواد التراث الشعبي والحياة الشعبية في إعادة بناء الفترات التاريخية الغابرة للأمم والشعوب والتي لا يوجد لها إلا شواهد ضئيلة متفرقة وتستخدم أيضا لإبراز الهوية الوطنية والقومية والكشف عن ملامحها.

التراث والمأثورات التراثية بشكلها ومضمونها أصيلة و متجذرة إلا أن فروعها تتطور وتتوسع مع مرور الزمن وبنسب مختلفة وذلك بفعل التراكم الثقافي والحضاري وتبادل التأثر والتأثير مع الثقافات والحضارات الأخرى وعناصر التغيير والحراك في الظروف الذاتية والاجتماعية لكل مجتمع. 

مواد التراث وأقسامه

أولا: المعتقدات والمعارف الشعبية

ومن أهمها ما يتعلق أو يشاع عن:

 الأولياء ، الكائنات الخارقة (فوق الطبيعية) ، السحر ، الأحلام ، الطب الشعبي ، حول الجسم الإنساني ، حول الحيوان ، حول النباتات ، الأحجار والمعادن ، الأماكن  غير المأهولة ،الزمن وعلاقته بالظروف السائدة ، الأوائل والأواخر ، الاتجاهات ، الألوان ، الأعداد ، الروح ، الطهارة ، النظرة إلى العالم ، السلوك الفردي والجمعي في المناسبات المختلفة  

العادات والتقاليد الشعبية ثانيا :

العادات الشعبية ظاهرة تاريخية ومعاصرة في آن واحد وهي حقيقة من حقائق الوجود الاجتماعي التي تتعرض لتغير وتجدد دائمين تبعا لتجدد الحياة الاجتماعية واستمرارها.

يقول عالم الفولكلور (ريتشارد فايس) في موضوع العادات:

(هناك بعض صور التعبير البسيطة أو وسائل العرض التي تتكرر دائما كعناصر عادة احتفالية ابتداء من اقدم طقوس الإخصاب أو تقديس الموتى حتى احدث عادات الأعياد التي نعرفها، فالممارسات السحرية الريفية القديمة والاحتفالات الحالية في المدن والمواكب الدينية والاجتماعات تستخدم الأشكال نفسها وعناصر العادات نفسها، أما الفارق الوحيد في ذلك فهو المستوى الثقافي التي تظهر فيه العادة والمناسبة التي تستخدم فيها). 

السمات الرئيسية للعادات والتقاليد الشعبية :

1)  فعل اجتماعي مرتبط بالجماعة ( تطلبها منه أو تحفزه عليها) .

2)  متوارثة ومرتكزة إلى تراث يغذيها ويدعمها

3)  قوة تتطلب الطاعة الصارمة والامتثال الاجتماعي

4)   مرتبطة بظروف المجتمع الذي تمارس فيه

5)   مرتبطة بالزمن والمواقيت ( مثل رأس السنة الهجرية ، عاشوراء ، المولد النبوي ، النبي موسى، موسم الحج ، شهر رمضان ، ميلاد السيد المسيح .....)

6)    متنوعة وشاملة للعالم الإنساني وفوق الإنساني كالميلاد والموت والزواج والعلاقات مع الجيران والقرية والمدينة والتقويمات الشمسية والقمرية... الخ. وخلاصة القول ان الوجود الإنساني يفصح عن نفسه في العادات على اعتبار أنها السلاح الذي يواجه به أسرار الوجود ومشكلات الحياة ويدعم بها علاقاته مع مجتمعه. 

ثالثا: الأدب الشعبي:

 من ابرز موضوعات التراث و أكثرها عراق ومن المسميات التي تطلق عليه: الأدب الشفاهي، الفن اللفظي، الأدب التعبيري.

من أنواع الأدب الشعبي:

1)    المثل

2)    اللغز

3)    النداء  كالتبليغ عن موت أو فقد أو طلب عون

4)    النادرة

5)    الحكاية الشعبية + كقصص ابو زيد الهلالي والبطولات الخارقة

6)    السيرة

7)    التمثيلية التقليدية

8)    الأغنية - أغاني الميلاد والطهور والزواج والبكائيات

9)    الأهازيج والحداء أثناء سفر الحجيج أو الحصاد أو الرعي

10)   الأسطورة والخرافة

الثقافة المادية والفنون الشعبية:

أ‌- الثقافة المادية: هي صدى لمهارات ووصفات انتقلت عبر الأجيال وخضعت لقوى التقاليد المحافظة ومنها طرق:

1) بناء الرجال والنساء لمساكنهم.

2) صنع الملابس

3) إعداد الطعام

4) صيد الأسماك أو الحيوانات

5) حفظ وتخزين الأغذية

6) صنع المعدات والأدوات والأثواب

ب‌- الفنون الشعبية:

1) مثل الموسيقى الشعبية وتشمل:

a. موسيقى الميلاد، العمل، الغزل، الأفراح، الحج.

b. موسيقى الرقص.

c.  موسيقى النداءات والمدائح والابتهالات والأناشيد والسير.

2) فن الرقص ويشمل:

a. رقص مناسبات (جماعي – فردي).

b. رقص مرتبط بالمعتقدات (ذكر، مواكب صوفية).

c. رقص طبقات وفئات معينة (الغوازي، الشركس...). الخ.

3)  فن الألعاب الشعبية وتشمل: فروسية، العاب السيف والمبارزة.

4) فنون تشكيلية شعبية:

وتشمل : الأشغال اليدوية، مثل النسيج، الخشب، القشن الفخار، الخزف، الزجاج... الخ.

 - الأزياء بأنماطها المتنوعة حسب المناطق.

 - الحلي وأدوات الزينة.

 - الأثاث والأواني.

 - العمران الشعبي.

 - الدمى والتعاويذ.

 - الوشم.

 - الرسوم الجدارية.

ما هو التراث وكيف نفهمه؟(2)

من الأسئلة التي واجهت النظم الفكرية والمعرفية على اختلاف مكوناتها ومرجعياتها الفلسفية والاجتماعية, سؤال ما هو التراث؟ السؤال الذي كان ملحا على هذه النظم الفكرية لتحديد موقفها, وبلورة إجابتها, لأنه سؤال لا ينفك في طرح نفسه نتيجة ضخامة وقوة التراث الحاضر في حياتنا الفكرية الراهنة, والمؤثر بشدة كما لو أننا ما زلنا نعيش في عصره. من جهة أخرى أن سؤال ما هو التراث؟ بات متصلاً ومتفاعلاً مع سؤال المعاصرة والحداثة والتجديد. فسؤال التراث هو من وجه آخر سؤال عن العصر, وسؤال العصر هو أيضاً من وجه آخر سؤال عن التراث. لهذا فإن الموقف من التراث هو جزء من مكونات الموقف من الحداثة أو المعاصرة. فما هو التراث؟

يرى الدكتور حسن حنفي أن التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة, فهو قضية موروث, وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات. ويقارب هذا المعنى ما ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري الذي يرى أن التراث هو كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي, ماضينا نحن أم ماضي غيرنا, القريب منه أم البعيد. وفي رأي الدكتور فهمي جدعان الذي واجه صعوبة في تحديد ما هو التراث, فاضطر لأن يعرفه تارة بحد البساطة كما يقول, وتارة بحد التجريد. بحد البساطة, التراث هو كل ما ورثناه تاريخياً من الأمة التي نحن امتداد طبيعي لها. وبحد التجريد, التراث هو وعي التاريخ وحضوره الشعوري في الكيان الفردي أو الجمعي.

وهذا يعني أن التراث ليس كل ما وصل إلينا من الماضي, وإنما هو الذي وصل إلينا من الماضي وله خاصية الفعل والتأثير في حياتنا, وعلى أفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا, والذي لا يمتلك هذه الخاصية لا يصدق عليه وصف التراث, بالمعنى الوظيفي للتراث. ومن هذه الجهة يعتبر تعريف الجابري أكثر دقة وضبطاً حينما قال هو كل ما هو حاضر فينا, أو معنا من الماضي, وكلمة حاضر هي بمعنى أن له فعل الحضور والتأثير. ومن هنا جاءت الجدلية التي وصفت تارة بجدلية التراث والعصر, وتارة أخرى بجدلية التراث والحداثة, أو بجدلية التراث والتجديد. فالتراث هو من جهة ينتمي إلى الماضي من حيث النشأة والتكوين, ومن حيث الإطار الزمني والتاريخي, ومن جهة أخرى هو مؤثر في العصر, وفي حياتنا الفكرية بالذات, ومؤثر فيها بقوة تفوق العديد من المؤثرات التي تنتمي إلى عصرنا. وهذا ما يستوقف الانتباه في النظر إلى التراث.

وهذا المعنى لا يطابق بدقة ما ذهب إليه الدكتور جدعان إذا فصلنا بين المعنيين اللذين حددهما للتراث, ويطابقه إذا جمعنا بينهما. والأصح في تعريف التراث عند الدكتور جدعان هو الجمع بين المعنيين وليس الفصل بينهما.

وما لم تلتفت إليه تلك التعريفات, أن التراث تارة يقصد به ما وصل إلينا, وتارة يقصد به ما نحن نطلبه ونستدعيه, ويصل إلينا بهذا الطلب والاستدعاء. والتراث الذي يصل إلينا عن هذا الطريق فإنه يتأثر ويتعدد ويتغير من مكان لآخر, ومن جيل إلى جيل آخر, ومن مجتمع إلى مجتمع آخر, بحسب طبيعة المكونات والحاجات والمقتضيات الفكرية والدينية والثقافية, التي قد تتعدد من مجتمع لآخر, وتتغير من زمن لآخر. بمعنى أن طبيعة المكونات الفكرية في كل مجتمع هي التي تحدد ما تستدعيه وتطلبه من التراث. وكلما تغيرت الحاجات الفكرية تغيرت معها طبيعة ما يستدعى ويطلب من التراث.

والذي أراه أن التراث يقال للشيء الذي يمكن أن يورث, أي الذي له قابلية النقل والانتقال من جماعة إلى جماعة أخرى, ومن جيل إلى جيل آخر, ومن الماضي إلى الحاضر. وهذا ما نستفيده من الحقل الدلالي لكلمة التراث.

وبهذا المعنى يكون التراث موضوعه هو الانتقال, والانتقال تارة يكون مادياً كانتقال المال والأملاك من الإنسان الميت إلى ورثته الأحياء, وتارة يكون معنوياً كانتقال الحسب والنسب والشرف, وتارة يكون ثقافياً, وهذا هو الذي يتصل بموضوعنا.

لهذا نقول إن التراث هو ما له خاصية وقابلية الانتقال من الماضي إلى الحاضر, الانتقال الذي تكون له خاصية الفعل والحركة والتأثير. وهذا الانتقال إما أن يكون لاعتبارات مرتبطة بالحاضر وحاجاته ومقتضياته, وإما لاعتبارات مرتبطة بالتراث نفسه من جهة طبيعته وقيمته.

تعريف التراث(3)

يرى البعض أن كل ما هو قديم يجب أن نسميه تراثاً، وفريق يرى أن المعاني الجميلة والقيم السامية الموروثة من الأجداد هي التي تستحق أسم تراث ، والفريق الثالث يرى بأن التقاليد والمعارف الشعبية والآداب المتشابهة في المنطقة العربية هي التراث بعينه وهي التي يجب الحفاظ عليها لأنها تربط بين العرب وتزيد من لحمتهم أما الخصوصيات الدقيقة فهي من أسباب الفرقة .

هناك مقولة تؤكد على أن ( ليس كل شائع شعبي ، ولكن كل شعبي شائع ) كما أن من أهم خصائص التراث الشعبي الخصوصية والمحلية ونحن بذلك ندحض القول الثالث ، أما القول الثاني فجوابه أن أجدادنا لا ينتمون إلى مجتمع مثالي ولم يكونوا مثاليين تماماً فهم شعب من الشعوب الإنسانية بأوجهها المختلفة من خير وشر وطيبة وقسوة ، أما القول الأول فحملة رايته هم الذين ينطبق عليهم القول ( أصبح التراث عمل لمن لا عمل له ) الأعلام والصحافة والمسنين والشباب والنوادي والشركات والفنادق والعرب والأجانب كل شيء في هذا الزمن رفع راية التراث ، منهم من هو على حق وهو أهل لهذا التراث والبقية ( بدرهمك المنقوش لا بالعزائم !؟ ).

إن التراث الشعبي ثروة كبيرة من الآداب والقيم والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية والثقافة المادية والفنون التشكيلية والموسيقية ، وهو علم يدرس الآن في الكثير من الجامعات والمعاهد الأجنبية والعربية لذا فإن الاهتمام به من الأولويات الملحة .

أن أكثر ما أنتج عن تراث فلسطين وباديتها يشوهه ويبخسه حقه، أما الحق مما أنتج فهو قليل لقد حان الوقت لإعداد جبهة داخلية منظمة للدفاع عن التراث الشعبي تدحض الافتراءات والدسائس التي تحاك ضده - بقصد أو بغير قصد – فالتراث هو الأصل وأصلنا نقي ناصع لا نرتضي تشويهه أو تدنيسه .

عن مقالة للشيخ سامي أبو فريح .

وهذا تعريف آخر للكاتب صالح زيادنة حول تعريف التراث

التراث :

هو ما ينتقل من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ونحوها من جيل إلى جيل ، نقول : " التراث الإنساني " التراث الأدبي ، التراث الشعبي " ، وهو يشمل كل الفنون والمأثورات الشعبية من شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس ، وعادات الزواج والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من طرق موروثة في الأداء والأشكال ومن ألوان الرقص والألعاب والمهارات .

وكلمة تراث من الفعل وَرَثَ يَرِثُ مِيرَاثَاً ، أي انتقل إليه ما كان لأبويه من قبله فصار ميراثاً له ، وفي الآية الكريمة من سورة النمل ": وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ .." وفي آية أخرى من سورة الأحزاب :" وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا .." وقال الله تعالى إخباراً عن زكريا ودعائه إياه : هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب أي يبقى بعدي فيصير له ميراثي .

وتُرَاث أصلها وُرَاث فقلبت الواو تاءً كما في قولنا تَقوى وتُقاة من وقى ، وكثيراً ما تبدل التاء من الواو في نحو تراث وتجاه وتخمة وتقى وتقاة .

وفي الأمثال الشعبية :" من كان وريثك لا تحاسبه " ،

ومن أمثلة الموروثات الشعبية تعليم المرأة ابنتها الخياطة والتطريز والغزل والنسيج والعجن والطهي ، وتدريب الرجل لابنه على عادات الفروسية والكرم واستقبال الضيوف وعمل القهوة لهم ، ومجالسة الرجال والوجهاء ومعرفة أمور القضاء العشائري والقوانين والأعراف القبلية ، وكذلك معرفة الفلاحة وزراعة الأرض وتربية المواشي من أجل العيش والارتزاق .

ومن هنا نرى أهمية التراث في نقل كل ما هو جميل من العادات والقيم والأخلاق الحميدة من جيل إلى جيل ، والحفاظ على التراث هو حفاظ على القومية ، والهوية الوطنية واللغة من التلف والضياع .

تعريف العادات

العادات :

العادات : جمعٌ لكلمة عادة ، وهي من الفعل تعوّد يتعوّد تعويداً ، ومعنى هذه الكلمة ومفهومها الدارج هو تلك الأشياء التي درج الناس على عملها أو القيام بها أو الاتصاف بها ، وتكرَّرَ عملها حتى أصبحت شيئاً مألوفاً ومأنوساً، وهي نمطٌ من السلوك أو التصرُّف يُعتادُ حتى يُفعل تكراراً ، ولا يجد المرء غرابة في هذه الأشياء لرؤيته لها مرات متعددة في مجتمعه وفي البيئة التي يعيش فيها .

والعادة اصطلاحاً هي : ما يعتاده الإنسان أي يعود إليه مراراً متكررة . نقول عاد الشيءُ فلاناً ، أي أصابه مرة بعد أخرى ، يقال : عاده الشوقُ أو الحنين أي رجع إليه مرة بعد مرة . ونقول : عَوَّدهُ على .. أي جعله يعتاد هذا الشيء حتى يصير عادة له . وسمعتُ شيخاً يذكر مرضاً يعتاده كلّ عام ويقول :" كل معيود مبارك ". وهناك مثل شعبي يقول :" بن آدم عَوَّاد على أثره ".

وفي لسان العرب في مادة :ع و د : أنشد ابن الأعرابي

لم تَزَلْ تِلْكَ عادَةَ اللهِ عِنْدي، والفَتى آلِفٌ لِما يَسْتَعِيدُ

وقال:

تَعَوَّدْ صالِحَ الأَخْلاقِ، إِني رأَيتُ المَرْءَ يَأْلَفُ ما اسْتَعادا

والعيد : هو تلك المناسبة التي يتكرر مجيئها كلّ عام في وقتها المحدّد ، والعِيدِيّة : هي تلك الهدية النقدية التي يعطيها الرجل لبناته وأخواته ومن له صلة رحم بهن في الأعياد وغالباً ما يكون ذلك في عيد الأضحى المبارك .

وحتى كلمة عيادة تعني المكان الذي يرتاده الناس من وقت لآخر من أجل المعالجة والاستشفاء .

فالعادة إذن هي ما تكرر فعله حتى أصبح ديدناً ، وألفته الأبصار لكثرة مشاهدته في حياة الناس اليومية .

والعرب يكرهون إنشاء العادات الجديدة خشية على عاداتهم المتوارثة ، وخوفاً أن يكون في هذه العادات الجديدة ما يُفقد مجتمعهم بعض المواصفات الكريمة التي يفضلون بقاءها حية فيه ، ويقولون في ذلك :" ابْطِلْ عَادة ولا تُنْشِيء عَادة " ، والمعنى مفهوم من ذلك .

تعريف التقاليد

التقاليد : جمع لكلمة تقليد ، وهي من الفعل قلَّدَ يُقلِّدُ تقليداً ، ومعناها أن يُقلِّد جيلٌ أساليب الجيل الذي سبقه ويسير عليها ، إن كان ذلك في الملبس أو في السلوك والتصرفات أو في العقائد والأعمال المختلفة التي يرثها الخلف عن السلف . وفي المنجد ، التقليد : ج تقاليد وهو ما انتقل إلى الإنسان من آبائه ومعلميه ومجتمعه من العقائد والعادات والعلوم والأعمال .

ويقال قَلَّدَ فلاناً : أي اتبَعَهُ وحاكاهُ فيما يقول أو يفعل من غير حجة ولا دليل .

وفي تراثنا وحياتنا الاجتماعية عندما نرى فتاة تطرِّز قطعة من القماش لتعمل منها ثوباً ، فإننا ندرك أنها تُقلِّد والدتها في ذلك . وكذلك لو بدأت تعجن الدقيق أو تتعلم الطهي على الصاج أو غيره فهي تكتسب تلك المهارات مما تراه عند والدتها وتقلدها في ذلك متخذة إياها قدوة لها تسير على نهجها وتتبع خطواتها وتسلك مسلكها .

والطفل عندما يبدأ النطق فهو يقلد والديه ويحاكيهم في لفظهم وتصرفاتهم حتى يستقيم لسانه ويهتدي إلى اللفظ السليم .

وكذلك في السلوكيات فإن للبيت أثره البارز على تنشئة الأولاد وتربيتهم على الأسس السليمة ، فمن يتربى في أسرة محافظة ملتزمة بدينها يسير على نهج والديه ، ومن يتربى في أسرة فاسدة فالنتيجة معروفة إلا من رحم ربي .

وكثيراً ما نرى ترادفاً ظاهراً بين كلمتي عادات وتقاليد فنرى الناس يقولون : من عاداتنا وتقاليدنا فعل كذا ..

أو إننا نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا .. فالعادات والتقاليد مثلاً تقضي بأن لا تزوّج عائلة ابنها أو ابنتها من عائلة أخرى ، ليس لأن في تلك العائلة ما يعيبها ، ولكنهم ساروا في أثر آبائهم وقلدوهم في تصرفاتهم ولم يغيروا أو يبدلوا شيئاً .

وكثيراً ما نرى بعض الصفات التي تدلّ على القِدَم والجهل والعمى تلتصق بكلمة التقليد مثل : تقليد أعمى ، وتقاليد بالية وغيرها من الألفاظ والعبارات التي يستعملها المفلسون في أغلب الأحيان .

وكثير من الأشياء التي ذكرناها تحت عنوان العادات يمكن أن تندرج تحت هذا الباب وليس في الإعادة فائدة .

وفي أمثالنا الشعبية :" اللي يعاشر القوم أربعين يوم ، صار منهم " لأنه يتعلم طباعهم ويجاريهم في عاداتهم وتقاليدهم ويعرف عنهم كل صغيرة وكبيرة .

تعريف التراث(4)

 يطلق لفظ التراث على مجموع نتاج الحضارات السابقة التي يتم وراثتها من السلف إلى الخلف وهي نتاج تجارب الإنسان ورغباته وأحاسيسه سواء أكانت في ميادين العلم أو الفكر أو اللغة أو الأدب وليس ذلك فقط بل يمتد ليشمل جميع النواحي المادية والوجدانية للمجتمع من فلسفة ودين وفن وعمران... و تراث فلكلوري واقتصادي أيضا.

و الأصل من التراث هو كلمة مأخوذة من ( ورث) والتي تعني حصول المتأخر على نصيب مادي أو معنوي ممن سبقه.

أما الأصل التاريخي لكلمة تراث فهي تعود إلى أقدم النصوص الدينية حيث وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم (( و تأكلون التراث أكلا لما )) - الفجر 19 – حيث كان المقصود بها الميراث.

حيث كان الأصل في البداية استخدام لفظ الميراث نيابة عن كلمة التراث ولكن مع تقدم العصور أصبحت ( التراث) هي الكلمة الأكثر شيوعا للدلالة على الماضي وتاريخ الأمة و حضاراتها وما وصل إلينا من الحضارات القديمة سواء أكان هذا التراث متعلق بالأدب أو العلم أو القصص ( أي كل ما يمت للقديم).

 أما عن المعنى المعاصر لكلمة تراث فهو (( التراث الفكري المتمثل في الآثار المكتوبة الموروثة التي حفظها التاريخ كاملة ومبتورة فوصلت إلينا بأشخاصها)).

ومن الجدير بالذكر أن التراث هو ليس الطابع أو الخصائص القومية بل هو أعمق من ذلك فهو يعبر عن مجموع التاريخ المادي والمعنوي لحضارة معينة منذ أقدم العصور فكثير هي الحضارات التي حكمت منطقة أو مكان واحد ومع أن هذه الحضارات قد ولت إلا أن التراث هو الوسيلة الوحيدة أو البصمة المميزة التي أعطت لتلك الحضارات شخصيتها والتي استطعنا أن نستدل على عظم هذه الحضارات من خلال مبانيها الأثرية أو أساطيرها المقولية التي وصلت إلينا.

أقسام التراث

من أهم الأقسام الشائعة للتراث هو:-

يضم هذا النوع كل التراث الملموس والذي يرى بالعين فهو يشمل:-

أ - كل ما شيده الأجداد من عمائر, الدينية كالمساجد والكنائس, دور العلم والأضرحة والزوايا والخانقاهات والتكايا وعمائر أخرى كالقصور والمنازل والأسواق والخانات والمراكز الصحية والحمامات والسبلان .

 ب – الحرف اليدوية والصناعات التقليدية التي يتم صناعتها بالاعتماد على المواد الخام الموجودة في المنطقة كصناعة الصابون والزيت في نابلس وصناعات أخرى في مختلف أرجاء فلسطين كالخزف والفخار والنحاس والزجاج والصياغة والحياكة والتطريز والنسيج والغزل .

 ج- الأزياء الشعبية كالثوب الفلسطيني الذي كان يعد اللباس التقليدي للمرأة الفلسطينية بينما كان القمباز اللباس التقليدي للرجل,وتضم أيضا وسائل الزينة والمطبخ الفلسطيني بأدواته الختلفة والطابون والفنون الأخرى المختلفة .

وهو مجموع النتاج الفكري لأبناء الشعب فهو يعبر عن ابداعاتهم على مر العصور في مختلف المعارف سواء أكان في العلوم الدينية والفقهية والفلسفة واللغة والأدب والشعر والتاريخ والزراعة وحتى التشريعات القضائية والحكايات والأمثال الشعبية وغيرها من العلوم التي ارتبطت بشكل مباشر مع الانسان وواقعه وحياته اليومية .

 الفنون الشعبية الفلسطينية هي من أقسام التراث المهمة والضرورية جدا لما لها من دور كبير , حيث هي قوة قومية لشعبنا بالاضافة الى أهميتها كقوة معنوية أيضا , فهي حصيلة وجدان ومشاعر شعب بأكمله , حيث كانت تلك الفنون من الوسائل المهمة للتعبير عن أفراحهم وأحزانهم وآلامهم وأمالهم وخيبات أملهم أيضا من عمليات التأمر المستمرة على شعبهم , ومن تلك الفنون الأهازيج والأغاني الشعبية التي تحتوي على العديد من الأمور التي تعبر عن عاداتهم كأغاني الأعراس التي توضح مثلا عادة الحناء للعروس أو سهرات العريس , فالدبكات أيضا تعتبر من الفنون التراثية والرقص الشعبي .

كما أنها تضم أضا الزخرفة والفنون التشكيلية التقليدية والتجريدية والفنون الشفاهية الأدبية . وهذا التراث يتوارثه الأجيال أيضا جيلا بعد جيل , والفنون الشعبية هي التي تميز شعبا عن آخر .

 أهمية المعرفة بالتراث المعماري

1. إن الأهمية في معرفة التراث تعود إلى ضرورة المعرفة بتاريخ المدينة التي نعيشها ومعرفةارجاع كل اثر لدينا الى العهد او التاريخ الذي بنيت فيه لمعرفة الخصائص والعناصر التي ميزت الابنية في كل فترة وذلك حتى نستطيع القيام بعمليات الصيانة والترميم والمحافظة على الاثار التي لدينا ولمعرفة كيفية العناصر في تلك الاثار وفي حالة القيام بالترميم لمعرفة كيفية التعامل مع المبنى من حيث المواد المستخدمة او الطرق الهندسية سواء المعمارية او الانشائية او الفنية.

 2. اهمية التراث تعود الى الاهمية في تعزيز الهوية الفلسطينية ،فالهوية التي تجمع ما بين افراد الشعب او الامة لها تاريخ عميق وماضي ولها امجاد ولها ثقافة يعبر عنها التراث ،التراث بما يحتويه من رموز معبرة عن الآم شعبنا ومشحونة بالمعاني والعواطف ،حيث ان التراث يحتجز بتاريخ الامة وعواطف الروحية والقومية.

 3. اهميه المعرفه بالتراث ايضا هي مرتبطه بشكل اساسي بالمحافظه على جذورها المتأصلة في الارض , وقيمنا وثوابتنا صامدة في الارض وهي دلاله على حقنا الشرعي في بلادنا وبمعرفتنا تكون لدينا القدرة على دحض أي محاولات لنسب هذة الارض الى الكيان الصهيوني او محاولات نسب التراث الذي لدينا على انه جزء من تراثنا فهنا اهميه نضاليه وطنيه قوميه.

 4. ان المعرفه بالتراث تقودنا الى الاطلاع على عظمه التاريخ الذي لدينا والى روعه  الحضارات التي سكنت في مدننا مما يولد الدافع الذاتي لدينا لحمايه هذة الاثار والمحافظه عليها فهنا يخلق نوع من الوعي الشعبي باهميه الاثار الموجودة في مدننا وقيمتها بالنسبه لدينا.

 5. المعرفة بالتراث يدفعنا الى الاهتمام بالاثار وتحسين المناطق المحيطة بها فتصبح كمعالم اثرية تجتذب السياح والناس اليها مما يؤدي الى النمو الاقتصادي والحضاري وتنشيط الاقتصاد في بلادنا مما يؤدي الى رفع دخلنا الوطني .

التراث الحضاري

التراث الحضاري هو كل ما يدل على التطور الحضاري للمجتمع والدولة من مختلف النواحي سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو العمرانية , وغالبا ما تكون شاملة للشواخص والمباني أو حتى المواقع نفسها .

ولذلك تعد ثروة قومية غير مختصة بجيل بعينه بل هي حق للناس جميعا ولمختلف الاجيال ولذلك تصنف على انها جزء من النفع العام , وتعتبر الشواخص والمباني الاثرية جزءا من التراث الحضاري لانها تمثل احدى فترات التطور الحضاري في الدولة .

مفهوم التراث والمواقف المتباينة تجاهه(5)

  مفهوم التراث :

إن التراث قد عُرف بأنه : امتداد السلف في الخلف، واستمرار مآثر الآباء والأجداد في الأبناء والأحفاد، الأمر الذي يؤكد مقدرة الماضي على أن ينداح في دوائر الحاضر والمستقبل، بل أن بعض التعريفات مثل تعريف المستشرق الفرنسي جاك بيرك نصّت على أن التراث هو : (الماضي يحاور الحاضر عن المستقبل). وعلى الرغم من أن الارتكاز على الماضي يظل مَعْلماً أساسياً بالنسبة للتراث ومنطلقاً لا غنى عنه، كما توضح تعريفات التراث في كل اللغات، إلا أن قدرته على التعامل مع الحاضر والتعايش وفق مقتضياته يبقى شرطاً هاماً من شروط استمراريته وتفاعله مع المجتمع، وكما ان الحاضر لا ينفصل عن الماضي والمستقبل، نجد كذلك ان جذور عاداتنا وتقاليدنا وقيمنا ومآثرنا التي نعيش في كنفها في يومنا الحالي هي امتداد طبيعي لتراث الآباء والأجداد، كما أنها تشكل تطلعاتها المستقبلية إلى حد كبير.

وفي محاولة لاستنباط الركائز الأساسية لمفهوم التراث في اللغة العربية وفي الفكر العربي، نرجع إلى أقدم استخدام لكلمة (تراث) في اللغة العربية، ونسعى لرسم أبعاد هذا الفهم الذي ساد الساحة الفكرية منذ أمد بعيد. ولعل أقدم نص عربي وردت فيه كلمة (تراث) بصورة واضحة ومؤكدة تساعدنا على رسم أبعاد هذه المفهوم هو معلقة عمرو بن كلثوم التي ورد في بعض أبياتها :

ورثنا مجد علقمة بن سيف         أباح لنا حصون المجد دينا

ورثت مهلهلاً والخير منه          زهيراً ، نعم ذخر الذاخرينا

وعتاباً وكلثوماً جمعياً              بهم نلنا تراث الأكرمينا

من الواضح أن المفاهيم التي تعكسها تلك الأبيات وتعمل على ترسيخها تتصل مباشرة بما آثر الآباء والأجداد من صفات كالقوة والشجاعة والبطولة أهّلتهم لأن يصبحوا من كرام القوم. لقد كان – وما زال – التغني بتلك الأمجاد، والترويج لروح العشيرة والقبيلة وقيم التعاضد والتضامن المرتبطة بهما، من أميز ملامح التراث العربي في شتى العصور، ولكنها اتصفت في تلك العصور المبكرة بروح العصبية البغيضة التي نهانا عنها الإسلام وحذّر من عواقبها.

لم تقتصر استخدامات كلمة (تراث) على الجوانب القيمية المتصلة بمآثر الآباء والأجداد، بل شملت كذلك الجوانب المادية المتصلة بالمال والعقار متمثلاً في الميراث، وخير مثال لذلك وصف الله تعالى لحال الأعراب في فجر الإسلام وتكالبهم على الماثل من غير اكتراث لمصدره، أمِن حلال هو ام من حرام، الأمر الذي يوضح أنهم ما زالوا يعيشون بروح الجاهلية ويسيرون على نهجها، ولقد ورد هذا الاستخدام في سورة الفجر في قوله سبحانه وتعالى :  وتأكلون التراث أكلاً لَمّاً وتُحبُّون المالُ حُباً جَمّا .

توالت استخدامات كلمة (تراث) خلال العصور الإسلامية وابتعدت مدلولاتها عن العصبية القبلية، ولكنها ظلت ترفع راية العزة وتتغنى بكرم الأصل، والقدرة على الصمود، والتصدي للظلم والغدر، ومن أمثلة ذلك قول الشاعر الإسلامي القديم سعد بن ناشب الذي يستخدم كلمة (تراث) في قوله :

فإن تهدموا بالغدر داري فإنها             تراث كريم لا يبالي العواقبا

لقد علمنا أن (التراث) لغة ومضموناً يتجه نحو الماضي، إلا أن الدراسات التراثية في الوطن العربي تكاد تنحاز انحيازاً واضحاً نحو الماضي دون الحاضر، وتركز على المآثر والمناقب أكثر من تناولها لموضوعات الحياة اليومية. كما أنها تناولت في الفترات السابقة الجوانب التاريخية والأدبية، لا سيما تلك التي تذخر بكم هائل من (الموتيفات) السحرية والأسطورية، أكثر من اهتمامها بالظواهر الاجتماعية والموضوعات السياسية والنفسية والتي ما تزال تؤثر في أبناء الحاضرة وناشئة المستقبل قدر تأثيرها في حياة الآباء والأجداد، وليس ذلك تقليلاً لشأن الجوانب التاريخية، والأدبية للتراث، فهي من أهم مكوناته، ولكنها دعوة للتعامل مع التراث ومع الماضي من منظور عصري، والخروج به من الدائرة الضيقة للنصوص الأدبية والأحداث التاريخية، والولوج في مدلولاتها الاجتماعية والسياسية والنفسية، وتحليلها وفهمها بصورة تواكب الحاضر كما نتحدث في المستقبل.

وبما أن التراث جزء من الثقافة، بل هو الثقافة المتوارثة عبر الأجيال، فينطبق عليه ما ينطبق على الثقافة من حيث تعريفه وتحديد أبعاده ومفهومه، ومن أهم هذه الأبعاد شموليته وتداخل عناصره. فالتراث إذاً هو السياسية والحكم والعقيدة والأدب والفن والظواهر الطبيعية والاجتماعية والنفسية. وهو كذلك عبارة عن الخصائص البيئية والخلفيات التاريخية، وعليه فهو يشكل هويتنا الحضارية، ونظرتنا إلى أنفسنا والآخرين، ورؤيتنا للعالم من حولنا World –View وإذا شئنا أن نركز على حلقة من حلقات هذه المنظومة المتناسقة المتداخلة، فلعلنا نشير إلى أهمية الجانب السياسي – الاجتماعي لارتباطه بموضوع البحث.

يسهم التراث إسهاماً واضحاً في تشكيل الواقع الاجتماعي والسياسي للأمم والشعوب، بل يعتبر المكوّن الرئيسي للثقافة، لاسيما الثقافة الشعبية، بتجلياتها المختلفة، وعليه فهو أساس الهوية ومفتاح الشخصية الجمعية، حيث إنه يمثل الإرث والتاريخ ويرمز للجذور والأصالة، ولذلك تتمسك به المجتمعات في شتى مراحل تطورها، وتدق على أبوابه وتستلهم قيمه ومعانيه في جميع الأوقات، لا سيما في الأوقات الحرجة وعند مواجهة الأزمات والتحديات، وعلى الرغم من ارتباط التراث بالماضي وبالتاريخ لغة ومضموناً، إلا أنه ينبغي ألا نقف عند تعاملنا معه عند الماضي دون الحاضر والمستقبل، فنحبس أنفسنا ومجتمعاتنا في أزمان غابرة ولّت، أو نظل واقفين مشدوهين عند مراحل تخطتها الأجيال، فالثبات والتغير من خصائص التراث.

من أهم ما تحتاجه الدراسات التراثية في كل مكان وزمان، وفي الوطن العربي بصفة خاصة، وفي الفترة الحرجة الحالية على وجه التحديد، هو المنهاج السليم للتعامل معه دون (رومانسية) وتبجيل وتقديس، أو ازدراء واستهجان. ويأتي في مقدمة متطلبات هذا المنهاج ربط التراث بمشكلات الحاضر وتطلعات المستقبل قدر اهتمامنا بمآثر الماضي، فنستلهم من الماضي معنى البطولة وقيمها الإنسانية والاجتماعية والسياسية في كل زمان ومكان بدلاً من أن نحبس أنفسنا لدى شخصية البطل من غير ان نتجاوز سرد (الموتيفات) الخاصة بسيرته وبأعماله الخارقة، هذه إذاً دعوة إلى تفعيل التراث وتوظيفه بصورة تنسجم مع واقع الحياة العصرية، وتسعى لمخاطبة ومواجهة التحديات المستقبلية، من غير أن تعرضه للمسخ والتشويه، فهو في المقام الأول سجلنا الذي نفخر به على مر الأجيال، فإن لم نكن قدر التحدي ولم نعد أنفسنا إعداداً علمياً وفكرياً واعياً يمكننا من تفعيل التراث وتوظيفه، فمن الأفضل ان نحافظ عليه كما هو في صورته (الرومانسية) الحالمة بعيداً عن المسخ والتشويه والصنعة.

مشروع ‏الموسوعة الكبيرة حول‏ التراث المكتوب للشيعة أوالوسيلة إلى تصانيف الشيعة(6)

 ضرورة التعريف بالتراث الشيعي‏

 (1)

 تتجلّى‏ ضرورة التعريف بالتراث الشيعي في عدّة جهات:

 الأُولى: تعريف الشيعة أنفسهم وأتباع هذا المذهب الوضّاء بالتراث الثقافي الثرّ لدى الشيعة.

 الثانية: تعريفه لغير الشيعة وغير المسلمين.

 في الحقيقة أنّ الكمّ الهائل للتراث المكتوب لدى الشيعة لا يجهله السواد الأعظم من الشيعة فحسب بل إنّ هذا الواقع ينسحب حتى على الكثير من خواصّ الشيعة وعلمائهم.

 ظلّ الإبداع الشيعي في مختلف المجالات والجهود المضنية التي بذلها علماء الشيعة ليل نهار محجوباً خلف سُحب الإبهام، مما حال دون الاستفادة من ثمار هذا الإبداع وعدم الوصول إليها.

 كما أدّى في جهة أُخرى إلى ظهور الأعمال المكررة والفقيرة مضموناً وغير المعتمدة على تراث المتقدّمين. غالباً ما شوهد إهدار عالمٍ مدّة طويلة وبذله جهوداً مُضنية في ابداع موضوع أو مؤلَّف قد سبقه غيره إلى تأليف ما يضارعه أو ما هو أفضل منه. أو أنّه تبنّى رأياً قد تمّ نقده وتفنيده في آثار الأقدمين بالتفصيل . وهذا يؤدّي إلى هدر الامكانات والفرص والأوقات الثمينة من عمر الإنسان بالإضافة إلى عدم التقدّم العلمي والتحرّك في حلقة مفرغة. ولكي لا يبقى‏ كلامنا عاماً في دائرة العمومات نوضّح مرادنا من خلال هذا المثال:

 لقد أبدع الكثير من المعاصرين رسائلَ وكتباً مستقلَّة حول الغناء والموسيقى، ويمكن القول بضرس قاطع أنّ جميعهم أو أغلبهم لم يطّلع ولو على خمسة رسائلَ فقهية للمتقدِّمين حول الغناء ولم يستفيدوا منها. وبطريق أولى لا يمكن للآخرين أنْ يذكر هذا العدد من الرسائل المؤلَّفة في الغناء وذلك لجهلهم بوجودها - إلّا أُولئك الذين خاضوا غمار هذا الموضوع من هذه الزاوية مدّة طويلة - وأثبتوا رأيهم النهائي الذي تم ردّه قبل سنوات بأدلّة دقيقة ومتقنة.

 هذا في حين أنّ فقهاءنا المتقدّمين منذ عصر المحقّق السبزواري (م‏1090) وحتى الآن قد ألّفوا أكثر من أربعين رسالة فقهية في الغناء، استطعنا بفضل اللَّه وبعد البحث المغني من العثور على حوالي ثلاثين رسالة منها، وقمنا بتصحيحها بمساعدة الإخوان وتمّ نشرها في التراث الفقهي (1): الغناء والموسيقى. إنّ بعض هذه الرسائل وإنْ لم تشتملْ على شي‏ء جديد إلّا أنّ الكثير منها يحتوي على تحقيقات راقية وبديعة في هذا المجال مما لا يمكن معه تجاوزها عند التطرّق لهذا الموضوع والحال أنّه لابدّ في الاطّلاع على تراث الماضين ومواصلة جهودهم وتحقيقاتهم والعمل على تطوير العلم.

 قد يقال: من الممكن الاطّلاع على هذا التراث من خلال المراجعة إلى الآثار التي تعرّف بالتراث الشيعي من قبيل الذريعة إلى تصانيف الشيعة. إلّا أنّ لُبّ الكلام هو أن الذريعة لم تذكرْ إلّا حوالي ثلثاً من الرسائل الموجودة في الغناء، هذا مضافاً إلى أنّ هذه التغطية فيها نقص من الناحية الكيفية أيضاً ولا يمكن الاكتفاء بمراجعة الذريعة للاطلاع على أبعادها ومحتواها. وحتى بالنسبة لي لم يخطرْ ببالي أنْ يكون حجم رسائل الغناء بهذهِ السّعة حتى بعد مدّة من مباشرة البحث والمطالعة في هذا الموضوع.

 وتظهر هذه الحقيقة في سائر الموضوعات من قبيل رؤية الهلال، فحتّى ما قبل إقامة مؤتمر الشيخ المفيد والمقدّس الأردبيلي (رضوان اللَّه عليهما) لم يكن الكثير من الخواصّ على علم بالكمّ الهائل للإنجازات العلمية وآراء هذين العظيمين، مما يثبت أنّ التراث الشيعي المدوَّن بقي خافياً حتى على الخاصّة من الشيعة. ومن الثمار الأُخرى التي يتمخّض عنها الاطّلاع على التراث العلمي لدى المتقدّمين هو الإقبال على الأساليب الجديدة في استعراض الحقائق العلمية والحيلولة دون تكرار المكرّرات.

 هذا مضافاً إلى أنّ الكثير من التراث العلمي والمعروف عندنا من قبيل الكتب الأربعة وبحار الأنوار ومؤلَّفات الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، والخواجة نصير الدين الطوسي، لا نعرف منها إلّا العناوين فقط. ولا يعلم مضامينها و محتوياتها حتى الكثير من الخواصّ فضلاً عن سواهم، مما يؤكّد هذا وغيره من الادلّة ضرورة تدوين التعريف بالتراث الشيعي بالنحو الذي سيأتي بيانه.

 من ناحية أُخرى فإنّ أفضل معرّف لمذهبنا ومبيّناً لحقائقه ومضامينه هو التراث الذي أبدعه عظماء هذا المذهب، وليس هناك من طريق لدفع التهم التي أوردها المخالفون، وليس هناك من سبيل لبيان أصالة هذا المذهب أفضل من العرض والتعريف الصحيح والفني والشامل لتراث هذا المذهب. مضافاً إلى أنّنا نعرف الأركان المنيعة لمذهبنا من تراثهم. فقد عرفنا الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والسيد المرتضى، والمحقق الحلي، والخواجه نصير الدين الطوسي، والعلامة الحلي، والشهيدين، والفيض الكاشاني، والعلامة المجلسى (قدس اللَّه أسرارهم) بآثارهم، لا غير.

 علينا حالياً أنْ نُلمّ بدور كلّ واحد من هؤلاء العظام في تطوير مختلف الفروع في الفقه والأُصول والفلسفة والكلام والأخلاق والتفسير وغيرها، وأنْ نواصل الجهود من حيث انتهوا، لا أنْ نكون مجرّد مستهلكين ونكتفي باجترار آرائهم. وهذا يحتاج إلى معرفة دقيقة لآثارهم، ومعرفه آثارهم بدقّة تتوقّف على تدوين ما يعرِّف بالتراث الشيعي بالنحو الذي سيأتي.

 (2)

 نعلم أنّ كتب الفهارس الشيعية المهمّة قد دفع إلى تصنيفها الحاجة الماسّة والدفاع عن التشيّع، فمثلاً كان السبب في تأليف الذريعة أنّ جرجي زيدان الأديب العربي المسيحي قد قلّل في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية في دور الشيعة في إقامة صرح الثقافة الإسلامية. فكان وقع ذلك على علماء الشيعة ثقيلاً، مما حدا ببعضهم إلى الاجتماع، وعقد ثلاثة منهم العزم على التعريف بعلماء هذا المذهب وتراثهم وتفنيد هذا الادّعاء الباطل من جرجي زيدان وأمثاله وتكفّل الآغا بزرگ الطهراني بتأليف كتاب الذريعة.

 وقبل حوالي ألف سنة قام السلف الصالح للطهراني أي النجاشي، الرجالي الشيعي الكبير بتصنيف فهرسته المعروف ب«رجال النجاشي» للسبب نفسه.

 كما تحدّث الشيخ الطوسي المعاصر للنجاشي عن كثرة التراث الشيعي وتشتّته في البلدان وصعوبة الإحاطة به كلّه.

 والحقيقة أنّ غير الشيعة لا يزالون حتى عصرنا الراهن بعيدون عن تراث الشيعة الإمامية ولم يتعرّفوا عليه. انظروا إلى ما كتبه الدكتور وهبة الزحيلي الذي يتردّد على إيران وعلى علم بواقع الشيعة إجمالاً - في كتابه الشهير الفقه الإسلامي وأدلّته حول الشيعة والمؤسس لفقه الشيعة الإمامية:

 سابعاً . أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فرّوخ الصفار الأعرج القمي المتوفى سنة 290 ه، مؤسّس مذهب الشيعة الإمامية في الفقه...

 وابن فروخ هو المؤسّس الحقيقي لفقه الشيعة الإمامية في فارس في كتابه «بشائر [كذا ]الدرجات في علوم آل محمدصلى الله عليه وآله وما خصّهم اللَّه به» طبع سنة 1285 ه .

 (3)

 لقد قام كلّ واحد من كبار علمائنا المتقدِّمين بدوره في تعريف وإحياء تراث الإمامية بشكل جيّد، وبذلوا في ذلك جهود مضنية تفوق تصوّراتنا. حتى عزت الأمثال تضرب في جهود العلّامة الأميني والشيخ الآغا بزرك الطهراني في هذا المجال. وقد ركب المحدّث النوري ومير حامد حسين المخاطر من أجل الوصول إلى التراث الشيعي والتعريف بها أو بلوغ تلك التي يمكن بواسطتها إثبات حقّانية المذهب الشيعي. ونشهد نماذج للجهود التي بذلها المحدّث النوري في هذا السبيل من خلال الرسائل التي كتبها إلى مير حامد حسين.

 لقد قام هؤلاء العظماء في عصرهم بمسؤوليّتهم بشكل جيّد برغم انعدام الإمكانات وبجهود مضنية ومشقّة كبيرة، ولكن تتوفّر حالياً كافّة الإمكانات لإنجاز المهامّ العلمية وخدمة التشيع بما في ذلك تدوين التعريف بالتراث الشيعي العظيم. حينما قام الطهراني بتأليف ونشر الذريعة لم يكن بحوزته سوى عدد معدود من الفهارس للنسخ الخطيّة، ولم يكن الأمر كما عليه الآن من وجود المكاتب العامة ووسائل الاتّصال والطباعة والنشر، فالكثير من كتب التراجم والرجال والتذكرة وكذلك أهمّ المؤلَّفات الشيعية إمّا لم تكنْ مطبوعة أو كانت مطبوعة طباعة حجرية مغلوطة وبخط ردي‏ء و من دون فهارس توضيحية وأحياناً بلا ترقيم للصفحات. ولكن تتوفّر حالياً كلّ أنواع الإمكانات، وقد نشر في إيران وحدها - فضلاً عن بقيّة البلدان الأُخرى - حوالي مئتان وخمسون فهرست للنسخ المخطوطة، مضافاً إلى التحقيقات الأُخرى في التعريف بالتراث. كما أعدّ أفلام وصور عن المخطوطات الموجودة في خارج إيران وتمّت فهرستها، وتمّ عرض الكثير من التراث الشيعي محقَّقاً وبطباعة مصحّحة. إضافة إلى أنّ الاستفادة من الحاسوب يمكنه أن يكون معدّاً جيّداً لهذا المشروع العظيم وإذا لم نستفد من هذه الفرصة الذهبية لتعريف العالم بالتشيع فإنّنا لا شكّ سنكون غداً مسؤولين.

 إنّ جهود أسلافنا من قبيل شيخ المشايخ الشيخ الآغا بزرگ الطهراني (طيّب اللَّه نفسه) وإنْ كانت جديرة بالتقدير الكثير وكونها أفضل ما كان ممكناً في عصره ولايزال أهمّ مصدر في مجال التعريف بالتراث الشيعي، إلّا أنّه لا ينبغي الاكتفاء به حالياً وذلك لوجود بعض النواقص فيه ولا يمكن عرضه لغير الشيعة على ما هو عليه.

 وعليه فإنّ الكتب الموجوده والتي تعرِّف بالتراث الشيعي وأهمّها الذريعة مع مالها من العظمة وما تتّصف به من المحاسن، وكوننا مدينين لجهود مؤلِّفيها، لا تكفي لهذا الغرض، وإنْ كان لابدّ من الاستفادة منها بأجمعها في إقامة صرح التعريف بالتراث الشيعي وجعلها في طليعة هذا الإنجاز العظيم.

 (4)

 إنّ ما نهدف إليه من هذا المشروع، مضافاً إلى فوائد التعريف بالكتب - والتي تحظى بأهميّة عالية - هو الفوائد الكلاميّة وما يرمي إليه هذا المشروع في الدفاع عن المذهب، وفي الواقع فإنّ هذا المشروع يتّم بالصبغة الكلامية والعقائديّة اكثر منها إلى التعريف بالتراث الشيعي، أي إنّ هذا الفهرست كما يهدف إلى التعريف بتراث الشيعة هو نوع من الدفاع غير المباشر عن هذا المذهب المنجي.

 فالحقيقة هي أنّ التشيع وزعيمه العظيم لا يزالان مظلومَيْن، وقد تجلّت هذه الظلامة بأشكال متنوّعة على مختلف العصور، نشير فيما يأتى إلى بعض نماذجها:

 إنّ دائرة المعارف الإسلامية تحدّثت عن الإمام الصادق في الطبعة الأُولى وخصّصت له سبعة أسطر لا تخلو من الغلط والتحيّز. أو مقالة «ابو ذرّ الغفاري» في أربعة أسطر فقط، ولم تشر إلى تشيعه. في حين جاء في تخليص دائرة المعارف والذي يقع في مجلّد واحد تمّ الحديث عن العمامة في ثلاثة صفحات ونصف الصفحة، ولم يذكر الشيخ الطوسي حتى بالاسم».(1)

 وكذلك في دائرة المعارف لفريد وجدي (1295 - 1373 ق) لم يذكر شيئاً في ذيل مادة الإسلام» أو «الإيمان» ولكنّه تحدّث حول «البابيّة في حوالي اثنتي عشرة صفحة.

 واكتفى في الحديث عن سلمان الفارسى بهذه العبارة:

 سلمان الفارسي ويُسمّى‏ سلمانَ الخير، كان من فضلاء الصحابة وأصله من إصبهان، أوّل مشاهده وقعة خندق، توفّي سنه 34.

 النموذج الآخر جاء ذكر مقالة «الشيعة» في ستّة أسطر، في حين وردت مقالة «القرامطة» في واحد وعشرين صفحة.(2)

 مشروع الموسوعة الكبيرة حول التراث المكتوب للشيعة

  أ) الأهداف‏

 1. تعريف العالَم المعاصر بالتراث العلمي الشيعي بشكلٍ دقيق و جامع وشامل.

 2. الدفاع العلمي عن الشيعة بشكل غير مباشر، وبيان رؤيتهم الكلامية.

 3. استعراض و تدوين تاريخ العلم في المذهب الشيعي بشكل دقيق من قبيل تاريخ التراث العربي» لسزگين، و تاريخ الأدب العربي لبروكلمان. وطبعاً تمّ تجاهل دور الشيعة شيئاً ما في هذين الكتابين.

  ب) المحتوى‏

 1. محتوى الشهادة: التعريف الدقيق والتفصيلي لجميع مؤلَّفات علماء الشيعة الإمامية منذ البداية وحتى نهاية عام 1400 ه ق، أي إلى بداية القرن الهجري الخامس عشر، وذلك لظهور مؤلّفات كثيرة أثناء سنوات تأليف فهارس التراث الشيعى، وإذا لم يتمّ تحديد مدّة الشروع فسوف نضطرّ إلى إجراء التغيير والتعديل عليه دائماً. هذا وإنّ عام 1400 يُعدّ عدداً متوجّهاً ويصادف تقريباً بداية انتصار الجمهورية الاسلامية الإيرانية. وإنّ المؤلّفات التي ظهرت بعد هذا التاريخ سيتمّ التعريف بها في مستدرك ومؤلَّف مستقلّ.

 2. تشتمل بعض الكتب على مطالب لا توافق رأي الإمامية وأكثر علماء هذا المذهب، فلابدّ ضمن التعريف إيضاح أنّ هذا الرأي لا يعكس رأي اكثر علماء الإمامية، وإنّما هو رأي شخصي لمؤلِّف هذا الكتاب.

 3. لا بدّ أنْ يكون التعريف بالكثير من هذه الكتب - وليس كلّها - تفصيلياً ومشتملاً على ما يلي:

 - موضوع الكتاب ولغته وعنوانه الدقيق والكامل، - وكذلك العناوين التي يشتهر بها او يذكر بها.

 - اسم المؤلّف أو المترجم ولقبه وتاريخ ولادته ووفاته.

 - ذكر اسم المُهدى إليه.

 - تاريخ البدء والانتهاء من التأليف بدقّة، وما إذا كان المؤلِّف قد أجرى تعديلاً عليه أو لم يقم بذلك.

 - القيمة العلمية للكتاب.

 - خلاصة محتوى الكتاب.

 - أسلوب المؤلِّف في التدوين والتبويب.

 - ذكر جميع النسخ الخطية للكتاب وأو أهمّها.

 - ذكر أكثر مصادر التحقيق حول الكتاب.

 - هل الكتاب مطبوع أم لا؟ وعلى فرض كونه مطبوعاً، عدد الطبعات، أوصافها ومزاياها بدقّة، وعلى فرض عدم طبعه ذكر البداية والنهاية.

 - ذكر الشروح والحواشي والتعليقات والخلاصات والمستدركات والردود ونظم الكتاب إجمالاً.

 - ذكر سائر مؤلَّفات الكاتب التي ذكرها في الكتاب المبحوث أو أرجع فيه إليها، وكذلك التصريح بعدم ذلك فيما إذا لم يذكرْ شيئاً على كتبه الأُخرى.

 - ذكر الموارد التي ذكر الكاتب فيها مؤلَّف المبحوث عنه هنا.

 (الموردان الأخيران لها دور أساسي في إثبات صحّة نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه).

 - مختلف الفوائد العلمية والتاريخيه والتعريف بالكتب المستفادة من التراث، من قبيل تسمية الكتب المفقودة حالياً والنقل عنها.

 4. لا ينبغي إظهار عظمة المذهب وتراثه العلمي من خلال الانهماك في رفع المستوى الكمّي للمؤلَّفات الشيعية، بل لابدّ من بيان المستوى الكيفي العالي والمحتوى القيّم فيها حتى وإنْ كان عدد المؤلَّفات قليلاً.

 5. لا ينبغي الاكتفاء بكتب التذكرة والرجال والتراجم في العثور على تراث علماء الشيعة؛ لأنّ كثيراً من كتب الشيعة لم تذكر في مثل هذه المؤلَّفات؛ بل ذكرت لمناسبة في سائر الكتب.

 6. فقدتْ حالياً الكثير من كتب الشيعة التي جاء ذكرها في كتب التراجم والرجال، ولكن نُقِلتْ مطالبُ عنها في الكثير من الكتب، فلابدّ للتعريف بمثل هذه الكتب من الرجوع إلى المؤلَّفات التي نقلتْ عنها، ولا ينبغي الاكتفاء بذكر أسمائها وأنّها مفقودة حالياً.

 7. بيان سيرة كلّ مؤلِّف باختصار وبشكل متقن وموثّق عند التعريف بأوّل كتاب له، والإرجاع إلى المورد الأوّل عند التعريف بمؤلِّفاته الأُخرى. والأحسن أنْ يذكر تاريخ وفاة كلّ مؤلِّف وعناوين كتبه إجمالاً، ليمكن رؤية فهرسة كتبه ومراجعتها في موضعٍ واحد.

 8 . يتمّ توضيح بعض المصطلحات والعناوين - التي لا تُعتبر موضوع أو عنوان كتابٍ خاصّ - بشكل مستقلّ، كما قام بذلك المرحوم الآغا بزرك الطهراني في كتاب الذريعة، من قبيل عناوين «الإجازات» و«التقريرات» و«الأربعين»، وكذلك تعريف العلوم بدقّة و...

 ج) اسلوب التدوين

 1. يتمّ التعريف بالكتب على الترتيب الأبجدي، وإذا اتفق تشابه كتابين أو أكثر في عنوان واحد يراعى‏ في ترتيب بينها تاريخ وفاة كتّابها وتاريخ تأليف الكتاب. والملاك هو عنوان الكتاب الصحيح أو العنوان الذي اختاره المؤلِّف، وسائر الاسماء وإنْ كانت مشهورة يتمّ إرجاعها إلى العنوان الأصلي.

 2. سيكون لكلِّ كتاب رقم، وذلك حيث يتمّ التعريف به، وعند إرجاع سائر العناوين إلى العنوان الأصلي ستكون بلارقم. ومن بداية المجلّدات إلى نهايتها جميعاً ستكون الأرقام متسلسلة.

 3. كثير من الكتب لها أُسلوب وسياق واحد كالرسائل وأجوبة المسائل التي لم يعنونها أصحابها، وكانتْ نتيجة ذلك أنْ ذكرت في كتب الفهارس بعناوين مختلفة. وفي مثل هذه الموارد يتمّ انتخاب أفضل العناوين ويتمّ إرجاع باقي العناوين إليه.

 4. إنّ الكتابات التابعة من قبيل الشروح والمستدركات والتراجم و... تذكر في ذيل التعريف بكلّ كتاب.

 5. يتمّ ذكر اسم كلّ كتاب مشابه في ذيل كلّ تعريف.

 6. يتمّ الحؤول دون التكرار غير الضروري في خلال إتباع الإرجاعات الدقيقة والمنهجية.

 7. يتمّ عرض نماذج من مخطوطات علماء الشيعة وصور صفحات من النسخ الخطية المهمّة والمعتمدة في المواضع المناسبة.

 8 . في نهاية كلّ مجلدٍ، يتمّ درج أنواع الفهارس الإيضاحية (من قبيل الفهرست الموضوعي كفهرست الكتب الفقهية والفلسفية والكلامية و...، فهرست مؤلِّفات وكتب كلّ قرن، فهرست الكتب المفقودة، فهرست الكتب المخطوطة، فهرست الكتب الفارسية، والكتب العربية، وكذلك اللغات الأخرى)، وبعد نشر جميع المجلَّدات يتمّ تدوين وطبع عدّة فهارس إيضاحية.

 9. في البداية يؤلَّف ويطبع كتاب كمدخل ومقدِّمة، ويشتمل على تعريف بفهارس النسخ الخطية في العالم، والتعريف بكتب التراجم والرجال والتذكرة والفهارس، أساليب وكيفيات تأليف الفهارس، توضيحات حول التشيع وسوابقه وإنجازاته، «منشور عقائد الشيعة» والذي لو حظي بتأييد أكثر علماء الشيعة المقدّمين فسوف يحول دون سيول التهم الموجّهة من قبل المخالفين ضدّ التشيع.

 10. سيكتب هذا المؤلَّف باللغة الفارسية، ثم سيترجم إلى العربية والإنجليزية، وسيتمّ نشره الكترونياً باللغات الثلاث أيضاً.

  د) عدّة ملاحظات‏

 1. إنّ إنجاز هذا المشروع لا يكون على يد شخصٍ أو شخصين أو عشرة، بل لابدّ أنْ يقوم عدد كبير من ذوي الخبرة والمعرفة بمختلف العلوم وأنْ يكونوا على معرفة بأُسلوب العمل وكيفياته، وأنْ يقوم كلّ واحد منهم بتعريف الكتب ذات الصلة بمجال اختصاصهِ.

 2. نتوقّع أنْ يكون حجم هذا الكتاب في ثلاثين مجلّداً من القطع الرحلي من قبيل «دانشنامه جهان اسلام» وأنْ يحتوي كلّ مجلّد على سبعمئة صفحة، وأنْ يكون مجموع صفحات الكتاب أكثر من عشرين ألف صفحة من القطع الرحلى.

 3. إنّ كتاب الذريعة برغم عظمته الكبيرة لم ينجزْ إلّا مقدار 25% من هذا المشروع.

 4. لقد قمت بتأليف كتاب طرح تدوين كتابشناسى بزرگ شيعة قبل ثمان سنوات أي في عام 1376 ه ش، وحالياً تمّ تأسيس مؤسَّسة (كتابشناسى بزرگ شيعه) وبدأت مقدِّمات هذا المشروع على المستوى العلمي بفضل اللَّه ورعايته:

 بعزمةٍ دونها العيوق منزلةً

وساعدٍ ليس تَثْنيه المُلِمّاتُ‏

 إذا ما كنت في أمرٍ مرومٍ‏

فلا تقنع بما دون النجومِ

  الأنشطة الثانوية

 أ) تأسيس مكتبة مختصة بالفهارس والنسخ الخطية والتعريف بالكتب.

 ب) تأسيس مكتبة التراث الشيعة الكبرى. أي يتمّ في الأقلّ توفير نسخة واحدة في التراث الشيعي بأجمعه (أعمّ من المخطوط والمطبوع منها) وحفظه في هذهِ المكتبه وجعله في متناول المحقّقين.

 ج) تدوين الفهارس العالمية للمخطوطات الشيعية.

منهج قرآءة التراث(7)

 بحضور حشد من  الآكاديميين و الأدباء والمثقفين استضافت اثنينية سماحة الشيخ حسن النمر مساء الاثنين12-04-2004م الباحث الاسلامي الاستاذ زكي الميلاد

 و كان موضوع الندوة حول موضوع منهج قرآءة التراث وقد كان الحضور حاشدا  وقد بدأت الندوة بتلاوة عطرة من آيات الكتاب الكريم رتلها عبدالله محمد النمر , ثم تم تعريف الباحث للحضور , وكعادته فقد تميز أداءه بدقائق معرفية  حيث شرع الاستاذ الميلاد في  تعريف التراث في حديثه  حيث تطرق الى عدم إمكانية الحسم بصورة نهائية في هذا الجانب و أنها سوف تكون حاضرة ومتجددة , ثم خصص الجانب الفكري والمعرفي لحديثه من خلال الابتعاد عن الجانبين التقني والفني , وتسليط الضوء على الجانبين والنظري فقط للتعامل مع التراث كإشكالية معرفية ومنهجية , ومن خلال هذه المقدمة انطلق للحديث حول محورين هما :

 مقدمات في المنهج لوضع التحديدات الاساسية في  النظر للتراث واستهله بسوآل عن ماهية التراث .

 و ذلك من خلال تكرر هذا السوآل  وفرض نفسه في كثير من الدوائر الفكرية والفلسفية والعلوم الانسانية , فأشار الى تعريفات لبعض المفكرين  المعاصرين  كالدكتور حسن حنفي و أوجزه بأنه : كل ما وصل الينا من الماضي داخل الحضارة السائدة  ويوافقه أو يقاربه في ذلك الدكتور الجابري: أن التراث هو كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي القريب أو البعيد, و أشار الميلاد الى تعريفات مشابهة أخرى لا تبعد  ولا تختلف كثيرا عن تعريف هؤلاء , و أكد على وجود آراء نقدية لهذا التعريف كما  أكدّ على الحاجة لمعرفتها الدقيقة و إلالمام بما في هذه المفاهيم والقيود كماهية هذا الحضور المشار إليه في التعريف, أو وجود هذا التراث من التأثير في النظم والتصورات الحاضرة ويحتفظ بعناصر الحركة ويمتزج بها و هي التي تكوّن تصوراتنا من خلالها, و إما الحضور الذي لا يحتفظ بخاصية الفعل والتأثير فلا ينطبق عليه هذا التعريف  ولهذا يكون تعريف الجابري أكثر دقة من خلال قيد " حاضٌر فينا  ".

 أما النقاش الثاني حول التعريف فانصب حول التراث الحاضر بغير إرادتنا أو التراث الذي استدعيناه من خلال المؤثرات الفاعلة فينا باستدعاء نسق معين بتأثير التبدلات والتحولات الاجتماعية القابلة للتبدل والتغير لخصوصية معينة لذلك التراث الذي استدعيناه , بهذا يتضح إن التراث الحاضر يختلف من بيئة الى أخرى بل حتى في المجتمع الواحد من خلال التعدد البيئ او الاختلاف المذهبي وذلك مبتني على طبيعة الطلب و ظروف ذلك الاستدعاء.

 ثم أوضح الاستاذ الميلاد رأيه في تعريف التراث فقال أن مجال التراث هو فعرّفه بـ : ما له  قابلية النقل والانتقال , وقد يتم ذلك بصور متعددة من جيل الى جيل أو من زمن الى آخر.

وتارة يكون النقل مادياً كنقل المال والاملاك من الميت الى الاحياء وهذا هو المجال الاصلي لهذا الموضوع واستشهد على ذلك بالآية الكريمة " وتأكلون التراث أكلا لما "

وتارة يأتي هذا  في المجال المعنوي كالجاه والحسب والنسب والشرف , وتارة يكون في الجانب الفكري والثقافي وهذا هو مدار الحديث هنا, وهذا ما يمكن أن ينقل من زمن الى زمن آخر ويمتلك القابلية للانتقال من الماضي الى الحاضر لإعتبارات  وحاجاته مرتبطة بالماضي أو مقتضياته وخصوصية في  التراث أو في ظروف استدعاءه.

ثم تحدث عن المنهج والحاجة لتحديد علاقه التراث بالنص والتاريخ , وذلك لاختلاط هذه المفاهيم بين هذه المفاهيم الثلاثة وكون منشأ هذا الالتباس هو ارتباط هذه  المفاهيم الى الماضي , في حين أنها تختلف كلياً من حيث المعنى والمصدر والماهية والمجال.

وحيث أن التراث من هذه الناحية هو منجزٌ انساني , فهو نسبي ومتغير بمعنى أنه متصل بظرف معين يقبل الصواب والخطأ.

أما النصّ فله خاصية الثبات في مقابل المتغيّر, فهو لكل زمان ومكان , فهو يختلف عن التراث كثيرا, وهو لا يقبل إلاّ الصواب , فهو يختلف عن التراث بالمعنى المذكور.

أما التاريخ فمجاله الحوادث والاشخاص وتأريخ الوقائع , وبهذا يتضح أن التعامل مع التراث ليس تعامل مع الحوادث والوقائع .

ثم تحدث الاستاذ الميلاد عن منهج التعامل مع التراث فأوضح اختزال جوهر المشكلة بكيفية التعامل مع التراث ؟

فأجاب بأن المشكلة ليست في التراث بل أن المشكلة هي في المنهج الذي يستعمل للنظر و التعامل بواسطته مع التراث , وهذا ما يتضح من خلال من تعامل مع التراث من منطلق مادي كحسين مروة وغيره من الماديين والماركسيين.

 واستعرض في المحور الثاني من موضوعه ثلاث صور هي :

1.الادبيات العربية الاسلامية , فقال بأنها بنظر الآخرين : مستغرقة بالتراث ففرض هيمنته وسلطته عليها , فهي مشبعة بالتراث ولكنها غير معاصرة , وأشار من منطلق خاص الى جمود بعض المدارس على تدريس المنطق الارسطي مع ما استجد من تطورات وتحولات في هذا العلم , وهكذا في الفلسفة وغيرها من مجالات أخرى , فتمنى مقابل ذلك انخراط هذه المدارس في المعاصرة للتأثير في التحولات والتغيرات الحاصلة.

2. الادبيات العربية غير الاسلامية فبيّن بأنها: مشبعة بالحداثة وخالية من التراث , وذكر تجربة الدكتور زكي نجيب محمود ةعملية التحول لديه واكتشافه للتراث بعد مطالبته بالبتر والانفصال و أشار الى كتابه عن هذا التحول بعنوان المعقول واللامعقول في تراثنا  العربي.

3. الادبيات المشتركة , فقال بأنها اكتشفت عدم قدرتها على الشارع فظلت حبيسة الافكار و المفاهيم والتصورات التي انتسبت اليها أيدلوجياً لتعطي لنفسها امكانية التأثير والتغيير فعمدت الى الرجوع الى التراث , ولكي لا يكون توظيف التراث حكراً على الادبيات الاسلامية , عادوا لاستعادة الصلة مع الشارع  أثر هزيمة عام 67 العسكرية حيث سماها البعض معركة صراع تفسير الهزيمة وهذا ما تحدث به جورج طرابيشي في كتاب المثقفون العرب والتراث, فأشار الى أمثلة تتعلق بهذا الأمر كأعمال فكرية في الساحة  كالنزعة المادية في التراث لحسين مروة و فلسفة ابن رشد للجابري و  عصر التنوير لأركون و النزعة الثورية ولاهوت التحرير لحسن حنفي و من التراث الى الثورة لطيب تيزيني.

ثم تحول الاستاذ الميلاد الى نقد الحالة القائمة بعدم مقدرتها على  تقديم منجز أفضل مما هو منجز في التراث فعلا لإعادة صياغة العلاقة مع التراث من جديد.

ثم جاء دور الحضور بمداخلاته وكانت كثيرة ومتفاعلة مع ما طرحه الباحث فأجاب عليها وشكر الحضور على حسن اصغائهم و مداخلاتهم , ثم أختتم سماحة الشيخ النمر بمداخلته وملاحظته على بعض ما قدّمه الباحث وبعض الأمثلة النظرية والعملية على التطورات التي تخالف رأي الباحث حول جمود بعض المدارس بموادها وما تدرّسه لتلاميذها فقدم سماحته عشرة أمثله على التجديد في الحوزة العلمية كموسوعة الشفاء لابن سيناء  والاسفار  لملا صدرا  و المحدث الاسترابادي بتأسيس المدرسة الاخباريه , والوحيد البهبهاني بنقده للمدرسة الاخبارية , و الشيخ الانصاري  بجهده  في تجديد علم الاصول في خدم الفكر الاسلامي , والسيد جمال الدين بتأسيسه لمشروع النهضة ,  و مشروع الشيخ النائيني بتأليف كتاب تنزيه الملة وتنبيه الأمة وهو منعطف في التعامل الفقهي للمشروع السياسي  , والإمام الخميني بتأسيس الدولة في مقابل تهمة عدم امتلاك مشروع متكامل للدولة , وكذلك الشهيدان المطهري والصدر بلمساتهما الواضحة في الساحة الاسلامية ,  ثم شكر سماحته الحضور والاستاذ زكي الميلاد على ما قدمه من معلومات مبوبة ومتقنة في ذلك .  

مركز العهد الثقافي

التراث الحضاري العربي والمدينة المعاصرة(8)

ما زال موضوع الانتماء في العمارة والتخطيط يثير الكثير من الجدل حيث تتجاذب طرفي هذا الموضوع نزعة تنحو نحو الحداثة والمعاصرة للحاق بركب الحضارة المتسارع، ونزعة أخرى تحاول أن تبحث في ماضينا وتراثنا عن طابع وطني خاص يحمل هويتنا لكي لا تغرق عمارتنا ومدننا في موجة التقليد الممسوخ، التي تدعي عالميتها وصلاحيتها للعصر ولكل الأماكن والعصور كذلك، ونتيجة للتطور السريع غير المحسوس الذي تسير فيه فقدت الكثير من مدننا وعمارتنا، سماتها وشخصيتها وخصوصيتها القومية، لذلك عادت إلى الظهور صيحات تنادي حتى في دول اوروبا نفسها، بضرورة البحث في الفوارق المكانية والإقليمية والثقافية، وهكذا عادت النقاشات تدور مرة أخرى حول مفهومي التراث والحداثة وما هو مطلوب من كل منهما؟

إن تعريف التراث ليس بالسهل بل هو مفهوم لتلك الخصوصية الإنسانية المعنوية أو الروحانية المتضامنة والمتفاعلة مع الوظيفة، ومن نتائجها يمتلك العمران الحضاري المقياس الإنساني بأبعاد متكاملة ويكتسب خاصية العائدية الحضارية. والمقصود بعبارة العمران الحضاري هو المفهوم الذي نطلبه ويقترن باستمرارية التراث في عملية التصميم والتخطيط الحاضرة.

"فالمعاصرة تختلف عن التراثية التي سبقتها بعمومية الأخيرة والانعزالية الفردية للأولى.. كما وأنها لم تحقق للمستضعفين وذوي الدخل المحدود ما ينافس المعطيات التراثية التي سبقتها وكذلك اقتران مثل هذه المعطيات بالخاصية المشتركة المتفاعلة مادياً وروحياً أو وظيفياً وجمالياً. فالمعاصرة في اغلب هذه الأحوال كانت خيبة أمل في ديارها".

ولم تقترن فلسفة العمارة الجديدة بخصوصية الرابطة الشاملة لوحدة التكامل للطبيعة الجغرافية والمناخية والاجتماع في البقاع العربية. لقد بقيت ولا تزال عمومية في تجاربها ضيقة النظر والرؤيا.

ومن عناصر السلبيات والفشل في مفهوم المعاصرة لتخطيط المدن الحديثة هو مدى الفشل في مجابهة التغيرات بالنسبة لوسائط النقل الحديثة والموازنة بين حقوق الإنسان في الفضاء ومتطلبات النقل الآلية.

"وفي حوزة هذا الإطار الفكري فإن التراث في ماهيته ومفهومه يعتبر وظيفياً وحتمياً للوجود الإنساني ويتواجد وظيفياً وجمالياً بنفس الوقت في صنع العمل الفني - محمد مكية".

إن مهمة فحص ودراسة تراثنا المعماري يتطلب بلورة منهج علمي يستطيع أن يتجاوز الأطر الضيقة لزاوية النظر السلفية التي تحاول أن تكتفي بدراسة التراث باعتباره جزءاً من الماضي والاكتفاء بالانبهار به حد التقديس والدعوة للعودة إلى الحياة داخل هذا التراث فقط على حساب الحاضر ودون إدراك المتغيرات الكثيرة التي حدثت في عصرنا. وهذه النظرة غالباً ما ترتكز على الجوانب غير العلمية في هذا التراث وتهمل تراثنا وإسقاطه بحجة عدم استجابته للمشكلات اليومية التي تطرحها حياتنا المعاصرة وواضح أن مثل هذه النظرة غالباً ما تقود إلى مسخ الهوية الوطنية والقومية.

وهنا تصبح الدعوة لتحليل ودراسة تراثنا المعماري ومكوناته الروحية وتشكيلات الأفكار وبعثها مجدداً بما يجعل العمل الإبداعي المعاصر، معبراً عن نبأ (الروح) من خلال تجذرها، وبذلك يمكن اعتبار تراثنا العربي بمثابة تذكير حي ودائم وصلة وصل بين المراحل الكبرى للتطور وتركيز لهذه الصلة على اساس وحدة الشخصية القومية وتفاعلها الإنساني الحضاري الشامل مع العالم، وعلى أساس هذه النظرة الحية للتراث يصبح (الماضي) منطلقاً وحافزاً وداعماً لكل محاولة لتجديد الحياة في الأمة.

القوانين التخطيطية والطابع العمراني للمدينة

إن القوانين التخطيطية هي التي تحدد بالنتيجة الطابع العمراني للمدينة من حيث نوع استعمال الأرض، وارتفاعات الأبنية ومساحتها وكثافة استعمالها وفضاءات الطرق والأرصفة وواجهات الأبنية ونوعية المواد المستخدمة فيها والمناطق التي يمنع فيها استخدامات معينة للأرض. ولا يخفى على أي مخطط أو مهندس معماري ما لهذه القوانين من أثر مباشر في تشكيل وتغيير البيئة المبنية للمدينة العربية المعاصرة مقارنة بالبيئة التقليدية.

لذلك فإن غياب أو ضعف هذه التشريعات يعني ظهور مدينة وعمارة غير كفوءة وغير صحيحة، وظيفياً وعمرانياً وجمالياً.

لقد لجأت السلطات القائمة على تنظيم المدن العربية منذ بدء تنظيم الحركة العمرانية فيها إلى مجموعة من التشريعات مستمدة من النظم الأوروبية القديمة وهي تهدف إلى تحديد العلاقة بين ارتفاعات المباني وعروض الشوارع وذلك على أساس قواعد ثابتة تطبق في جميع المدن دون استثناء يذكر.

لم تكن هذه التشريعات في حقيقتها سوى عبئاً على كل المعماريين والمخططين الذين يصممون ويشكلون الحيز المعماري في بناء المدن فالتشريع يوضع لتنظيم المدينة ولخدمة الإنسان ولا يمكن أن تتحقق الأهداف ما لم تصحبه حركة علمية وإعلامية واسعة ليس لتوعية المعماريين ولكن مجتمع سكان المدينة.

كما وتتطلب معطيات التطورات الاجتماعية والاقتصادية مراجعة اللوائح والتشريعات التخطيطية التي طبقت ولا تزال تطبق وذلك لمعرفة أثرها في التشكيل المعماري للمدن، ومراجعة المتغيرات التي قد تتطلب إعادة النظر بين فترة وأخرى وإن كانت تقتضي وضع تشريعات تنظيمية خاصة لكل مدينة ودراسة ما يتطلب من تعديل للقوانين والتشريعات السابقة والتي تتطلب دراسات تفصيلية لجميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والمعمارية والتخطيطية ومدى توافقها مع التشريعات القانونية والتي تتفاعل لتشكل النسيج الحضري للمدينة.

ولو رجعنا إلى اللوائح والتشريعات التخطيطية التي طبقت ولا تزال تطبق لتنظيم المدن العربية للاستدلال عن مدى الأثر الذي تركته في التشكيل العمراني لهذه المدن على مستوى السنوات التي طبقت فيها وأوصلت المدينة العربية المعاصرة إلى هذه الصورة لوجدنا كيف إنها فقدت شخصيتها بسبب التدهور العمراني الذي ابعدها كثيراً عن الأصالة.

ولإعادة إنسانية المدينة وتفاعلها مع متطلباتها الاجتماعية يتطلب قوانين تعيد إلى نسيج المدينة عناصرها ومقوماتها البنائية التي تتفاعل مع وجوده وقيمته والتي تعيد له استقراره النفسي ووجوده الاجتماعي ضمن المدينة والتي لابد من البحث عن العناصر التي لعبت دوراً مهماً في إبراز طابع يتميز بإنسانيته وحضوره الاجتماعي.

القوانين التخطيطية والتراث في المدينة المعاصرة

لقد لعبت القوانين التخطيطية، التي وضعت أغلبها في فترات السيطرة الاستعمارية على بلداننا العربية، والتي لم تستند في صياغتها ووصفها على اسس علمية وحضارية، دوراً كبيراً في أن تصل مدننا الحالية إلى أجزاء متنافرة، تحكمها سنة التطور والحاجة الآنية غير المدروسة لمتطلبات الساكنين وحركة المرور، دون الأخذ بنظر الاعتبار الصورة النهائية التي ستتكون لها، ولا إلى البيئة الحضرية المتدهورة الناتجة عنها، والتي إن تم تطوير بعض الأجزاء منها بقيت الكثير منها من مناطق المدينة وخاصة المراكز القديمة للمدن العربية العريقة بمستوى خدمي وحضاري وعمراني متدني، مما أدى بالنتيجة إلى تسارع اندثار هذه الأنسجة الحضرية ذات المدلول الحضاري والتاريخي الكبير وافتقاد مدننا الحالية شخصيتها وهويتها القومية، في وقت لم تكفل هذه القوانين والأنظمة للمناطق الحديثة الإنشاء، سمة التخطيط والبناء لإعطاء الشخصية الخصوصية الحضارية لها. والمتتبع للخطوات التنفيذية لتخطيط مثل هذه المناطق يلاحظ أنه بمجرد شق الطرق الرئيسة المحيطة بمنطقة ما، تبدأ عملية بناء العمارات على جوانب هذه الطرق حيث ترتفع أسعار الأراضي فجأة نتيجة لقوانين التنظيم العمراني التي تساعد على زيادة استغلال الأراضي وارتفاعات المباني على الطرق العريضة والتي دائماً ما تكون هي الطرق الرئيسة على أطراف المناطق العمرانية. ومع استمرار عملية بناء العمارات على جوانب هذه الطرق تبدأ الأدوار الأرضية منها تتحول إلى محال تجارية تجذب إليها حركة نشاط السكان في المنطقة وتظهر الحاجة إلى مواقف للسيارات تخدم هذه المحال.

ومع الوقت تزداد الحاجة وتتفاقم المشكلة، ويرجع المسؤولون يبحثون عن مرحلة أخرى من مراحل التوسع للشوارع وهكذا. وفي هذه الأثناء ومع التنمية السريعة لأطراف المناطق على طول الشوارع الرئيسة نجد أن قلب المنطقة لا يتحرك بنفس معدل السرعة التي تنمو بها الأطراف، الأمر الذي يتسبب في خلل عضوي للتنمية العمرانية للمنطقة يظهر في توزيع حركة السكان على أطراف المنطقة بدلاً من تركيزها في قلبها الذي يستمر مدة طويل دون حياة تذكر.. وتصبح المباني على الشوارع الرئيسة واجهات تخفي خلفها المناطق المتدهورة، لقد توارث المخططون هذا الاتجاه الذي ظهر في مدن الغرب حيث تضطرهم الحاجة إلى ترك قلب المنطقة مفتوحاً يضم السوق التجاري والمدرسة والحدائق وملاعب الأطفال وهو ما يتناسب فعلاً مع البيئة والسلوك الآجتماعي لسكان هذه المدن.. ولا يتناسب قطعاً مع البيئة أو السلوك الاجتماعي لسكان المدينة العربية والإسلامية، الأمر الذي يتطلب نظرية أخرى مناسبة تطبق فيها القيم التخطيطية للمدينة الإسلامية وتستوعب حركة السيارات داخل المناطق التخطيطية مع فصلها عن حركة المشاة. وفي هذه الحالة يبدأ المخطط في المحافظة على المباني ذات القيمة الثقافية والحضارية أو المباني ذات القيمة الاقتصادية ويحدد الاتجاهات الرئيسة لشبكات الطرق القائمة كدليل للاتجاهات العامة لشبكة الطرق في المخطط الجديد.

"وفي ضوء التخطيط العام للمدينة وتحديد نوع التنمية الحضرية في كل منطقة يمكن تحديد المكونات التخطيطية الأساسية لكل منطقة من ناحية عدد السكان القائمين أو المنتفعين وكثافات البناء ونوعية الاستعمالات التي تترجم بعد ذلك إلى أحجام أكثر منها إلى مسطحات.

ومن التحليل السابق للعناصر التخطيطية والمعمارية للمدينة العربية القديمة يمكن إفساح الطريق أمام المخطط المعاصر في تطبيق هذه القيم وهذه العناصر في التخطيطات الحديثة، مع إعطاء الاعتبار الكامل للوسائل التكنولوجية واستعمالها بحيث لا يتعارض ذلك مع القيم الحضارية للمدينة تأكيداً لمبدأ المعاصرة مع الاستمرار الحضاري في بناء المدن. وهنا يكمن الفكر الأساسي للتخطيط الحديث فإذا كان الهيكل العام للمدينة العربية القديمة قد تشكل على أساس المقياس الإنساني المتولد عن الحركة الطبيعية للإنسان ولما كان الهيكل العام للمدينة المعاصرة يتأثر أساساً بالمقياس المتولد عن الحركة الآلية المتغيرة، فإن الفكر الاساسي للتخطيط الحديث يهدف إلى إيجاد اللقاء المناسب بين كلا المقياسين، وربط عناصر الزمن والفراغ والمكان في التشكيل العام للمدينة. لينتقل البحث عن إظهار القيم الحضارية في تخطيط المناطق الجديدة بعد ذلك، وتحديد متطلبات المجتمع الجديد وبلورتها في حجوم ومسطحات يمكن توزيعها التوزيع المناسب في التخطيط الحديث، مع إيجاد الروابط التي تحكم العلاقات الحسية بين هذه الحجوم والمسطحات تشكيل التكوين الفراغي في المناطق المختلفة من المدينة".

الـتُّـراثُ العـَـرَبـىُّ

من التثقيف إلى المثاقفة(9)

 تمهيد :

    فى الأيام الحاضرة ، يكثر فى ديارنا النقاشُ حول ضرورة تحديث الثقافة العربية ، استعداداً للدخول إلى القرن القادم وتحدياته الحضارية .. وكلما استشعرنا وطأة العولمة  التهب القلقُ فينا ، وازداد النقاش ، واحتدمت الآراء.

    والعجيب ، أنه فى غمار تلك الحالة المذكورة ، لايرد ذكر التراث الذى هو المخزون الثقافى لهذه الأمة ! وهو المتواصل فينا عبر اللغة والدين والمفاهيم الكلية، بحيث لاتُفهم ثقافتنا بعيداً عنه .. من هنا، انطوى النقاشُ الدائر اليوم على مغالطة خطيرة، إذ صار بمثابة الشروع فى سَفَرٍ طويل، بلا زوَّادة أو خارطة للطريق .. ولسوف نرى ، فيما يأتى ، أن التراث ذاته ، لم يزل مجهولاً وملتبساً فى دلالاته ، لدى كثيرين من معاصرينا (الذين يتأهبون لدخول المرحلة المعرفية القادمة، وخوض غمار العولمة )

    .. ولتفصيل هذا الأمر ، نتوقف فيما يلى - أولاً - عند إشكالية العولمة ثم ننظر - بعد ذلك - فى المسألة التراثية ، ما بين افتقاد التثقيف .. وضرورة المثاقفة.

    أولاً : غمار العولمة

    لانبالغ كثيراً ، إذا اعتبرنا العولمة هى أخطر القضايا المطروحة أمام وعينا

المعاصر، سواءً على المستوى الثقافى أو السياسى أو الاقتصادى .. وخاصةً فى بلدان العالم (الثالث) أو (النامى) أو (الجنوبى) أو (الفقير) أو (المتخلِّف) .. إلى آخر هذه التسميات الواردة ما بين القوسين  .

    وقد كانت لهذه القضية الأخطر أصداؤها الواسعة فى ديارنا ، وهو ما يشهد به هذا العدد الكبير من المؤتمرات التى عُقدت مؤخراً حول العولمة .. حتى أن أحمد صدقى الدجانى أشار فى مقالٍ أخيرٍ له بجريدة الأهرام إلى أنه : حَضَرَ فى عام 1997 - وحده- ستة وثلاثين مؤتمراً عن العولمة ! وقد حضرنا قبل أسبوعين ، مؤتمراً دولياً عن نفس القضية ، نظَّمه المجلس الأعلى للثقافة، بالقاهرة ، فى الفترة من 12 إلى 16/ 4/ 1998.

    وقد صدر سيلٌ من الكتابات عن العولمة ، فى شكل بحوث مفردة، أو مقالات، أو كتب متخصِّصة .. وكلها تنتظم داخل وجهات نظرٍ ، ثلاث .. فإما توجُّسٌ من العولمة وآثارها المدمرة، وإما ترحيبٌ بالآفاق الممتدة التى تتيحها العولمة، وإما محاولةُ فهمٍ هادئة لجوانب القضية، للنظر فيما يمكن اتخاذه بصددها.

 والمثال على النوع الأول، الدال على التوجُّس من العولمة وآثارها، يظهر فى كتابٍ صدر مؤخراً، وصدرت ترجمته العربية أخيراً بعنوان : عالم ماك  . وفيه يتعرَّض المؤلف للمواجهة بين عملية العولمة التى يصطنع لها اسم (عالم ماك) المتبدِّى فى : ماكدونالدز .. ماكنتوش .. إم تى فى . ومن الجهة المقابلة (الجهاد) الذى يصفه المؤلف بأنه : مصطلح قوى ، يدل فى أبسط صوره على الجهاد الدينى باسم العقيدة ، وهو أحد أشكال التعصب الإسلامى .. ويضيف : إننى أستعير معناه من هؤلاء المسلمين الذين يجعلون ذبح الآخر واجباً سامياً، واستخدم المصطلح بمبناه القتالى ، كى أشير إلى الإقليمية العقائدية العنيفة ، من ذلك الصنف المعروف لدى المسيحيين بصورة لا تَقِلُّ عن المسلمين ، وعَرِفه الألمان ، واليهود ؛ كما يعرفه العرب  .

وهكذا تصطخب المواجهة فى العالم المعاصر ، بين التجارة الكونية المتمثلة فى (عالم ماك) والعرقية المحلية المتمثلة فى (الجهاد) فتضيع القيم الديمقراطية .. ولايفوت المؤلف أن يذكِّرنا بأنه :

ليس هناك مكان يتضح فيه التوتر بين الديمقراطية والجهاد، أكثر من العالم الإسلامى ، حيث موئل فكرة الجهاد - وإن لم يكن بالتأكيد محتكره الوحيد .. فالإسلام لا يرحب بالديمقراطية ، وعدم الترحيب هذا يهيئ الظروف الملائمة للإقليمية ، ومعاداة الحداثة ، والانغلاق ، والاستبعاد، ومعاداة الآخرين ؛ وهذه هى السمات التى تشكل ما أسميتُه بالجهاد .

    وعلى النقيض من وجهة النظر التشاؤمية السابقة ، تأتى وجهة النظر الوردية التفاؤلية التى نراها -على سبيل المثال - فى تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية . وهى مجموعة بحوث أصدرتها اليونسكو وصدرت قبل شهور ترجمتُها العربية، تحت عنوان : التنوع البشرى الخلاَّق .. وفى التقديم نقرأ : يحمل التقرير الذى أصدرته اللجنة العالمية للثقافة والتنمية، سنة 1995 عن الأمم المتحدة عنوان (تنوُّعنا الخلاَّق) وهو عنوان يكشف عن منزع جديد فى فهم الثقافة الإنسانية من منظور النزعة الكوكبية  الوليدة التى كانت بمثابة الإطار المرجعى للتوجُّه الغالب على أبواب التقرير الذى اتخذ شكل الكتاب .. والواقع أن التنوع البشرى الخلاق ، هو مبدأ الفعل الابتكارى فى الثقافة التى تتوثَّب بعافية الحرية ، وتشيع معانى التسامح وحق الاختلاف واحترام المغايرة .. إلخ  .

ولانستطيع هنا إجمال الآراء الوفيرة التى وردت ببحوث الكتاب، بَيْد أن الروح العامة السارية فى تلك البحوث ، تتجلَّى فى نصوع ، مع تلك الفقرات المتناثرة بين بحوثه .. مثل :

* إن العالم قريتنا ، فإن شبَّ حريقٌ بأحد بيوتها ، تعرَّضت الأسقف التى تظلِّلنا جميعاً للخطر .. فيجب أن يكون التضامن هو سمة العصر .. (جيل ديلوز) 

* لا أريد لدارى أن تحيط به الأسوار من كل جوانبه ، وأن تسد نوافذه ، أريد لثقافة البلاد كلها أن تهب على دارى بحرية تامة، لكنى أرفض أن تقتلعنى إحداهما من الأرض (غاندى)

* إن التعددية الثقافية هى سمة ثابتة من سمات المجتمعات المعاصرة .. (ألفا كومارى ، رئيس جمهورية مالى)

* نحن فى حاجة للعمل بين صفوف الشباب ، منذ الأعمار الباكرة جداً .. وعلينا أن نُعلِّم الأطفال أن هناك أساليب كثيرة للملابس وعادات الأكل، وذلك فى أشكال مختلفة ومجتمعات مختلفة.. (امبرتو إيكو)

أما وجهة النظر الثالثة ، الأخيرة، فهى أكثر رصانة من سابقتيها .. ويغلب عليها النظر البحثى المتعمق للقضية ، فى محاولة لسبر أغوارها، تمهيداً لاتخاذ خُطط عمل بشأنها .. ومثالُ ذلك ، فيما نرى ، كتابُ بيتر جران الأخير الذى تقارب عنوانه الأصلى مع عنوانه المترجَم للعربية : ما بعد المركزية الأوربية Beyond Eurocentrism .

 ويقف بيتر جران فى كتابه هذا، موقفاً مضاداً لهيمنة المركزية الأوروبية التى سعت إلى توظيف الثقافة وقراءة التاريخ وصياغة العالم وفقاً للمنظومة الأوروبية بذاتها ، وكأن (أوروبا) هى وحدها : العالم ! وهو يشير فى مقدمته للترجمة العربية إلى أشكال الهيمنة - التى يتناولها الكتاب بالتفصيل- مؤكداً ضرورة النظرة المنهجية للتاريخ الإنسانى، بحيث لاترى فيه: مجرد ذيل للتاريخ السياسى القومى ، أو لتاريخ الرأسمالية .. وإنما تنظر : لتاريخ العالم بوصفه تاريخاً اجتماعياً تتميز داخله صيغٌ عديدة ومختلفة للحداثة .. وبعدما يستفيض فى الكلام عن تجارب الأمم وما يظهر فيها من أشكال الهيمنة .. يختتم الكتاب بتساؤلٍ ، برئ ، عميق الغور : ألاَ تكون القطيعة مع المركزية الأوروبية ، كما اقترح هذا الكتاب ، إيذاناً بمولد عصر ذهبى للتاريخ الاجتماعى، سواءً داخل الأوساط الاكاديمية أو خارجها ؟

    .. وقد يقال ، إن ثمة موقفاً أو وجهة نظر رابعة ، مؤدَّاها الرفض التام للعولمة ، ومجانبة العالم بأسره .. بسورٍ حديدىٍّ ، أو ما يشبهه ! وهو فيما نرى موقف لايستحق الوقوف عنده طويلاً .. إذ هو - على أحسن تقدير- لايدرك دلالة ما يجرى فى العالم .

 ووفقاً لما سبق، فإننا نرى أنفسنا أقرب إلى اتخاذ الموقف الثالث . نظراً لأنه ينطلق من رؤية موضوعية ، ويطرح وجهة نظر جديرة بالاعتبار من جهة .. ومن الجهة الأخرى ، لأنه أكثر ملائمة لموقعنا ، نحن المنتمين للثقافة العربية الإسلامية .

    ومن هذه الزاوية ، ندخل إلى مسألة التراث.

 مفهوم التراث

هناك تعريف معجمى للتراث ، فهو فى اللغة مشتق من الإرث يقول ابن منظور فى مادة (ورث) : الإرث هو الميراث وهو الأصل، ويقال الإرث فى الحسب والوِرْث فى المال، ويقال فى إرث صدقٍ أى فى أصل صدق.. وعن ابن الأعرابى : الوِرْثُ والوَرْثُ والإِرْثُ والوِراثُ والإِرَاثُ والتراثُ، واحدٌ .. ويقال توارثناه، أى ورثه بعضنا عن بعض قِدماً . ويفسر الزَّبيدى كلمة إرث بأنها : نحو استيلاء الشخص على مال وليِّه الهالك .. والملاحظ، أن اللغويين القدامى لم يتعرضوا لبيان لفظة تراث ذاتها ، مع أنها كلمة قرآنية وردت فى قوله تعالى {وتَأْكلُون التُّراثَ أَكْلاً لَـمّاً } مكتفين ببيان مصدر الكلمة، بحيث يصير التراث مرادفاً لكلمة الميراث وكلاهما من مصدر ُأرث.

أما التعريف الفنى للتراث، فهو حديثٌ نسبياً فى ثقافتنا ، فقد اصطلح أهل البحث فى التراث، على أن هذه اللفظة تشير إلى النتاج الحضارى للأمة العربية الإسلامية خلال عمرها الممتد عبر القرون، فيقال التراث العلمى لإسهامات العلماء العرب فى فروع العلم .. وقد تتخصَّص اللفظة فيقال التراث الكلامى للإشارة إلى جهود المتكلمين (أهل البحث فى العقيدة والتوحيد) أو التراث العثمانى للإشارة إلى إنتاج الحضارة الإسلامية فى زمن الدولة العثمانية .. وهكذا .

ويختلف الباحثون فى التراث حول تحديد الفترة الزمنية، التى نقول عما قبلها إنه تراث فيذهب البعض إلى أن التراث يقف عند آخر القرن العاشر الهجرى. والبعض الآخر يرى أن التراث كمفهوم حضارى، هو ماسبق مجئ الحملة الفرنسية سنة 1798. فى حين يقرر البعض أن التراث هو كل ما مضى عليه خمسون عاماً أو يزيد.

ولما كان الزمان الإنسانى، يتحرَّك دوماً بين قطبى (الماضى - المستقبل) ولما كان التراث متعلقاً بالماضى، وكان الماضى لحظة تراكمٍ دائم .. فإن التراث هو نتاجُ الماضى بعمومه، وكل ماله قيمة حضارية - مما مرَّ علينا- فهو تراث ؛ بقطع النظر من المدة المنقضية على مروره. ذلك أن المتصل الزمانى لاينقطع، ولايتوقَّف ثم يعاود السير، ولذا فإن تراثنا الأدبى - مثلاً - يشمل الشعر الجاهلى و (فى الشعر الجاهلى) ويمتد حتى يشمل مدرسة الديوان، وهو يضم شعراء المعلقات، والمتنبى، وأحمد شوقى، والعقاد ، وأمل دنقل .. فكل مامرَّ ، هو تراثٌ .

والمصدر الرئيس لمعرفتنا بالتراث هو المخطوطات صحيحٌ أن ثمة مصادر أخرى، كالعمائر والطبعات القديمة والتناقل الشفاهى .. إلخ، بيد أن هذه المصادر تُعَدَّ ثانويةً بالنسبة للمخطوطات ، إذ هى الحصيلة المدوَّنة للنتاج الحضارى العربى الإسلامى، عبر قرون طويلة سبقت اكتشاف الطباعة ودخولها المنطقة العربية .. ومن هنا ارتبط البحث التراثى دوماً، بالعمل فى المخطوطات : فهرسة وتصنيفاً ونشراً وتحقيقاً.

 الأشكال الثلاثة للتراث

لما كان التراث هو المخزون الحضارى الذى يتراكم دوماً، ليشكِّل الرصيد العلمى والثقافى للأمة، فقد دعت الضرورة إلى اتخاذ موقفٍ فكرىٍّ محدَّدٍ من هذا المخزون التراثى .. وهذا الموقف ـ فيما نرى ــ لابد له من مراعاة أمرين؛ الأول: الفهم العميق للتراث والمعرفة الواعية بمكوناته .. والأمر الآخر : القدرة على استشراف المستقبل ومتابعة احتمالاته وإمكاناته اللانهائية ، وتحدِّياته .. والإدراك العميق للتجليات المختلفة للعولمة .

فعلى سبيل المثال .. إذا كان الحاضر والمستقبل العالمى، أعنى روح العصر الحالى، يقوم على دعامة العلم وتطبيقاته المختلفة فى النواحى التكنولوجية والمنهجية والمعلوماتية .. فإن موقفنا من التراث ينبغى له ألا يهدر هذه الحقيقة ، ومن هنا كان تقسيمنا للتراث وفقاً لهذه الأشكال الثلاثة :

    1 ــ التراث الفـاعـل

وهو ذلك الجانب من التراث الذى من شأنه أن يفعل، أو يمهِّد للفعل، فى حاضرنا ومستقبلنا .. فإذا كنا نعيش عصر العلم، ونتهيّأ لدخوله والمشاركة فيه، فإن التراث (الفاعل) فى هذه الحالة هو : التراث العلمى العربى .

ولاينكر مشتغلٌ بتاريخ العلم الإنسانى، دورَ العلماء العرب/ المسلمين فى تطور فروع العلم ، وتلك حقيقةٌ أكدَّتها الدراساتُ الإستشراقية منذ وقت مبكر ، وواقعةٌ دلَّت عليها حركةُ تطور العلم الإنسانى .. لكن العجيب، أنها تلقى الإنكار والاستنكار على يد زمرة من كُتَّاب العربية ، المعاصرين ؛ وفريق من الباحثين الغربيين المتعصبين ضد الحضارة العربية الإسلامية .

المهم ، أن التراث العلمى يُعدُّ - بالنسبة لنا اليوم - عنصراً ذا فاعلية مؤكَّدة .. صحيحٌ أن بحث التراث العلمى العربى / الإسلامى، لن يقدِّم لنا إجابات عن تساؤلات العلم الحالية ، ولن يصوغ مخترعات تكنولوجية متقدمة، ولانظم معلومات. لكن هذا التراث من شأنه، تهيئة العقول والنفوس للمعرفة العلمية - لأن العلم قبل كل شئ : منهجُ تفكير - ومن شأنه الإقلال من النزعة الدونية التى تسيطر على الوعى العربى تجاه الغرب، بمعرفة أن العقلية العربية ساهمت فى صياغة العلم الغربى المعاصر وكانت إحدى مقدماته الأساسية .. ناهيك عن الفهم الواعى لطبيعة العقلية العربية ذاتها وتطوُّرها العلمى، وهو فهم ضرورى للحاضر والمستقبل.

    2 ــ الـتراث الخـامـل

ونعنى به ذلك التراث الذى فقد أهميته مع مرور الزمن واختلاف الأحوال الحضارية، وإن كان له فى الماضى شأنٌ عظيم أدى إلى اتساعه .. لكنه اليوم (خامل) بالنسبة لمقتضيات العصر، ومثاله فى التراث العربى مباحث السيمياء والكيمياء السحرية : لأن هذه المباحث اختلطت فيها المعارف الطبيعية بالرموز والإشارات المبهمة والإيماءات التى لن نقع لها فى معرفتنا الحالية على دلالة محددة. تلك ـ إذن ـ تراثيات فى ذمة التاريخ ، ليس من شأنها أن تفعل فعلاً فى عقلنا المعاصر ، ولاتثمر دراستها إلا من حيث كونها درس فى التاريخ ومتحفياته الثقافية .

ومن التراث الخامل تلك التفاريع الكلامية (نسبةً إلى علم الكلام) الطويلة التى لاتنتهى، والتى طال فيها الأخذُ والردُّ بين المتكلِّمين، حول مباحث كالإمامة وعلاقة الذات الإلهية بالصفات ، فمِنْ قائلٍ إن الإمامة لاتنعقد إلا لمن كان قرشياً، إلى معارضٍ لايرى القرشية شرطاً للإمامة ! ومن معتزلةٍ يقرِّرون أن الصفات عين الذات، إلى أشاعرةٍ قائلين بصفات سبع ذاتية ثبوتية، وباقى الصفات خارجة عن الذات .. ولكم طال كلامهم فى تلك المباحث ، وغاص فى التفصيلات - لظروفٍ خاصة بعصرهم- حتى أنه يصيب العقل المعاصر بالدوار . من هنا نقول عن مثل هذه التراثيات إنها خاملة، بمعنى انها لن تضيف شيئاً لغير المتخصصين فى تاريخ العقائد والمذاهب الكلامية.. أما العقل العربى الجمعى ، فمن الخير له أن يُولى اهتمامه لما هو أخطر من هذه المباحث، التى لم يعد طرحها اليوم يُجدى .

3 ــ التـراث القــاتــل :

ونعنى به ذلك الجانب من التراث، الذى لايؤدى إلى فعالية العقلية المعاصرة (كما هو الحال فى التراث العلمى) ولايؤدى إلى ضياع الوقت والجهد دون ثمارٍ مرجوة، لخمول موضوعه (كما هو الحال فى السيمياء والتفاريع الكلامية) .. وإنما يؤدى إلى أذى بالغ ، بالتكوين الفكرى والعلمى -والحضارى بوجه عام - لهذه الأمة .

ومن أمثلة ذلك الجانب (القاتل) من التراث : فنون السحر والشعوذة والتنجيم.. فهذا النوع من التراثيات من شأنه تخدير العقلية المعاصرة والإلقاء بها فى متاهة الخرافة، ناهيك عن مباعدته لها عن الواقع والروح العلمية . وقد ظهرت هذه التراثيات على هامش الحركة الحضارية للأمة العربية/ الإسلامية، وتراكمت مع مرور الأيام حتى صارت قسماً من التراث ( مخزون الماضى) لكنه قسمٌ قاتل لمن يعبث به، ولا غنى فيه لدارس التاريخ أو مستشرف المستقبل .

.. وهذا التقسيم الثلاثى للتراث، ينطبق على التراث فى عمومه، كما ينطبق على الفروع التخصُّصية منه . ففى فرع التراث اللغوى مثلاً، تكون المعاجم ومتون اللغة تراثاً فاعلاً (لأنها تؤكد العنصر الثقافى للأمة) بينما تعد الخلافيات الفرعية للنحاة وهجائيات الشعراء ومجوناتهم تراثاً خاملاً (لايهم غير الدارس فى تاريخ اللغة والأدب) أما فن الأحاجى والألغاز البلاغية والنحوية، فهو تراث قاتل لكونه مضيعة للوقت والجهد .

ونفس الأمر نراه فى تراثنا الفلكى ، ذلك أن الأرصاد الفلكية والحسابات الرياضية للأجرام السماوية - المعروفة فى تراثنا باسم : الأزياج . هى تراثٌ فاعلٌ لأنها لم تفقد أهميتها مع مرور الزمن، إذ هى رصدٌ للكرة السماوية فى فترات زمنية متتالية، وكذلك (المنهج العلمى) لدى علماء الفلك ؛ كل ذلك تراثٌ فاعل. أما الخامل من التراث الفلكى فهو أسلوب صناعة الآلات اللازمة للفلكيين، إذ هى صناعة لاتفيد غير المشتغل بتاريخ الفلك العربى، ولاتؤدِّى إلى حصيلة علمية إضافية بالمفهوم المعاصر للعلم. والقاتل فى التراث الفلكى هو مبحث التنجيم - وقد كان ضمن المباحث الرئيسية لعلم الفلك القديم - فلا هو يؤدى إلى معرفة عامة، ولاهو مؤدٍ إلى معارف متخصِّصة .. وإنما هو تحليقٌ فى متاهات الخرافة، وقراءةٌ للطالع على أُسس غيبية.

    .. وهذه النظرة لأقسام التراث، لاتتسم بالطابع السكونى (الاستاتيكى) وإنما هى نظرةٌ حركية دينامية ، تعاود النظر إلى التراث فى ضوء مقتضيات الواقع وشروط صياغة النظرة المستقبلية .. وقد تستجدُّ فى وعينا وواقعنا أمورٌ تجعلنا نعدِّل من توزيع الأقسام ، فربما طرأ على الواقع عنصرٌ جديد، يجعل البحث فى جانبٍ معين من التراث - نكون قد اعتبرناه تراثاً خاملاً- ضرورةً ملحة وشرطاً لإحكام النظرة الواقعية والمستقبلية .. ولنضرب مثلاً :

    الخوارج ، هذا مبحثٌ قد يكون قبل بضعة عقود من زماننا العربى الإسلامى، بمثابة تراث خامل لايلزم غير الباحث المتخصص .. لكنه قد تستجد على الساحة العربية / الإسلامية أمورٌ تجعلنا ملزمين - كعقل جمعى- ببحث هذا الجانب من التراث، لفهم طبيعة الحركات الدينية فى بعض أقطار الوطن العربى، والوعى بمذاهب معتدلة من الشيعة والخوارج، وبمذاهب أخرى غالية متطرفة فى مذهبها .. وهكذا يصير هذا اللون من التراث تراثاً فاعلاً بعدما كان يعد من قبل خاملاً ، لأن درسه صار يضيف وعياً لازماً لفهم الواقع واستشراف المستقبل.

    واقـع العملية التراثية فى الوطـن العـربـى

    بدأ الاهتمام بالتراث يتَّخذ موقعاً فى ثقافتنا المعاصرة مع نشاط مطبعة بولاق الرائدة بمصر، حيث توالى صدور أمهات الكتب التراثية عن هذه المطبعة، وسرعان ماقامت دول عربية أخرى بدورها، لتتزايد حصيلة الكتب المطبوعة من فنون التراث العربى. قبل ذلك كان التراث متصلاً من خلال جهود الاجيال المتعاقبة من علماء الأمة، لكن توالى صدور الكتب التراثية جعل الواقع الثقافى العام منتبهاً لأهمية هذا الجانب من المعرفة.

    وعلى مستوى الدرس التراثى، فقد نشطت حركة البحث فى فنون التراث منذ أواخر القرن الماضى، وقد انتهت هذه الحركة البحثية إلى معاقل للبحث التراثى فى الجامعات والمعاهد العلمية منذ بضعة عقود .. وقد تزامنت عملية الاهتمام بنشر التراث وبحثه فى الوطن العربى، مع عملية فتور النشر والبحث التراثى فى أوروبا بعد أن أخذ الضعف يدبُّ فى حركة الاستشراق (التى كانت تخدم حركة الاستعمار ) وهكذا صار الأمر منوطاً بمَنْ هم أولى به.

    واليوم ، تزايدت الحركة التراثية بشكل لافت - وإن كان غير رشيد - وتنافست دور النشر فى إخراج كتب التراث، بجانب معاهد علمية عاملة فى هذا الميدان كمعهد المخطوطات العريبة، ومعهد حلب لتاريخ العلوم العربية، ومجموعة من المراكز المتخصِّصة فى الجامعات.

 ومع ذلك ، فتراثنا لم يزل مجهولاً ! فهو مجهولٌ بحكم الواقع الإحصائى، وذلك لأن إحصاء ما نُشر من التراث - محقَّقاً أو بدون تحقيق- ومقارنته بما لم يزل مخطوطاً، وبما ضاع مع الزمان؛ يدل على أن نسبة المنشور المعلوم من التراث لايزيد على خمسة بالمائة من مجموع التراث، أو هو أقل من ذلك .. وعلى ذلك ، فالجانب الأعظم من تراثنا مجهول، لأنه رهين النسخ الخطية الحبيسة فى خزائن المخطوطات ببلدان الشرق والغرب .

وتراثنا مجهولٌ لأن معظم المكتبات الخطية الحاوية على المخطوطات، لاتزال فهارس وصفية تحليلية دقيقة .. صحيحٌ أن هناك بعض الفهارس الجيدة التى تظهر لهذه المكتبة أو تلك ، لكن الغالبية العظمى من الخزانات الخطية لم تزل غير مفهرسة ؛ ناهيك عن افتقادنا للفهرس الموحد للمكتبات التى تمت فهرستها بالفعل ..

وتراثنا مجهولٌ بحكم منطق الإلغاء والتغييب، وهو المنطق الذى ساد حتى أباد النظرة الموضوعية للتراث، تحت تأثير التوظيفِ الوقتىِّ لجانبٍ من التراث - خدمةً لأغراض الدول والجماعات والأفراد - وإهدار الجانب المقابل له، علماً بأن التراث رحبٌ متنوع، ولابد من معرفة (الخريطة التراثية) لتحديد موقفنا النقدى للتعامل مع المخزون التراثى، فى ضوء ما ذكرناه عن الأشكال الثلاثة للتراث ، ودون المسارعة إلى توظيفه فى خدمة أغراض آنية، لاتلبث أن تتغير مخلفة ورائها كَمّاً من التشوُّه المعرفى والرؤية الناقصة والمتناقضة للتراث .. ومثال ذلك ، أن بلداً يدخل فى تجربة (اشتراكية) حيناً من الزمان، فيخاصم التراث الروحى والصوفى وتتكئ العملية التراثية على قراءة متعسفة للتراث لاستخراج (النزوع اليسارى فى التاريخ) أو (اليسار فى الإسلام) أو (الإشتراكية والثورة فى التاريخ الإسلامى) .. ومع هذا الانتقاء المؤقت ، تغيب الرؤية الموضوعية . وسرعان ما تتغير الظروف الدافعة إلى هذا الانتقاء المؤقت، ويتم انتقاء آخر "مؤقت أيضاً " خدمةً لأغراضٍ آنية ! فتكون الحصيلة النهائية لهذا العمل التراثى - غير المخطَّط- هى غيابُ الرؤية التراثية العامة، وصعوبة اتخاذ الموقف النقدى الصحيح من التراث.

    وتراثنا مجهولٌ بحكم الإغتراب الثقافى عنه، وذلك لأن التراث العربى/ الإسلامى ظل ممتداً فى الزمان والمكان، امتداداً طبيعياً مرَّ بمنحنيات كثيرة وارتفع وانخفض فى معدلات التحضر، لكنه لم ينقطع .. حتى جاءت الحملة الفرنسية ، ومن بعدها الاستعمار ، ومن بعده وسائل الاتصال المعاصرة والهيمنة الإعلامية ، فيلوى ذلك كله أعناق الأجيال الحديثة -بقوة- بعيداً عن تراثها المتصل، وليوجِّهها بقوة نحو سياق الحضارة الغربية وثقافتها ، فيتضاءل الوعى العربى بالتراث، ويصير مجهولاً لدى معاصرينا، بل هو عند بعضهم: مذمومٌ مكروهٌ مرتبط بالتخلف الحضارى .

 من هنا نقول بضرورة ترشيد العملية التراثية أعنى مجموعة الخطوات المتتالية المتراكبة (الفهرسة - التحقيق والنشر - الفهم ) بدعم الأعمال الجادة فى تلك المجالات ، سعياً لإنجاز التثقيف .. ثم المثاقفة .

التثقيف و المثاقفة

المقصود بالتثقيف التراثى هنا ، هو وعينا (نحن) بطبيعة التشكُّلات المعرفية، والتحولات الكبرى فى تاريخنا الثقافى .. أما المثاقفة ، فهى طرح رؤيتنا - التى هى امتدادٌ وتطوير للمخزون التراثى فينا - على (الآخر) أو بالأحرى: العالم.

وما من شك - عندى - فى أننا لم ننجز ، بعد ، الخطوة الأولى ! وإن كنا قاب قوسين من إنجازه .. فقد نشطت فى السنوات الأخيرة، فقط، عملية فهرسة المخطوطات . وإذا تمت هذه الخطوة التأسيسية بنجاح ، يمكن آنذاك التعرف على الخارطة التراثية والانتقال إلى الخطوة التالية التى تعقب التعرف على النص التراثى. أعنى عمليات التحقيق والدراسة والفهم .. وهى جميعاً (عمليات النص) حيث الشاغل الرئيسى فيها هو النص التراثى .. فإذا اكتمل الأمر، صار من الطبيعى -آنذاك- الانتقال بالتراث من النص إلى الخطاب.. من الوعى إلى المشاركة .. من التثقيف إلى المثاقفة .

    والشرط فى ذلك ، ألا نقع فيما يزخر به واقعنا المعاصر من أشكال الخطاب التراثى الشوهاء ، فهى كمولود غير مكتمل التكوين.. إذ انطلق الخطاب المبتسر هذا، أو ذاك ، قبل النضج اللازم للعملية التراثية التأسيسية، والْتَحَفَ بشعاراتٍ مُنتقاة - بحسب الهوى - من المخزون التراثى، دون وعى بالمتناقضات العميقة الكامنة فيما تمَّ انتقاؤه. فالعلمانيون يلتقطون (ابن رشد) فيجعلوا منه عنواناً للعقلانية؛ ثم يلتقط الفريق المضاد لهم (ابن تيميه) ويخرجونه من سياقه التاريخى، ليجعلوا منه شاهداً -وموجِّهاً- للعصر الذى نعيش فيه ! وتظل الهوة تتسع بين هذه الأشكال الشوهاء من الخطاب التراثى المعاصر، أعنى تلك الأشكال التى لم تتأسَّس على وعى جيد بالنص التراثى فى شموله وتناقضاته وعلاقاته العضوية، بحيث تستكشف (السلفية) فى ابن رشد ، والتقدمية عند ابن تيميه، فتكف عن اعتقال النص التراثى -المُنتقى- فى إطار محدِّد ، بُغية إنتاج خطاب نفعى خاص .

القضية إذن، أنه من الضرورى - أولاً- الوعى بالنص التراثى، وتلك ناحية (التثقيف) التى تلزم (الذات) .. أعنى تلزمنا ، نحن ، فيما يخصُّنا . ومن بعد ذلك يكون الانتقال إلى الناحية الأخرى، وهى (المثاقفة) مع (الآخر) بعد تأسيس خطابٍ تراثىٍّ على قاعدة الوعى بالمنظومة التراثية فى تجلياتها المتعدِّدة والمتوالية .. والتعرُّف - فى الوقت ذاته - على إيقاع العولمة ومتابعة تجلياتها بشكل دائم ومستمر .

في معنى التراث

مستويات المفهوم(10)

إذا تأملنا طبيعة معرفتنا بالتراث العربي الإسلامي، فسنرى أن جل معلوماتنا عنه، ناقصة في أكثر من مجال، فعلى الصعيد التاريخي مثلا لا نستطيع التوغل في عمر هذا التراث أكثر من مئة وخمسين سنة قبل ظهور الإسلام فنحن لا نعرف أي شيء عن كيفية تطور اللغة العربية ولا عن الأشواط التي قطعتها خلال عهود ضاربة القدم فيما يسميه المؤرخون بـ: "العصر الجاهلي" …

منذ بدء ما يسميه المؤرخون في العالم العربي بـ: "عصر النهضة الحديثة" والتراث يحتل مركز الجدل والنقاش الثقافي في ساحة الفكر العربي، ودون التطرق إلى طبيعة الأسباب التي كانت تقف وراء هذا الاهتمام المتزايد بمسألة التراث، فإن السؤال الذي يطرحه كل واحد منا على نفسه، هو: لماذا لم يتمكن المثقفون والمفكرون وجميع القوى الفاعلة في الوطن العربي من تحقيق إجماع حول مفهوم التراث خاصة وأن الأمر يتعلق بمصدر الهوية القومية ومنبع الانتماء الديني والحضاري؟

ذلك أن هذا النقاش قد اتخذ في غالبية الأحيان مسارات مختلفة إذا لم نقل متناقضة تعدت حدود معنى التراث إلى التشكيك في جدواه وفعاليته في إخراج المجتمع من الأزمة، بالإضافة إلى التساؤل الذي يستهدف جوهر الهوية التي يمثلها التراث وعلاقتها بالحداثة والعصر.

إن نظرة سريعة على ما كتبه المفكرون والمثقفون والسياسيون خلال هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ العربي حول هذه الإشكالية تكشف عن عمق الأزمة الطاحنة التي تتخبط فيها المجتمعات العربية: أفرادا وجماعات، حكاما ومحكومين، مثقفين وأميين، فأبسط نقط الاتفاق معدومة وتمسك جميع الأطراف بالمواقف الحزبية والطروحات الإيديولوجية والمعتقدات الإثنية والنظريات والمناهج الفلسفية الغربية، بلغ حد الاستلاب القاتل، فكيف السبيل إلى الخروج من هذه الدرامة؟

إن أيسر خطوة في نظرنا للخروج من حالة الحصار الثقافي التي نعاينها تكمن في إيجاد تعريف علمي للتراث يستوعب جميع الأطراف والقوى الفاعلة من مثقفين وسياسيين وأحزاب وجمعيات، وذلك بأن نستبعد سلفا كل ما من شأنه أن يثير حساسية أو رد فعل أي جهة كيف ما كان توجهها، حتى نفلت من فخ الإيديولوجيا ولا نعرض أنفسنا للتصنيف والتنابز بالألقاب، فبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان.

التراث هو كل ما وصل الأمم المعاصرة من الماضي البعيد أو القريب سواء تعلق الأمر بماضيها هي أو بماضي غيرها من الشعوب أو بماضي الإنسانية جمعاء. فهو أولا: مسألة موروث، وهو ثانيا: مسألة معطى واقع يصنف إلى ثلاثة مستويات.

1-مستوى مادي يتمثل في المخطوطات والوثائق والمطبوعات والآثار والقصور والمعابد والأضرحة..إلخ.

2-مستوى نظري يتحدد في مجموعة من التصورات والرؤى والتفاسير والآراء التي يكونها كل جيل لنفسه عن التراث انطلاقا من معطيات اجتماعية وسياسية وعلمية وثقافية تفرزها مقتضيات المرحلة التاريخية التي يجتازها أبناء ذلك الجيل.

3-مستوى سيكولوجي والمقصود به هو تلك الطاقة الروحية الشبيهة بالسحر التي يولدها التراث في المنتمين إليه حيث يجري احتكاره من قبل نخبة أو جماعة أو فئة من المنتفعين والمتسلطين قصد استغلاله في ميدان التوجيه السياسي والتعبئة الإيديولوجية نظرا لما يزخر به التراث من مفاهيم وتصورات وأفكار وعقائد وأساطير وعادات وتقاليد وفلكلور ومثل ومبادئ وقيم تملك سلطة قوية على مخاييل الأفراد والجماعات التي تعجز عن مقاومة تأثيره عليها.

يطرح كل مستوى من المستويات السابقة مشكلة يكمن التعبير عنها كما يلي:

أ-المستوى الأول يطرح مشكلة تقنية بحتة تتمثل في طريقة تحقيق المخطوطات والوثائق وكذلك في كيفية الحصول عليها ليتم نشرها وتوزيعها على الدارسين بالإضافة إلى المشاكل المتعلقة بترميم القصور وإجراء الحفريات والأبحاث عن الآثار المطمورة في باطن الأرض.

ب-المستوى الثاني يطرح مشكلة معرفية تتمثل في كثرة وتضارب التأويلات التي أعطيت للتراث خلال عصور ومراحل تاريخية متتالية. فهل تتعامل معها كما هو جار الآن بوصفها جزءا من التراث، أم نتعامل معها بوصفها مجرد اجتهاد وتأويل بشري للتراث؟

ج-المستوى الثالث يطرح مشكلة الاستغلال الإيديولوجي لهذا الرأسمال الرمزي أي التراث من قبل التيارات الإيديولوجية والقوى السياسية والاجتماعية المتصارعة وتوظيفه من أجل الوصول إلى مواقع السلطة والنفوذ داخل المجتمع والدولة.

لتبدأ بالمستوى الأول ولنتساءل: ما هي المشاكل التقنية التي تعترضنا في مجال علاقتنا بالتراث العربي الإسلامي مثلا؟

إذا تأملنا طبيعة معرفتنا بالتراث العربي الإسلامي، فسنرى أن جل معلوماتنا عنه، ناقصة في أكثر من مجال، فعلى الصعيد التاريخي مثلا لا نستطيع التوغل في عمر هذا التراث أكثر من مئة وخمسين سنة قبل ظهور الإسلام فنحن لا نعرف أي شيء عن كيفية تطور اللغة العربية ولا عن الأشواط التي قطعتها خلال عهود ضاربة القدم فيما يسميه المؤرخون بـ: "العصر الجاهلي" ذلك أن النصوص المتوفرة لدينا والتي يشك البعض في صحة نسبتها إلى هذا العصر لا تعكس إلا الجانب الستاتيكي أي المستوى جامد الذي وقف عنده تطور هذه اللغة. أما النصوص التي تبين الجانب المتحرك من عمر اللغة العربية خلال مراحل تطورها في الزمان والمكان، فهي شبيهة بـ:"الحلقة المفقودة" في تاريخ تطور الإنسان، الشيء الذي جعل الدراسات التي أنجزها الباحثون والمختصون في مجال التأريخ لهذا التراث مجرد دراسات يغلب عليها طابع التعميم والتخمين والافتراض في ظل غياب المعطيات الأولية والحقائق الموضوعية ليس إلا. أما إذا انتقلنا قدما على صعيد العصر الإسلامي وما يليه فسنصطدم بمشاكل أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، فمثلا نحن لا نزال حتى الآن في حيرة بخصوص الطريقة التي تم بها تقعيد اللغة العربية لأن مختلف الروايات التاريخية التي تتحدث عن اكتشاف النحو ووضع علامات لتمييز الكلمات المتشابهة في الرسم وتسهيل قراءتها متضاربة، وكذلك الأمر عندما نتساءل من القراءات السبع للقرآن، ما هو مصدرها؟ هل هو الوحي، أم الاختلاف الحاصل بين لهجات القبائل العربية في العصر الجاهلي؟ وهل الاختلاف في هذه القراءات مرده إلى الاختلاف في النطق وطريقة تخريج الأصوات، أم مرده إلى تعدد الأسماء التي قد تطلق على المسمى الواحد؟ إذ تسميه قبيلة معينة باسم وتسميه قبيلة ثانية باسم يختلف عن الاسم الأول وتسميه قبيلة ثالثة باسم جديد يختلف عن الاسمين السابقين، وهكذا دواليك حيث تتعدد الأسماء والمعنى واحد. ثم بعد ذلك ما هي حقيقة الصراع الذي نشب ببين المسلمين في عهد الخليفة الراشدي عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حول هذه القراءات، فدفعه إلى إلغاء جميع المصاحف المعروفة في ذلك العصر، وجمع شمل كلمة المسلمين على مصحف واحد، هو المصحف المتداول بيننا اليوم؟

إننا إذ نطرح هذه الأسئلة لا نهدف في الواقع إلى التشكيك في تراثنا، وإنما نريد فقط التنبيه إلى الثغرات الكثيرة التي يصعب حصرها، والتي هي جزء لا يتجزأ من وعينا الراهن بالتراث، الذي تشكل كما سبق وقلنا، في ظل غياب المعطيات الأولية والحقائق الموضوعية التي بدونها لا يمكن أن يحصل للمجتمعات العربية وعي علمي بتراثها.

لنجمل القول إذن عن هذه المعطيات والحقائق في بضعة نقط وذلك قبل أن تنتقل إلى الحديث عن المستوى الثاني الذي يوجد فيه التراث.

1-معطيات تتعلق بوثائق ومصادر لم تصلنا مثل مؤلفات المعتزلة أو مؤلفات غيرهم من الفلاسفة والعلماء في مختلف العصور الإسلامية.

2-معطيات تتعلق بوثائق ومصادر يثور بشأنها خلاف حاد بين المؤرخين والباحثين، إما لكونها مجهولة الأصل ككتاب ألف ليلة وليلة الذي نجهل إلى حد الآن أصله هل هو كتاب عربي أم مترجم إلى العربية؟ كما نجهل شخصية مؤلفه والعصر الذي ألف فيه. وكذلك كتاب الإمامة والسياسة أو تاريخ الخلفاء الذي يشك بعض الباحثين في نسبته إلى ابن قتيبة والدافع الحقيقي من وراء تأليفه.

3-حقائق تتعلق بأحداث وشخصيات تنتمي إلى العصر الجاهلي كالأحداث التي تعرف لدى المؤرخين لـ"أيام العرب" ما هي دوافعها؟ وما مدى مطابقة ما يرويه هؤلاء المؤرخين بشأنها للواقع التاريخي؟ أو إلى العصر الإسلامي، كأحداث الصراع والفتن التي نشبت بين المسلمين خلال صدر الإسلام والعصرين الأموي والعباسي، وكذلك حقيقة ما يروى عن بعض الأشخاص مثل كعب الأحبار هذا اليهودي الذي نجهل تاريخ إسلامه وحقيقة العلاقة التي كانت تربطه بالخليفة الراشدي عمر بن الخطاب وصحة ما تدعيه بعض المصادر من أنه كان على علم بمقتل الخليفة عمر وأنه أخبره بذلك. وأيضا فيما يتعلق بشخصية عبد الله بن سبأ الذي يشك بعض الدارسين في حقيقة وجوده، في حين تتحدث بعض المصادر عن ضلوعه في أحداث الفتن التي ميزت أواخر فترة خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-

4-حقائق تتعلق بالموروث الثقافي السابق على الإسلام، ما هو؟ وإلى أية حضارة ينتمي؟ هل ينتمي إلى الفلسفة اليونانية، أم إلى تراث الحضارات الشرقية القديمة، كالحضارة البابلية والحضارة الفرعونية والحضارة الهندية وغيرها.. من حضارات الشرق القديم؟ وما هو الدور الذي لعبته المراكز الثقافية والعلمية القديمة التي كانت سائدة آنذاك في البلاد العربية مثل مدرسة أنطاكية وحران ونصيبين والإسكندرية في حفظ هذا التراث؟ وكيف انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية، وفي أي عصر كان ذلك؟ ثم ما هي التيارات الفلسفية والفرق الدينية الكلامية التي عرفت في التاريخ الإسلامي بتبنيها لذلك الموروث ولماذا؟ أخيرا وليس آخرا، كيف يجب أن ننظر إلى هذا الموروث الثقافي ونتعامل معه؟ هل ننظر إليه، كما ارتأى البعض بوصفه عنصرا غريبا عن فضاء الثقافة العربية الإسلامية، فندعو إلى إقصائه و"تطهير" الفكر الإسلامي منه، أم نعتبره جزءا من الذاكرة الثقافية العربية بكل ما تزخر به من تنوع ثقافي وثراء فكري، فندعو إلى إدماجه في تاريخنا الثقافي، بدل أن نظل مستلبين في مفاهيم نرجسية عن الروح البدوية والأصالة الثقافية وغيرها من المفاهيم "العنصرية" المضللة؟

5-حقائق تتعلق بشخصية خالد بن يزيد، هذا الأمير الأموي الذي فقد حقه في الخلافة، بسبب ما دار حوله من تضارب في أقوال الباحثين والمؤرخين: هل هو شخصية حقيقية، أم هو شخصية أسطورية من نسج الخيال؟ وكيف أنه فكر في نقل تراث العلوم القديمة كعلم الكيمياء والتنجيم والطب من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي في ظل ظروف حالكة كانت تجتازها الخلافة الأموية في ذلك الزمن، أقل ما يقال عنها، أنها لحظة امتحان عسير جزاء اعتزال أخاه معاوية الثاني منصب الخلافة، وظهور حركات التمرد على الأمويين أخطرها ثورة عبد الله بن الزبير في مكة؟ ثم ما هي هذه الكتب التي يقال أن خالد كلف بعض الرهبان بترجمتها؟ وما هو حجم التأثير الذي خلفته في الفكر العربي الإسلامي؟ وكيف يمكن إثبات أن اللغة العربية كانت في العصر الأموي قادرة على استيعاب هذه العلوم الجديدة، بالرغم من أن ظروف المجتمع العربي في هذا العصر لم تنضج بالكيفية المطلوبة التي تحتم على الخلافة السير في هذا الاتجاه؟

6-حقائق تختفي خلف ستار اللبس الذي يكتنف بعض القضايا المتعلقة بتاريخ الفلسفة في الإسلام منها: ما طبيعة العلاقة التي تربط الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية، وكيف يجب النظر إليها، وفي ظل أية دوافع؟

هل كانت تعبر عن مجرد ميل ذاتي لدى فلاسفة الإسلام، أن أنها على العكس من ذلك، ترجع إلى وضعية أعمق، تتعلق برغبة القوى الاجتماعية الصاعدة في العصر العباسي وحاجتها إلى العلم والمنطق؟ ثم ما حقيقة كتاب "أثولوجيا" (الربوبية) المنسوب خطأ إلى ارسطو، وما دوره في ذلك؟ هل أضل فلاسفة الإسلام في المشرق العربي عن أرسطو الحقيقي كما يقول المستشرقون، أم أن حاجة هؤلاء إلى أرسطو كانت تتمثل في شيء آخر، لا تلف كثيرا عن الحالة السياسية، بل ربما كانت أسوأ منها، فعلاوة على نزعة التقليد والجمود التي طبعت علوم الدين، كعلم الكلام والفقه والمتمثلة أساسا في هيمنة الطابع التعليمي المحافظ الذي يقتصر على تلقين وترديد المتون والحواشي المستهلكة لعدد من الطلاب دون فهم أو مناقشة أو استيعاب، فإن هذا العصر قد شهد أيضا سيطرة واضحة لتيار التصوف الذي لعب دورا إيديولوجيا خطيرا في نشر الوعي الزائف، المتمثل في تبرير الفساد وتكريس الاستسلام للوضع القائم جراء ما أذاعته مؤلفات المتصوفة بين الناس من معتقدات جبرية ونظريات في الكرامة والمعجزات والخوارق والتبرك بـ …

التراث الشعبي أو ( الفلكلور ) أو المأثورات الشعبية(11)

وينقسم التراث الشعبي إلى أربعة أقسام (1)

= أولا : المعتقدات والمعارف الشعبية .

= ثانيا : العادات والتقاليد الشعبية .

= ثالثا : الأدب الشعبي , وفنون المحاكاة .

= رابعا : الفنون الشعبية , والثقافة المادية.

فمن المعتقدات ما يعتقده شعب معين من طقوس دينية أو عوامل طبيعية , أو ظواهر لا منظورة .. كالتي تتعلق بالجن .. أو ( الغيبيات ) .

أما المعارف فهي ما أتقنه ذلك الشعب من حرف وصناعات تقليدية ميزتهم عن غيرهم , أو أن لهم  طريقة خاصة بهم .

أما العادات والتقاليد – فهي ما يتعلق منها  بالاحتفالات والمناسبات . والأسلوب السائد في مجتمع ما , كعادات الزواج والختان .. والأعياد , وطرق الاستقبال الضيوف أو توديعهم .

أما عن الأدب الشعبي – فهو ما يخص ( الشعر ) , أو النثر بكل ما يحوي من ( قصص ) و( أساطير ) أو ( أمثال ) و( أحاجى ) ... الخ .

والفنون الشعبية هي تلك الفنون التي نطلق عليها ( العرضات ) أو الرقص الشعبي , بكل أنماطه وخصائصه .. وأيضا ما توارثه المجتمع من أنماط غنائية أو شبه غنائية كالأناشيد .. والمواويل .. او الحداء ... الخ .

كما تقع من ضمنها الألعاب الترفيهية ,  ( كطاق طاقية ) المشهورة في كافة البلاد العربية .

والثقافة المادية – هي الآثار والأدوات الشعبية المستخدمة في ذلك المجتمع .. سواء أكانت لباسا أو أدوات منزلية أو زراعية أو خلافها .

وقد أهتم بالفلكلور في هذا الزمن اهتماما ملحوظا سواء من ناحية الدارسين أو من ناحية بعض الجهات ذات الاختصاص في العالم .. التي أخذت على عاتقها مهمة دراسة الفلكلور وتوثيقه .. لما لذلك من أهمية كبيرة في دراسة خصائص المجتمعات والبحث في عوامل تطور الأمم بالعودة لتراثهم لتفحص خصائصه واستجلاء أسراره وغموضه .

ومما لاشك فيه – إن أي أمة يُحكم عليها من خلال تراثها حيث يصوغ سلوكهم و علاقاتهم .. فالأمة غزيرة التراث يدل ذلك على عظمها وسموها  ... كما أن التراث بمفهومه العام لم يكن نتاج زمن قصير أو عدد قليل من الناس .. وإنما بتكاتف عدد كبير منهم .. فالأعمال الفلكلورية الخالدة جاءت نتيجة تراكم معرفي طويل  ونقل متواتر من جيل إلى جيل .

كما أن كل جيل - أو بالأحرى كل راوي - قد يقوم بالتعديل والتبديل دون قصد طبعا .. لذا فلا غرابة أن وجدنا أسطورة ما تتشابه مع أخرى في أمة أو شعب آخر ,, فقد يكون أصلها واحد غير أن التحريف قد غير صياغتها وبنيتها مما جعلها غامضة لا يعرف أحد ما هو مصدرها ولأي أمة تنتمي بالأساس.

أما كيف جاء التراث الشعبي .. وعن الحاجة المجتمعية التي أتت به – فإن ذلك قد جاء تلبية لحاجة المجتمع لحفظ عاداته وتقاليده وغرسها في نفوس الأجيال القادمة إما لانعدام سبل التعليم المنتظم .. أو لحرص المجتمع على نقل معارفه وغرس القيم الفاضلة في نفوس أجياله الجديدة .

لذا فإن الأسطورة أو الملهاة أو القصة , أو الأمثال الشعبية والأحاجي هي في الأساس نوع من التعليم غير المباشر للأطفال في أطوار نموهم الأولى .. وهي في الأساس تتميز بسمات وخصائص معينة منها البساطة والمتعة التي تسعد الصغار ويستمتع بها الكبار ً... كما يلاحظ إن في معظم الأساطير ميل كبير إلى إدخال العنصر الأنثوي فيها بشكل بارز ... وأيضا لمس للمناطق الغريزية والجنسية في الإنسان .

حيث نجد معظم الأساطير تدور حول الجنس .. ثم إلى الغنى والجمال والسلطة والفروسية ... الخ . ولعل ذلك يرجع إلى ميل الإنسان الفطري إلى حب الكمال .. والتحليق في عالم الخيالات والأماني .. كنوع من الفكاك من الواقع .

هذا تعريف مختصر جدا عن التراث الشعبي بصفة عامة .. وبلا شك سيجد القارئ الكريم في هذا الموقع في القريب العاجل الكثير من عناصره .

وهو ما أخذ به الدكتور / محمد الجوهري .

التراث مرتبطاً بمفهوم الهوية(12)

مواضيع كتاب «أزمة الابداع في ثقافتنا المعاصرة» للباحث سعيد توفيق (المؤسسة الجامعية، بيروت، 2006)، تنصب على تأويل التراث، وعلى مدى تحقق هذه العلاقة في واقع ثقافتنا الراهنة. هذه القراءات هي استكمال لموضوعين آخرين كان تناولهما الباحث توفيق: «معنى التراث وسؤال الهوية» و «إشكالية التراث والتحديث» ليصل الى سؤاله الكبير: لماذا لا نبدع؟ وكيف نبدع؟

التراث كما يراه الباحث يرتبط بعلاقة وثيقة بمفهوم «الهوية»، ويرى ان «تأويل التراث» يرتبط بعلاقة وثيقة بمفهوم «الإبداع». أي ان التراث يرتبط بالماضي في هدف الابقاء على الهوية، وهذه الهوية تكمن قيمتها في ما يبدعه الانسان. لكن السؤال الذي يُكشف لنا هو: هل الإبداع في حالة من السكون في واقعنا الثقافي؟

من حيث المبدأ تتسم مجتمعاتنا العربية والاسلامية بغياب الإبداع فيها على المستويات العملية والفكرية والفنية، وان كان يحدث الغياب بدرجات متفاوتة، الا انه يظل غياباً لا حضوراً، من حيث انه يظل مجموعة ظواهر فردية لا ظواهر عامة او جمعية.

صحيح ان تأويل التراث ليس هو الشرط الوحيد للإبداع، الا ان التراث ايضاً ليس هو الموضوع الوحيد للتأويل. فالتأويل بحسب هانس جورج غادامر يتسع ليشمل تفسير كل شيء يكون قابلاً للفهم والتعقل، وهو يتجه الى المقاصد والمعاني بغية التعرف على معنى شيء ما وتفهمه على نحو يزيل غموضه، ومن ثم يزيل الاغتراب عنه.

غير ان عملية تأويل التراث ليست عملية اعتباطية، كما انها لا ينبغي ان تبقى رهينة طرائف التأويل التقليدية، بل يجب ان تسترشد بالضوابط والشروط الاخلاقية للتأويل التي تخدم توجهاته الواسعة التي يمكن تعدادها بالنقاط الآتية:

أولاً: التأويل هو تفسير يسعى الى بلوغ المقاصد والمعاني من وراء ما يقال او ما يخاطبنا من اجل تفهمه.

ثانياً: لا يوجد تفسير واحد ونهائي يمكن ان يدعي لنفسه بلوغ الحقيقة، أي ان الحقيقة هنا نسبية.

ثالثاً: لأن التراث هو انتاج انساني مرتبط بحركة تطور الوعي التاريخي، فهو لا يمكن اعتباره مقدساً، لذلك يجب ان نفهم التراث من منظور اللحظة التاريخية التي نحياها.

رابعاً: اذا كان التأويل يقتضي تجاوز التراث، فإن تجاوز التراث لا يعني الغاءه او اسقاطه في احداث قطيعة معرفية معه، وانما زعزعة حضوره الراسخ والجامد فينا.

لا شك في ان الناظر في تراث الفكر الفلسفي الاسلامي يدرك على الفور ان هذا الفكر ازدهر حينما كان هناك تقبل لفكر الآخر عبر عن نفسه في ازدهار حركة ترجمة قوية في القرنين الثالث والرابع الهجريين. وأدى هذا الى استيعاب او تمثل الفكر اليوناني، ثم نقده والاضافة اليه، الامر الذي يشير الى ان الفكر الاسلامي كان مهيأ من داخله لتقبل روح التفلسف، ومن ثم التأويل. ولعل فكر المعتزلة هو الصورة المبكرة لعملية التأويل التي انبثقت من داخل الفكر الاسلامي على مستوى علم الكلام. اما ابن رشد فهو غاية ما وصل اليه هذا الفكر على مستوى التفلسف المحض. لكن اضطهاد ابن رشد وحرق كتبه في آخر القرن الثاني عشر اعتبر علامة فارقة على نهاية الإبداع الفلسفي.

ربما يقال إن الصورة الراهنة لوضع الفلسفة في العالمين العربي والاسلامي ليست من القتامة كما يشار اليها، ولكنها ايضاً ليست في أحسن أحوالها. فعلى مستوى الفلسفة هي منبوذة في كثير من الجامعات في العالم العربي، لذلك لا يمكن ان يكون للفلسفة حضور في ثقافة المجتمع ما دامت غائبة اصلاً عن بيتها، أي الجامعات التي من المفترض ان تحوي مراكز لإبداع الفكر الفلسفي.

ان إشكالية الإبداع الفلسفي ليست منفصلة عن إشكالية الإبداع العلمي، بل الاشكالية تكمن في إساءة فهم التراث، أي اساءة فهم الشروط التي انتجت ابداعاته، والشروط التي أدت الى انحطاط الإبداع فيه عبر فرض قيود على حرية الفهم والتأويل.

إشكالية التراث والحداثة(13)

 عقبة معرفيّة رئيسة في الفكر العربي

لم يكن لإشكالية التراث _الحداثة أن ترسم المشهد الثقافي في الكتابة العربية الراهنة لو لم تكن في الأصل تطبع الفكر العربي بطابعها المنهجي الخاص. لا يقتصر نظام المواقف والعادات الذهنية على نموذج واحد من نماذج الكتابة العربية؛ ففي تنوع الأفكار واختلاف صورها وأشكالها، تعمل الإشكالية وتوجّه الأبحاث والدراسات في مجمل الميادين كافة. وحتى الوقت الحاضر، لم يتمّ وعي إشكالية التراث _الحداثة بوصفها عقبة معرفيّة رئيسة في الفكر العربي، ولا يوجد بحث واحد أو دراسة واحدة أو مقالة واحدة أو كتاب واحد بالعربية يتفلّت من هذه الإشكالية ويتحرّر منها ويبتعد عنها ويكشف النقاب عن حقيقتها ويلقي الأضواء العلمية عليها. ما هو موجود في الكتابة العربية بالفعل، دعوات قليلة جداً ونادرة إلى تجنب الانزلاق نحو هذه الثنائية أو تلك؛ فقد يقف أحد الباحثين أو الدارسين أو المفكرين العرب موقفاً نقدياً من ثنائية الشورى _الديموقراطية على سبيل المثال، أو من ثنائية العلمانية _ الدين، أو من ثنائية التاريخي _ اللا تاريخي... إلخ، ولكن هذا الموقف النقدي لا يحول دون أن يتبنّى الباحث أو الدارس أو المفكر العربي نفسه، وفي موقفه النقدي عينه، القسمة الثنائية بين تراث وحداثة على سبيل المثال، أو بين فكر تاريخي وفكر تقليدي، أو بين مثقف فكر تاريخي وإيديولوجي فكر تقليدي... إلخ؛ ونكتشف في نهاية الأمر أن هذا الباحث أو الدارس أو المفكر وقف موقفاً نقدياً من ثنائية في ذاتها، ولم يقف موقفاً نقدياً من منطق القسمة الثنائية بوصفه عقبة معرفيّة رئيسة في الفكر العربي.

وإذا شئنا أن نضع ترسيمة منهجية موجزة، كان لنا أن نميّز بين ثلاثة أصعدة نظرية: صعيد الآحادية البنيوية، صعيد الخصوصية البنيوية، صعيد التعدد البنيوي، وعلى كل صعيد من هذه الأصعدة، نشهد انزلاقاً منهجياً خاصاً؛ وفي تقاطع الانزلاقات المنهجية، مع أصعدتها النظرية، يقوم وينهض منطق القسمة الثنائية بين تراث وحداثة.

صعيد الآحادية البنيوية

يتكرّر في ثنائية الكتابة العربية منهج تتعدد أشكال العبارة عنه ويضرب جذوره في نمط محدد من المقاربات يكون موضوع البحث منتهياً عنده قبل أن يبدأ بحث الموضوع بالفعل، ذلك أن الباحثين والمفكرين العرب يضمرون ويعلنون نظرة إلى الآحادية البنيوية العربية تجمّدها في صورة جوهر سابق على الوجود، أو في صورة نموذج مجرد يتصف بالغيبية ويرتكز إلى "أمرٍ ما" خفي يشكل المرجع الضمني للآحادية البنيوية المجتمعية؛ ولابدّ من أن يأتي يوم تعود فيه الآحادية البنيوية إلى وحدتها النقية، الصافية، البريئة الحيادية، المنسجمة والمتوحدة.

لا تنفرد هذه النظرة المنهجية، كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، بالتيار الفكري القومي العربي وإنما تتعدّاه إلى تيارات فكرية أخرى تبدو، في الشكل، على النقيض منه، فالمنهج الذي يتملّكه هاجس التأكيد على وحدة الآحادية، والمنهج الذي يتملكه هاجس التأكيد على العقبات التي تنتصب في وجه وحدة الآحادية، والمنهج الذي لا يرى سوى مجتمعات نقيضة للمجتمع العام... كل هذه المناهج تقف على الأرضية المنهجية ذاتها ويجمع مُتفرقها نوعٌ من المعالجات يضرب جذوره في تربة الوحدة البديهية. حتى عندما تتجه الرؤية إلى العقبات التي تنتصب في وجه الآحادية، فإن منطق الفهم يبقى نفسه؛ وهو لا يتجاوز ما يحول دون عودة الآحادية إلى وحدتها البديهية المفترضة.

وفي هذا السياق المنهجي، أن يقال على سبيل المثال إن لبنان بلد عربي وأن تُقَدّم المؤشرات المجتمعية الملموسة التي تثبت هذا القول، أو أن يقال إنّ لبنان ليس بلداً عربياً وأن تُقدّم المؤشرات المجتمعية الملموسة التي تثبت هذا القول، أو أن يُقال إن لبنان بلد متعدد القوميات والحضارات وأن تُقدّم المؤشرات المجتمعية الملموسة التي تثبت هذا القول، كل هذه الأقوال تعود إلى منطق واحد تحكمه النظرة المنهجية التي تعتبر الآحادية البنيوية المجتمعية معطى محدداً في الفكر بشكل مسبق. وأقصى ما يتيحه هذا المنطق من سجال بين التيارات الفكرية، التراشق بالنماذج النظرية وتحوّل هذه النماذج من أدوات عمل معرفية إلى "أشياء" تصبح إدانتها أو تقليدها الأوسمة الهدف الرئيس الواعي أو اللا واعي. ضمن هذا الإطار، يأخذ التراشق بالبداهات النظرية طابع المواجهة التي تفترض، كل مرة تدور فيها، الحسم الفوري، المباشر والآني.

في مقابل هذه النظرة المنهجية، ترتسم معالم نظرة منهجية مختلفة تتخذ من "بناء الآحادية البنيوية المجتمعية" عنواناً رئيساً لها. وهي تفترض انتقال السؤال المنهجي من: هل توجد آحادية بنيوية مجتمعية؟. إلى: كيف تُبنى الآحادية البنيوية المجتمعية؟. ما هي الوجهة في بنائها؟. ما هو المشروع الذي يتصورها بشكل مختلف؟. وما هي طبيعة المشاريع المنتجة لجميع أشكال الوحدة أو التفتت (توحيد، تفتيت، تفتيت تحت عنوان التوحيد، تفتيت وتوحيد...إلخ)؟. وفي إطار هذه الأسئلة فقط يمكن لدراسة الآحادية البنيوية المجتمعية أن تمتلك قاعدة منهجية لا تستنفدها ولا تأخذ فيها أو تنال منها الإجابة عن سؤال غير مطروح لسببين: تعدّد المقاييس التي يمكن الركون إليها لتصنيف الآحاديات البنيوية المجتمعية، من جهة ووجود مقاييس عدة يمكن استخدامها، من جهة أخرى.

في النتيجة، إننا نجد وحدة الآحادية وتخلعها وتفككها وتفتتها في اللحظة النظرية نفسها. أما وضع وجهة النظر المرغوبة في موقع التفتيش الدائم والدؤوب عن مؤشرات تنفي، أو تؤكّد، وحدة الآحادية البنيوية، فلا بدّ من أن يدفع بها إلى الحائط المنهجي المسدود، لوجود نوعي المؤشرات المجتمعية، المؤيّد منها والمخالف.

صعيد الخصوصية البنيوية

يشكل التخلّع والتفكّك والتفتت سمة بنيوية من سمات الآحادية البنيوية المجتمعية الواحدة. وفي هذه الحال، يعني التخلّع تخلّعاً بنيوياً في معنى أنه يدل على طبيعة بنيوية مجتمعية خاصة ومتميّزة، وقنوات بنيوية مجتمعية خاصة ومتميّزة. وتقوم هذه الفكرة المنهجية على وعي التمييز بين الملموس المجتمعي العيني، حيث تتعدّد الروابط وتتشابك العلاقات إلى درجة يصعب حصرها، وبين خط الانتظام البنيوي، حيث تفترض المعالجة تجريداً يتجاوز مجرد ملاحظة الوقائع المجتمعية وتصنيفها وإعلان درجة التكرار والتواتر فيها.

لقد افضت بنا هذه الفكرة المنهجية المهمة إلى التشديد على الفرق بين الهامشية البنيوية الدالة على طبيعة معيّنة لممارسة الدولة سلطتها الفاعلة على كل القطاعات المجتمعية، وبين الهامشية في معنى بقاء الدولة على هامش المجتمع أو على الهامش؛ فقد استحال على الدولة القائمة السيطرة على المجتمع من دون إشراك القسم الأعظم منه في الحكم، وجرى هذا الإشراك تبعاً للنمط الذي نعرفه، أي التحاق مفاتيح المؤسسات المجتمعية بها. وإذا كانت العلاقات المجتمعية هي السدّ الذي ينتصب في وجه الدولة فإنها في الوقت نفسه مرتكز هذه السلطة ومدخلها إلى المجتمع. وبهذا المعنى، ينبغي النظر إلى الدولة في وجهها المتعارض والمتناقض حيث تنهض السلطة على الرأس. ولكن بنية الرأس تتوالد إلى داخل يصمد أمام التفكيك صعوداً عاتياً، وإن أمكن إلحاقه بجهاز سيطرة فوقي أو رأسي أو خارجي.

ما نقوله لا يتعارض على الإطلاق مع أهمية وعي التخلّع البنيوي بين الدولة والمجتمع، أي مع أهمية وعي التمييز بين المنطقين الخاصّين بالدولة والمجتمع؛ وهما منطقان متميّزان، بل متعارضان في كثير من الأحيان؛ وإنما، الأكثر أهمية، ألا يؤدي هذا الوعي إلى اعتبار الدولة جسماً غريباً عن المجتمع، أو اعتبارها شيئاً معطى يعود إلى آحادية بنيوية مجتمعية غير الآحادية البنيوية التي تمارس الدولة فيها سلطتها.

في مقابل وعي التمييز بين الملموس العيني وبين التميّز البنيوي، يتبين لنا الالتباس الذي يعتور الكتابة العربية. ويتجلّى هذا الالتباس في شكلين منهجيين أساسيين على الأقل: فمن جهة، يوازي التخلّع البنيوي ويساوي ظرفاً يقع خارج البنية؛ ومن جهة أخرى، يوازي التخلّع البنيوي، ويساوي آحاديات بنيوية مختلفة ومتباينة. مثلما يجدر بنا أن ننتظر أو نتوقع، ينفرد الشكل المنهجي الأول بالتيار الفكري العربي القومي وحده؛ في حين يختصّ الشكل المنهجي الثاني بالتيارات الفكرية العربية جميعها.

"ينهض النموذج الإسلامي على معطى بديهي يتخذ شكل المعادلة القائلة بأن الشعب المسلم ينبغي أن تحكمه دولة مسلمة. تصاحب تلك المعادلة لازمة بديهية بدورها تعتبر أن الدولة القائمة ليست إسلامية. كيلا تكون الدولة الحالية إسلامية، ينبغي منحها هويّة مغايرة تبتعد عن الإسلام قدر الإمكان. وبما أن الواقع المجتمعي والعربي هو واقع مسلم، فيجدر بهذه الهوية أن تكتسب شرعيتها من واقع مجتمعي آخر. وفي هذا الضوء، تمسي الدولة المحلية "دولة حديثة تقوم على مبادىء الليبرالية الأوروبية وتبني أجهزتها الإيديولوجية والإدارية على النمط الغربي. وهي دولة تمسك بها نخبة بيروقراطية أو تكنوقراطية أو عسكرية". ومن هذا المنظار، يعيش نموذج الكتابة العربية الإسلامي تحت وطأة انقسام حاد وعام بين مجالين متنافرين، هما: المجتمع الأهلي والدولة. وهو يفترض أن الدولة شيء معطى ينتمي إلى مجتمع آخر غير المجتمع المحلي، بدل أن تتمحور القضايا حول ممارسة الدولة سلطتها ومحتوى هذه السلطة وطبيعتها، يرتسم الحاجز المعرفي ويعلو في وجه الفهم. فالدولة القائمة جسم غريب معروفة هويته ومعروف مصدره. وتصل الأمور في نهاية المطاف إلى "انقطاع الدولة وطبقتها الحاكمة التي تملك إعداداً غربياً في ثقافتها وتقاليدها، الأمر الذي يسهل تحديد الخصم، ليس بصفته يملك السلطة ويمارسها، ولكن لأنه يتمسك بثقافة غربية مغايرة ومعادية"... وفي وجه هذا التحديد، لن نقف مطولاً عند مفاهيم "الليبرالية الأوروبية" و "الأجهزة الإيديولوجية على النمط الغربي " و "البيروقراطية" و "التكنوقراطية" فكلّها مفاهيم يدفع تفحصها في العمق إلى خروجها المحتوم من دائرة تحديد الدولة المحلية. وما يستوقفنا بالفعل هو بطاقة الهوية التي خصّصت الدولة بها: "دولة حديثة على النمط الغربي". فما هو المغزى الدقيق لاختيار هذه الهوية؟. ونحن نعلم أن هذا التعبير يشير إلى الدولة الرأسمالية الغربية، فهل دولنا رأسمالية حديثة على النمط الغربي؟ ولماذا المداورة وعدم الإعلان الصريح عن المضمون البنيوي لسمة الحداثة في الدولة؟. لسبب بسيط جداً هو، في رأينا، السبب نفسه الذي حول دون استصدار أية هوية محلية لها: أن تحرّض الهوية المقترحة على دراسة الدولة، مع احتمال أن يكون الإسلام بين مرتكزاتها الأساسية، وأن تكون أقرب إلى الإسلام منها إلى الرأسمالية الغربية؛ ولا يمكن التفلّت من المأزق المنهجي بالتشديد على أن الإسلام الرسمي ليس إسلاماً حقيقياً؛ لأننا في المقابل سوف نسارع إلى طرح السؤال حول المعايير التي يرتكز إليها التمييز بين إسلام حقيقي وإسلام آخر؛ وسوف نكتفي بأي معيار يقدم لنا، فهو يعالج البداهة كلها التي يتصف استخدام الإسلام بها في النموذج المحلي".

وحتى عندما يتم التفريق بين السلطة من وجهة والدولة من جهة أخرى، فإنّ هذا التمييز لا يتحرّر من أسر الألفاظ؛ فهو يقرّر دون أن يستوقفه الأمر "أن فقدان المؤسسات وعلى رأسها فقدان الدولة المؤسسية هو من أبرز سمات الحياة المجتمعية العربية " أو "أننا في الوطن العربي لدينا سلطات أو جماعات تمارس السلطة ولديها الجهاز القمعي والعسكري لكي تمارس هذه السلطة؛ وإنما ممارسة السلطة لا تعني إطلاقاً أن الدولة موجودة". أكثر من ذلك، وعلى قاعدة الخلط المنهجي الأصلي عينه، تتم المواجهة النظرية بين دولة الأشخاص ودولة المؤسسات وكأن دولة الأشخاص لا تملك بنية مؤسسية يمكن التفتيش عنها؛ كما تصبح السلطة السابقة والحالية غير ملتزمة بالمبدأ المؤسسي الذي ينحصر الالتزام به بدولة المؤسسات المعاصرة غير الموجودة في الوطن العربي".

ونمضي شوطاً أبعد إلى الأمام لنقول إن الباحثين والمفكرين العرب، في غالبيتهم الساحقة، لا ينجحون في تجنّب هذا الانزلاق المنهجي؛ وحتى الذين يأخذون على عاتقهم مهمة "كشف الإيديولوجيا العربية المعاصرة" أو "تجديد الفكر العربي"، لا يقومون بهذه المهمة من منظار وعي التمييز بين صعيد الملموس العيني وصعيد التميُّز البنيوي؛ فـ عبد الله العروي، على سبيل المثال، يمارس الانزلاق المنهجي بجدارة فائقة؛ وهو ينطلق من تشخيص معين يقوم على الخلط بين الصعيدين لينتهي إلى تشخيص معين يقوم بدوره على الخلط بينهما:

"إن هيكل مجتمعنا العربي، أي الاقتصاد، يوجد خارجه، فلا تعود بالضرورة في هذه الحال قطاعاته المختلفة إلى أساس مقبول لدى الجميع.. وضع تتخارج أجزاؤه مخارجة تامة. كل عنصر يردّ بنيته إلى عصر تاريخي مختلف، والدولة التي يفترض أن تكون آلية للتوحيد حسب نظرية الإسلام السياسية، هي نفسها مجتمع جزئي مستقل عما يخالفه ويزاحمه اقتصادياً وسياسياً.. بدلاً من أن نتحدث، كما نفعل عادة، عن سيولة البنى المجتمعية، ألا ينبغي أن نتحدث عن مدى حظها في الواقعية؟. نلاحظ في المجتمع حركتين تعملان باستمرار وتعاكس إحداهما الأخرى: حركة تجريد وتوحيد وحركة تجسيد وتمييز. أثناء فترة مدّ، ونعني تصاعد النضال السياسي، التعبئة لتحقيق المطالب، الحملة من أجل الاستقلال..، تتغلب الحركة التوحيدية التأليفية، وأثناء فترة جزر، ونعني كلال الجماهير، يأس الزعماء، فشل تحرّك...، تتوقف عملية التوحيد بل تعود التنظيمات إلى سابق عهدها في التصلّب فتربط في ما بينها "علاقات برانية".

مثلما نرى ونشهد ونقرأ ونفهم، بدل أن يشكّل التخلّع البنيوي سمة بنيوية من سمات الآحادية البنيوية المجتمعية الواحدة، يندفع الاقتصاد عند عبد الله العروي خارج الآحادية البنيوية المجتمعية العربية، كما يندفع كل جزء من أجزاء الوضع خارج خط الانتظام البنيوية الذي يلمّ متفرق الأجزاء ويوحدها، ما يجعل الدولة تشكل مجتمعاً جزئياً مستقلاً عمّا عداه.

كذلك، كما نرى ونشهد ونقرأ ونفهم، بدل التفتيش في الآحادية البنيوية المجتمعية عن محددات الوجهة التي تتخذها حركة التوحيد، أو حركة التقسيم، في الملموس العيني، تصبح الآحادية البنيوية المجتمعية نفسها عند عبد الله العروي ظرفاً يتطابق ويتماثل مع فترة مدّ حركة التوحيد أو مع فترة جزرها.

صعيد التعدد البنيوي

إذا كان ازدواج التراث _الحداثة قائماً في الملموس العيني، أي وجود مسالك واتجاهات وقيم مجتمعية تقليدية وحديثة، فالثلاثية قائمة في الملموس المجتمعي العربي أيضاً، وكذلك الرباعية والخماسية.. إلخ. ومن هذا المنظار، كل التصنيفات صحيحة ما عدا التصنيف الذي يختزل الملموس المجتمعي إلى وجه واحد أو نوع واحد أو نمط واحد أو درجة واحدة. وهذا الاختزال غير صحيح طبعاً لأن الملموس المجتمعي العيني متنوع إلى حد بعيد. ويستتبع ذلك أن استخراج ازدواج التراث _الحداثة لا يحصل، ولا ينبغي أن يحصل، إلا بعد إلغائه من الذهن وليس قبل ذلك، أي يمكن استخراج ازدواج البنية وإنما من آحاديتها البنيوية. وفي الوقت نفسه يمكن استخراج ثلاثية البنية أو رباعيتها أو خماسيتها من آحاديتها البنيوية أيضاً؛ والآحادية البنيوية المجتمعية هي التي نستخرج منها التعدد البنيوي.

توجد إذن مرحلة آحادية البنية قبل مرحلة ازدواجها البنيوية أو ثلاثيتها البنيوية أو رباعيتها أو خماسيتها... إلخ. ولكن، كيف السبل إلى تلبية مقتضيين اثنين يبدوان في ظاهرهما متعارضين: آحادية البنية، من جهة، والازدواج البنيوي، من جهة أخرى؟. إننا نشدّد على تعبير "استخراج" لأن إلغاء الازدواج البنيوي واستخراجه يحصلان في اللحظة النظرية نفسها، أي يحصل استخراج الازدواج البنيوي على قاعدة وعي آحادية اللحظة النظرية نفسها، أي يحصل استخراج الازدواج البنيوي على قاعدة وعي آحادية البنية وعلى قاعدة تراكم معرفي معيّن حول هذه الآحادية موجود وحاضر في الذهن على الدوام.

"بالرغم من تركيز العديد من الدراسات على ضرورة تجنّب منزلق النظرة الثنائية، لأن نظرة كهذه تنكر بنية النظام الكلي التي تحدّد الازدواجية والتي تنتسب الأجزاء إليها، وبالرغم من تنوع الأفكار التي تحاول جاهدة تبيان الروابط بين الحديث والتقليدي، بالرغم من كل ذلك تبقى الثنائية قائمة في الذهن لا يفعل فيها أي كلام بنيوي يمكن أن يقال، كما يبقى التصور المبسط على فروع إنتاجية حديثة يمكن اعتبارها، على المستوى التقني وتقسيم العمل السائد والتنظيم الإداري المطبق، نسخة طبق الأصل عن أرقى المشاريع الإنتاجية الرأسمالية الغربية. ما تجدر الإشارة إليه أيضاً أن الثنائية لا يقتصر مفعولها على المبدأ الاقتصادي، وإنما تمتد لتشمل جميع ميادين الحياة المجتمعية. وهكذا، يواجه الباحثون المحليون واقع انخفاض إنتاجية الأجير العربي في المنشآت الصناعية الحديثة فلا يجدون أمامهم، بفعل الثنائية النظرية المهيمنة، سوى محدّدات من نوع "غياب الذهنية الصناعية عند الأجير" أو "عدم تكيّف طبيعة الأجير الريفية مع العمل الصناعي العقلاني" أو "بقاء الانتماءات المجتمعية التقليدية عند الأجير"... وفي مقابل وجهة النظر هذه، نحن نتبنّى انتقال الفهم والتحليل والمعالجة إلى الاستثمار الصناعي عينه وتفحّص القرارات التي يتخذها على صعيد الإنتاج والإنتاجية والآلية والمكننة وتقسيم العمل... إلخ. بمعنى آخر، نحن نتبنّى الانطلاق من مفهوم الابتكار ومن المعادلة الاقتصادية التي يرتكز إليها p=F(L.K.T) بهدف تبيان طبيعة الدمج العيني الذي يعتمده الرأسمال الصناعي بين عوامل الإنتاج المختلفة المتمثلة في الرأسمال (K) والتقنية (T) وقوة العمل (L). وفي أساس تبني هذه الوجهة في الدراسة تقبع الإشكالية التي حملنا همّها عند نزولنا إلى ميدان الدراسة الفعلي: تلمّس وجود بنية إنتاجية وتقنية خاصة ومتميّزة، وتلمس بعض القرارات الاقتصادية التي لا يتّخذ الرأسمال نظائر لها في نمط إنتاجه الأصلي... باختصار كلي إذن، إننا نرى استحالة زوال ثنائية النظرة إلاّ بالقضاء على توهم الفروع الإنتاجية الحديثة في بلداننا نسخة طبق الأصل عن القطاع الرأسمالي الغربي".

وعلى الطرف النقيض من هذه الفكرة المنهجية، ما يجري في الكتابة العربية ليس استخراجاً. إنّ ما يجري فيها حقاً هو اعتبار الازدواج البنيوي معطى محدّداً في الفكر بشكل مسبق. في هذا الضوء، تطغى في الكتابة العربية الفكرة الشائعة عن الازدواجية المجتمعية؛ ولا تقف هذه الفكرة عند حدود ملاحظة التفاوت في الملموس بل تشكل القاعدة لنظرية تحاول، على الوجه الآتي، كشف تركيب مجتمعاتنا العربية وطبيعة هذا التركيب:

*وجود قطاعين اقتصاديين محليين واحد تقليدي والآخر رأسمالي حديث مع قوانين خاصة بكل منهما؛ فإلى جانب القطاع الرأسمالي الحديث يوجد قطاع ما قبل رأسمالي كبير نسبياً؛ وأن الاقتصاد ينطوي على قطاعين متضاربين كلياً،؛ وأن فروع الاقتصاد لم تتطور معاً في آن واحد بحيث ترتبط ويكمل بعضها البعض الآخر، بل تطوّرت بشكل غير متناسب على نحو صارخ بحيث إن بعض الفروع الاقتصادية نمت نمواً مفرطاً كأجسام غريبة معزولة عن الفروع الأخرى.

*حصول تضارب وتصادم نظام مجتمعي مستورد مع نظام مجتمعي محلي من طراز آخر. لما كان المجتمعان متعارضين جملة وتفصيلاً، فإن أياً منهما لا يصبح السائد أو المميّز للمجتمع كله. وهكذا ينتشر الكلام على "المجتمع العربي التقليدي" و "المجتمع العربي الحديث"؛ وكل واحد منهما يملك بنى ومقومات ونظام قيم ومسالك مختلفة عن الآخر.

*أكثر من ذلك، عندما لا تكون الحداثة مستخرجة من ذلك الخليط البنيوي الواحد المعقد والمتميّز الموجود في واقع مجتمعاتنا العربية.. وعندما لا يكون التقليد مستخرجاً من ذلك الخليط البنيوي الواحد المعقد والمتميّز الموجود في واقع مجتمعاتنا العربية.. لا يبقى من احتمال، في هذه الحال، إلاّ أن تكون الحداثة العربية الراهنة هي نفسها الحداثة الغربية، ولا يبقى أيضاً من احتمال إلاّ أن يكون التقليد العربي الراهن هو نفسه تقليد مجتمعاتنا العربية الماضية.

"على هذه الشاكلة، يُحدّد النموذج الإسلامي من الكتابة العربية المجتمع العربي الحديث... ولا تغيّر في الأمر شيئاً يذكر حدة المواجهة التي يخوضها. فما يهمنا هنا هو النظرة المنهجية إلى الحداثة العربية ذاتها. إنها النظرة المنهجية نفسها والركائز المنهجية ذاتها التي وجدناها ماثلة في النموذج القومي من الكتابة العربية، والتي تقوم على الخلط بين وجهتي المقارنة وبالتالي على بداهة اعتبار الحداثة العربية بالذات. وتلك البداهة تقوم بدورها على اختزال تحديث المجتمع العربي إلى مظاهر الحياة المجتمعية العربية الحديثة، مما يؤدي إلى هيمنة الثنائية النظرية، ومما يتيح لنموذج التحديث الغربي كي يقدم نفسه على صورة نموذج عالمي، بديهي، وضعي، موضوعي، عقلاني للتحدث في العالم بأسره.

وفي النتيجة، تجهل وجهة النظر التي تحكمها ثنائية المجتمع بنية الآحادية التي تنتسب الأجزاء إليها، أي البنية التي تحدّد الازدواجية. وإذا ما أبصرت وجهة النظر هذه أو تناولت أية بنية فإنها لن تكون، في أحسن الأحوال، أكثر من بنية بعض الأجزاء، في حين تفلت وحدة الأجزاء منها. وعلى هذا الأساس، نطرح الأسئلة التالية: هل يوجد في مجتمعاتنا العربية رسملة حديثة من جهة وتقليد من جهة أخرى؟. أم ان الواقع المجتمعي العربي استوعب الرسملة ومكوّناتها بقدر ما استوعبته مما أنتج بنية متميّزة حيث الحديث في التقليدي وحيث التقليدي في الحديث؟ أو، على الأصح، مما أنتج بنية متميّزة حيث لا حديث ولا تقليدي؟ وهل يجدي وينفع فهم ملموس مجتمعاتنا كسلسلة من الأفعال، يعود بعضها إلى المنطق التقليدي، ويعود بعضها الآخر إلى المنطق الحديث؟ أم أن كل سلوك عندنا هو مادة لقراءة تحمل في طياتها المنطقين معاً؟ أو، على الأصح، تحمل في طياتها منطقاً واحداً يمكن اعتباره النتيجة التي أدّى إليها تصادم المنطقين وتصالحهما في الوقت نفسه.

ترتكز الأسئلة المطروحة إذن إلى منحى في الفهم والتحليل يفتش عن تميّز البنية المجتمعية الواحدة خارج مفاهيم وتعابير وأفكار من نوع التقليدي، الحديث، المجتمع المدني، المجتمع التقليدي، الانتماءات التقليدية، والانتماءات الحديثة... إلخ، إنه حقل منهجي مختلف، حيث لا تقليدي ولا حديث وحيث لا يقدم الواقع المجتمعي العربي تقليداً على حدة أو حداثة على حدة.

المعادلة الذهنية

تجتمع الانزلاقات المنهجية السابقة، مع أصعدتها النظرية، وتتقاطع كي تنتج وتعيد إنتاج معادلات ذهنية يقوم وينهض عليها منطق القسمة الثنائية في إشكالية التراث _ الحداثة.

المعادلة الذهنية الأولى

حين تغيب فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، وحين تطغى النظرة التي تعتبر الآحادية البنيوية المجتمعية معطى محدداً بشكل مسبق، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة هي إشكالية التراث _ الحداثة.

مع غياب فكرة بناء الآحادية، ومع تجميد الآحادية البنيوية المجتمعية في صورة جوهر سابق على الوجود، يختفي كل مبرّر منطقي لوجود إشكالية خاصة بالآحادية يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول قضايا البناء وأفكاره ومفاهيمه وحدوده ووجهته وحصيلته البنيوية.

مع تجميد الآحادية البنيوية المجتمعية في صور جوهرٍ سابق على الوجود، وتالياً، مع اعتبار هوية الحداثة العربية البنيوية نفسها هوية الحداثة الغربية البنيوية، يختفي كل مبرّر منطقي لوجود إشكالية خاصة بالحداثة يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول هوية الحداثة العربية وطبيعتها البنيوية.

عندما يكون الوضع كذلك، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة. أما حين تضرب النظرة المنهجية جذورها في فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، فان إشكالية التراث _الحداثة تختفي من الوجود المعرفي وتترك مكانها لثلاث اشكاليات دفعة واحدة.

1_ إشكالية رئيسة هي إشكالية الآحادية البنيوية المجتمعية؛ فعلى الرغم من التوافق والاتفاق على الانطلاق من فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، لابدّ من أن تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول قضايا هذا البناء وأفكاره ومفاهيمه وحدوده ووجهته وحصيلته البنيوية.

2_ إشكالية متفرعة أولى هي إشكالية الحداثة؛ فلمجرد الانطلاق من فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، ولمجرد أن يدفع ذلك إلى اكتشاف الخصوصية البنيوية المتضمنة في الحداثة والمستمدة من وجهة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية العربية المعاصرة، ولمجرد إعلان عدم التماثل البنيوي بين الحداثة العربية والحداثة الغربية، لا بدّ من ان تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول الطبيعة البنيوية الخاصة بالحداثة العربية ومعناها وحدودها وقضاياها.

3_ إشكالية متفرعة ثانية هي إشكالية التراث؛ فلمجرد الانطلاق من فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، ولمجرد أن يدفع ذلك إلى اكتشاف الخصوصية البنيوية المتضمنة في الحداثة والمستمدة من وجهة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية العربية المعاصرة، ولمجرد إعلان عدم التماثل البنيوي بين الاتجاهات السلوكية العربية التقليدية الراهنة والاتجاهات السلوكية الماضية، لابدّ من أن تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول الطبيعة البنيوية الخاصة بالتقليد العربي الراهن ومعناه وحدوده وقضاياه.

ما يهمنا في هذه الإشكالية الثلاث أنها ترسم معالم استحالة منهجية يصطدم بها ازدواج التراث والحداثة في إشكالية واحدة.

عندما توجد إشكالية خاصة بالحداثة، أي عندما يدور النقاش في الفكر حول معنى الحداثة العربية وحدودها وطبيعتها ومضمونها وقضاياها، يكون هذا النقاش يدور في الوقت نفسه حول حقيقة وجود التراث في الحداثة ومعنى هذا الوجود وحدوده ومضمونه وقضاياه، ومدى ما يبنيه التراث في الحداثة من طابع "تراثوي" بنيوي خاص، ومن خصوصية "تراثوية" بنيوية متميّزة.

عندما توجد إشكالية خاصة بالتراث، أي عندما يدور النقاش في الفكر حول معنى التراث العربي وحدوده وطبيعته ومضمونه وقضاياه، يكون هذا النقاش يدور في الوقت نفسه حول حقيقة وجود الحداثة في التراث ومعنى هذا الوجود وحدوده ومضمونه وقضاياه، ومدى ما تبنيه الحداثة في التراث من طابع "حداثوي" بنيوية خاص، ومن خصوصية "حداثوية" بنيوية متميّزة.

في تعابير أخرى، عندما تكون الحداثة هي الإشكالية، يكون النقاش يدور في الفكر حول مسألة المعاصرة، وهل تعني هذه المسألة تفحّص ما هو معاصر؟؛ أم أنها تعني ما فات وانقضى بقدر ما تعني ما هو معاصر؟؛ وهل تغلق المعاصر باب الحاضر على نفسها؟ وهل تشكّل المعاصرة بديهة؟ أم أنها صفة متنازع على طبيعتها البنيوية.؟؛ وهل التراث خارج الحداثة أم أنه داخلها؟

عندما يكون الوضع كذلك، يختفي كل مبرر منطقي يسمح بازدواج التراث والحداثة في إشكالية واحدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة.

المعادلة الذهنية الثانية

حين يغيب وعي التمييز بين صعيد الملموس المجتمعي العيني وبين صعيد التميّز البنيوي، وحين يوازي التخلّع البنيوي ويساوي آحاديات بنيوية مختلفة ومتباينة، أو حين يوازي التخلّع البنيوي ويساوي ظرفاً يقع خارج البنية، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة هي إشكالية التراث _ الحداثة.

لمجرد أن تؤدي ملاحظة التخلّع في الملموس المجتمعي العيني إلى إصدار الحكم بوجود أكثر من آحادية بنيوية مجتمعية، يختفي كل مبرر منطقي لوجود إشكالية خاصة بالآحادية يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول هوية آحادية بنيوية مجتمعية واحدة تتصف بالتخلّع البنيوي.

لمجرّد أن تؤدي ملاحظة تخلع الحداثة _ التقليد في الملموس العيني إلى إصدار الحكم بوجود آحاديتين بنيويتين، حديثة وتقليدية... ولمجرّد أن يرتفع التخلّع في الحداثة، أو التخلّع في التراث، إلى مرتبة الآحادية البنيوية المجتمعية... ولمجرد أن يصدر الحكم بأن هوية الحداثة العربية البنيوية هي نفسها هوية التقليد العربي البنيوية الراهنة هي نفسها هوية الآحادية البنيوية المجتمعية العربية الماضية... يختف كل مبرر منطقي لوجود إشكالية، خاصة بالحداثة وإشكالية خاصة بالتراث، يرتبط وجودهما في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول هوية الحداثة العربية البنيوية، وحول هوية التراث العربي البنيوي.

عندما يكون الوضع كذلك، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة؛ أما حين تضرب النظرة المنهجية جذورها في وعي التمييز بين صعيدي الملموس العيني والتميّز البنيوي، وحين يكون التخلع والتفكك والتفتت سمة بنيوية لآحادية بنيوية مجتمعية واحدة، فإن إشكالية التراث _ الحداثة تختفي من الوجود المعرفي وتترك مكانها لثلاث إشكاليات دفعة واحدة.

1_ إشكالية رئيسة هي إشكالية الآحادية البنيوية المجتمعية؛ فإذا كان التخلّع والتفكّك والتفتّت سمة بنيوية لآحادية بنيوية مجتمعية واحدة، وإذا كانت الطبيعة البنيوية الخاصة بهذه الآحادية تمثل خليطاً بنيوياً معقداً ومتميزاً، فلا بدّ من أن تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول هوية هذا الخليط البنيوي المعقد والمتميّز ومعناه وحدوده وقضاياه.

2_ إشكاليتان متفرعتان هما إشكالية الحداثة، من جهة، وإشكالية التراث من جهة أخرى؛ فلمجرّد أن يكون التخلّع والتفكك والتفلت سمة بنيوية لآحادية بنيوية مجتمعية واحدة، ولمجرد أن تمثّل الطبيعة البنيوية الخاصة بهذه الآحادية خليطاً بنيوياً معقداً ومتميزاً، فلا بدّ من أن تظهر في الفكر إشكاليتا التعارض والتباين والاختلاف حول هوية هذا الخليط البنيوي في الحداثة وهويته في التراث.

وما يهمّنا في هذه الإشكاليات الثلاث أنها ترسم معالم استحالة منطقية يصطدم بها ازدواج التراث والحداثة في اشكالية واحدة؛ فعندما تمثّل الحداثة خليطاً بنيوياً معقداً ومتميّزاً يكون التراث داخلها ولا يكون خارجها أو في موازاتها؛ وعندما يمثل التراث خليطاً بنيوياً معقداً ومتميزاً تكون الحداثة داخله ولا تكون خارجه او في موازاته؛ وعندما يكون الوضع كذلك، يختفي كل مبرر منطقي يسمح بازدواج التراث والحداثة في اشكالية واحدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة.

المعادلة الذهنية الثالثة

حين لا يكون التعدّد البنيوي مستخرجاً من الآحادية البنيوية المجتمعية، وحين يكون الازدواج البنيوي معطى محدداً في الفكر بشكل مسبق، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة هي إشكالية التراث _ الحداثة.

لمجرّد ألا يكون التعدد البنيوي مستخرجاً من الآحادية البنيوية المجتمعية، فيعني ذلك أن هذه الآحادية البنيوية المجتمعية تنتمي إلى عالم البداهات، أو تحكمها نظرة تعتبرها معطى محدداً في الفكر بشكل مسبق. وفي هذا الحال، يختفي كل مبرر منطقي لوجود اشكالية خاصة بالآحادية يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول هوية هذه الآحادية المجتمعية التي يجري استخراج التعدد البنيوي منها وطبيعتها البنيوية المجتمعية الخاصة والمتميّزة.

لمجرد ألا تكون الحداثة مستخرجة من الآحادية البنيوية المجتمعية، ولمجرّد ألا يكون التراث مستخرجاً أيضاً من الآحادية البنيوية المجتمعية، يختفي كل مبرر منطقي لوجود اشكالية خاصة بالحداثة واشكالية خاصة بالتراث يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول قضايا استخراجهما وأفكاره ومفاهيمه ووجهته وحصيلته البنيوية.

عندما يكون الوضع كذلك، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة؛ أما حين تضرب النظرة المنهجية جذورها في مرحلة آحادية البنية قبل مرحلة التعدد البنيوي، فإن إشكالية التراث _ الحداثة تختفي من الوجود المعرفي وتترك مكانها لثلاث إشكاليات دفعة واحدة.

1_ إشكالية رئيسة هي إشكالية الآحادية البنيوية المجتمعية؛ فلمجرّد استخراج التعدّد البنيوي من الآحادية البنيوية المجتمعية، لابدّ من أن تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول هوية الآحادية البنيوية المجتمعية التي يحصل الاستخراج منها وطبيعتها البنيوية المجتمعية الخاصة والمتميّزة.

2_ لمجرد استخراج الحداثة، أو التراث، من الآحادية البنيوية المجتمعية، لا بدّ من أن تظهر في الفكر إشكاليتا التعارض والتباين والاختلاف حول قضايا الاستخراج ومفاهيمه وأفكاره وحدوده ووجهته وحصيلته البنيوية.

وما يهمّنا من هذه الإشكاليات الثلاث أنها ترسم معالم استحالة منطقية يصطدم بها ازدواج التراث والحداثة في إشكالية واحدة؛ فباستخراجه الحداثة من الآحادية البنيوية المجتمعية، سيكتشف الباحث أو الدارس بصورة أكيدة أنه يستخرج الحداثة من التراث ذاته؛ وباستخراجه التراث من الآحادية البنيوية المجتمعية، سيكتشف الباحث أو الدارس بصورة أكيدة أيضاً أنه يستخرج التراث من الحداثة عينها. عندما يكون الوضع كذلك، يختفي كل مبرر منطقي يسمح بازدواج التراث والحداثة في إشكالية واحدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة.

نموذج دراسي في علم الاجتماع

كيف تحضر إشكالية التراث والحداثة في واقع الأبحاث الميدانية الاستقصائية في علم الاجتماع؟

للإجابة عن هذا السؤال سنعرض لفرضيتين تفسيريتين متعارضتين ومختلفتين. وإذا كانت الفرضية التفسيرية الأولى تمتد بجذورها إلى إشكالية التراث_ الحداثة، فإن الفرضية التفسيرية الثانية تتفلت من هذه الإشكالية وتتحرر منها. أما موضوع البحث الذي وقع اختيارنا عليه فهو: الحرب اللبنانية وسلطة الأهل والشباب.

الفرضية التفسيرية الأولى

يؤدي تهمش المجتمع المدني ومؤسساته وقيمه، وبخاصة في ظل تقوقع السوق المحلية وضعف ديناميتها الموحدة، إلى استعادة الأطر القرابية العائلية والدينية دورها المتضخم في احتضان الشباب أو الشبيبة، وفي إعادة شحن تماسكهم بقيم مجتمعية تعزز صورة الأهل ودورهم كما المجتمع التقليدي عموماً.

لنتفحّص مضمون هذه الفرضية التفسيرية المقترحة. فما هي القضايا النظرية التي تقوم الفرضية عليها؟

1_ المجتمع المدني ومؤسساته وقيمه

إن المجتمع المدني هو المجتمع حيث العقلانية هي المهيمنة، وحيث العلم والإنتاج، وحيث السياسة ليست حقاً إلهياً، وحيث الانتماءات المجتمعية بعيدة عن التقليدية، وحيث يجمع الموقع المشترك في الإنتاج الأفراد والجماعات في الأحزاب والتنظيمات النقابية والجمعيات. أما كيف يصل المجتمع إلى هذا الوضع، فإن حركة الرأسمال تحطّم الحواجز بين المناطق وتوحّد التماسك المجتمعي التقليدي، كما تحطّم القيم المجتمعية المرافقة لهذا التماسك المجتمعي التقليدي. وفي هذا السياق يحصل الانتقال من الأسرة الممتدة إلى الأجارة (Salariat) كعلاقة مجتمعية رئيسة، فتختفي الانتماءات المجتمعية التقليدية وتحل محلها انتماءات مجتمعية من طبيعة مختلفة. ويؤدي هذا التحول إلى ضعف صورة الأهل ودورهم؛ فالطفل يولد حراً تماماً، كما يولد عاقلاً؛ بيد أنه لا يمارس على الفور عقله وحريته، ولا ضرورة لحكم الأب والأهل إلاّ في إعداد الطفل لممارسة هذا العقل وهذه الحرية ممارسة مناسبة عندما يؤون الأوان.

2_ المجتمع التقليدي

في هذا النمط من المجتمعات تكون الأسواق المحلية والمناطقية منفصلة بعضها عن البعض الآخر لضعف حركة الرأسمال الموحدة للسوق. وتكون الأصول المجتمعية ريفية، والانتماءات تقليدية قرابية عائلية ودينية. في هذا المجتمع تكون الأسرة وحدة إنتاجية ومجتمعية رئيسة، فتتعزز سلطة الأهل، ويتعزّز دورهم.

3_ الثنائية المجتمعية

في إشارتها إلى "استعادة الأطر القرابية العائلية والدينية دورها المتضخم"، تكون الفرضية تشير إلى أن هذا الدور كان مفقوداً فتمّت استعادته.

في إشارتها إلى "إعادة شحن تماسكهم بقيم مجتمعية"، تكون الفرضية تشير إلى أن التماسك المجتمعي أخذ يُشحن بالقيم التقليدية بعد أن كان هذا الشحن قد خفّ أو توقف.

في إشارتها إلى "تهمّش المجتمع المدني"، تكون الفرضية تشير إلى أن المجتمع المدني أخذ يتهمش شيئاً فشيئاً، أي تكبر درجة هامشيته، أي كان فعالاً فأخذ يتهمش.

في إشارتها إلى "تقوقع السوق المحلية" تكون الفرضية تشير إلى أن السوق أخذت تتقوقع شيئاً فشيئاً، أي تكبر درجة تقوقعها، أي كانت منفتحة فأخذت تتقوقع.

ويدفع بنا اجتماع هذه القضايا النظرية الثلاث في الفرضية التفسيرية إلى الاستنتاج التالي: يفترض الباحث في البدء مرحلة تاريخية مجتمعية سابقة كان المجتمع المدني فيها يسير في اتجاه السيادة. وفي هذه المرحلة التاريخية المجتمعية كانت الأطر القرابية العائلية والدينية تضعف وكان دورها يتقلّص؛ ثم أتت مرحلة تاريخية مجتمعية لاحقة أخذ المجتمع المدني فيها يتهمّش والسوق تتقوقع وديناميتها الموحّدة تضعف والأطر القرابية والعائلية والدينية تستعيد دورها المتضخم... وإذا كان لبنان هو المقصود بهذا الكلام، فالمرحلة التاريخية المجتمعية التي تقصدها الفرضية التفسيرية هي مرحلة الحرب حيث تقسّمت المناطق وأخذ المجتمع ينتقل من السوق الموحدة العاصمية قبل الحرب إلى أسواق محلية عدة ومناطق نفوذ وإلى هيمنة المشاريع السياسية الممثلة لهذه الطائفة أو تلك؛ وعلى هذا الأساس، تقوقعت السوق المحلية وضعفت ديناميتها الموحدة، وسادت الطائفية والطوائف والمذاهب واستعادت الأطر القرابية العائلية والدينية دورها المتضخم؛ كما تعزّز المجتمع التقليدي من جديد وتعزّز دوره فتعزّزت معه صورة الأهل ودورهم.

مناقشة الفرضية التفسيرية

من جهة أولى، لا يمكن أن تكون القضية قضية تضخم أو إضعاف وتعزيز؛ فعندما تشير الفرضية التفسيرية إلى المجتمع المدني والمجتمع التقليدي تكون تشير إلى مجتمعين يملك كل واحد منهما آحادية بنيوية مجتمعية مختلفة في طبيعتها البنيوية عن الآخر. وفي هذه الحال، يكون الكلام على إضعاف سلطة الأهل أو تعزيز دورهم صالحاً حين نكون نتكلم على مجتمع واحد أو آحادية بنيوية مجتمعية واحدة. وهذا النوع من الكلام لن يكون صالحاً في حال مجتمعين يملكان طبيعتين بنيويتين مختلفتين؛ فالانتقال من المجتمع المدني إلى التقليدي أو العكس لا يعزّز أو يضعف وإنما يغيّر في طبيعة سلطة الأهل ومحتواها وأنماط ممارستها.

ومن جهة ثانية، لم تغب القيم المجتمعية التقليدية السابقة كي تُستعاد؛ ولم تفقد الأطر القرابية العائلية والدينية فعاليتها. إنّ السؤال هو: كيف استوعبت القيم المجتمعية السابقة القيم المجتمعية الحديثة؟؛ وكيف انخرطت القيم المجتمعية الحديثة في القيم المجتمعية السابقة؟؛ وماذا أعطى هذا الانخراط؟ فنحن نعيش وضعاً حيث دينامية السوق تعيد إنتاج تقليدية الوضع كشرط لإعادة إنتاج حداثة الوضع وعصرنته. ونكتفي في هذا المجال بإلقاء نظرة خاطفة على تركيبة لبنان المجتمعية قبل الحرب: نظام سياسي وبنية سياسية قائمة على انتماءات وأطر هي أبعد ما تكون عن المجتمع المدني، نظام أسري وبنية أسرية محكومة بانتماءات وأحوال شخصية هي أبعد ما تكون عن المجتمع المدني.. إلخ.

ومن جهة ثالثة، لا يوجد في لبنان مجتمع مدني على حدة ومجتمع تقليدي على حدة كي تشير الفرضية التفسيرية إلى المجتمع المدني، وإلى المجتمع التقليدي. إننا، كباحثين اجتماعيين، ننتمي إلى وجهة نظر تبحث عن التقليدي في الحديث وعن الحديث في التقليدي ولا ترى الأمور إلاّ على هذا النحو.

بالنتيجة، يؤدّي تفحصنا للفرضية التفسيرية الأولى إلى تلمس الانزلاقات المنهجية الأساسية التي تقوم إشكالية التراث _ الحداثة عليها: غياب الآحادية البنيوية المجتمعية اللبنانية عن الدراسة والتحليل والفهم، التخلع البنيوي يوازي ويساوي آحاديات بنيوية مجتمعية مختلفة ومتباينة (المجتمع التقليدي والمجتمع المدني)، ازدواج الحداثة _ التقليد واعتباره معطى محدداً في الفكر بشكل مسبق.

والمسألة ليست شكلية على الإطلاق، لأن حضور إشكالية التراث _ الحداثة في الفرضية التفسيرية يحجب الواقع المجتمعي اللبناني الملموس عن أنظارها؛ ولعل المؤشر الأكثر بروزاً على ذلك هو الآتي:

في أوساط مجتمعية معيّنة، وضمن شروط معيّنة، وفي أسر معيّنة، تعزّزت سلطة الأهل ودورهم إذ يؤدي التكيف مع أوضاع الحرب الصعبة إلى تفتيش الشباب عن حماية أكبر لهم يجدونها في أسرهم، وإذ تنكفىء الأسرة على ذاتها لتؤمّن تماسكاً داخلياً أقوى في مواجهة الحرب.

في أوساط مجتمعية معيّنة، وضمن شروط معيّنة، وفي أسر معيّنة، ضعفت سلطة الأهل ودورهم. ويكفينا في هذا المجال الإشارة إلى عشرات الآلاف من الشباب الذين كان لهم على امتداد زمن الحرب شكل من أشكال العمل العام في معناه الواسع (عمل سياسي بحت _ عمل مجتمعي عام) ممّا انعكس في علاقتهم مع أهلهم وأضعف من تقبّلهم لسلطة الأهل وأتاح لهم التفلّت منها.

ما يمكن ملاحظته إذن هو تعزّز سلطة الأهل وضعفها في آن واحد. فلماذا لم ترَ الفرضية التفسيرية ما كان يجدر بها أن تراه من إضعاف لسلطة الأهل؟، ولماذا أخذت الفرضية التفسيرية على عاتقها مهمة تفسير تعزز سلطة الأهل ولم تأخذ على عاتقها مهمة تفسير إضعاف سلطة الأهل؟، لسبب بسيط جداً هو الآتي: لمجرد ملاحظة إضعاف سلطة الأهل، ولمجرد أن تطرح الفرضية على نفسها مهمة تفسير الظاهرتين معاً، تكون رسمت طريق التفلت والتحرر من هيمنة إشكالية التراث _ الحداثة، ولا يعود في إمكانها استخدام مفاهيم من نوع "المجتمع المدني" و "المجتمع التقليدي".

الفرضية التفسيرية البديلة المقترحة

ما يهمنا ليس الفرضية التفسيرية التي نقترحها في حدّ ذاتها؛ فقد يقدّم آخرون فرضية بديلة مختلفة، وإنما الأكثر أهمية عندنا أن تكون هذه الفرضية متفلتة من إشكالية التراث _ الحداثة ومتحررة منها؛ ونبدأ بالتساؤل عن القضية النظرية التي تتيح لنا تفسير إضعاف سلطة الأهل من ناحية وتعززها من ناحية ثانية. فما هي هذه القضية النظرية؟.

عندما نقول ضعفت سلطة الأهل، نعني بذلك أن ضبطها للأبناء قد ضعف، وأن إخضاعها لأفرادها قد ضعف. إن ضعف الضبط والإخضاع لا يمكن أن يحصل دون تناقض ودون صراع لأن طبيعة كل سلطة تقوم على تجنب التنازل عن دورها، وتصارع في سبيل ذلك. وهذا ما نجده في كل سلطة، وهذا ما يحويه مفهوم السلطة.

إنّ المسار الذي يؤدي إلى إضعاف سلطة الأهل أو تعزيزها هو مسار صراعي وذو طبيعة صراعية. إنه صراع وتناقض سلطة الأهل مع سلطات الجماعات الأخرى؛ إنها كل الجماعات التي يمكن تصورها من الحزب إلى النقابة إلى الجمعيات والنوادي إلى العصبة والزمر ومختلف أنواع وأشكال التجمعات؛ وكل جماعة من هذه الجماعات تملك سلطة على أفرادها، وكما للأهل سلطة على الأبناء، كذلك بالنسبة إلى مختلف هذه الجماعات؛ وإذا لم تكن سلطة الجماعة قائمة فلا تكون الجماعة موجودة.

كيف تكون طبيعة الروابط بين سلطة الأهل وسلطات الجماعات الأخرى زمن السلم؟. يوجد على الدوام وفي جميع الشروط حيّز من التناقض والصراع بين سلطة الأهل وسلطات الجماعات الأخرى. ويرتكز هذا الحيّز من التناقض والصراع إلى إمكان تضارب متطلبات الجماعة مع متطلبات الأسرة؛ وكل جماعة تتطلّب من أفرادها المساهمة في نشاطاتها وتخصيص الوقت اللازم لها والقيام بمهمات معيّنة... إلخ؛ ويقوم في زمن السلم توازن بنيوي معيّن يكون في الغالب لمصلحة الأسرة فتتكيّف الجماعات الأخرى معها لأهميتها المجتمعية: مداورة، تكيّف، تخفيف الجماعة لضغطها على الأفراد حين يزداد ضغط سلطة الأهل...إلخ.

كيف تكون طبيعة الروابط بين سلطة الأهل وسلطات الجماعات الأخرى زمن الحرب؟ في الزمن الصعب الذي يعيشه المجتمع خلال الحرب تنوجد مختلف هذه الجماعات أمام احتمالين لا ثلاث لهما: المساهمة المباشرة والفعّالة في الحرب، الاكتفاء بعيش الحرب. وفي الحالين، تشكّل الحرب خطراً مباشراً وداهماً على وجود الجماعات واستمرارها في الوجود. ولهذا السبب، تصارع الجماعات من أجل بقائها ويكتسب الحفاظ على تماسكها أهمية قصوى وإلحاحاً شديداً؛ فالحفاظ على التماسك ملحّ جداً حين تكون المشاركة في الحرب مباشرة، لزيادة فعالية هذه المشاركة، والحفاظ على التماسك مصيري جداً حين تكتفي الجماعة بعيش الحرب كي تحافظ على وجودها.

عندما يكون وجود الجماعة نفسها على المحك إذن، تسقط كل الاعتبارات ويختلّ التوازن البنيوي الذي كان قائماً زمن السلم، ويزيد ضغط الجماعة على أفرادها وتزيد متطلباتها وتتكثّف المهمات المطلوبة من الأفراد؛ فتتقاطع الضغوط ويتضح الحيّز الصراعي ويتفاقم ويتخذ أبعاداً جلية واضحة، ويتّجه المسار الصراعي من سلطة الأهل وسلطات الجماعات الأخرى في اتجاه توازن بنيوي جديد تكون نتيجته إضعاف سلطة الأهل أو تعزيزها؛ ويبقى على الباحث الاجتماعي التفتيش في الأوضاع المجتمعية الملموسة عن محددات الوجهة التي يتخذها التوازن البنيوي الجديد في الملموس.

...................................................................

المصادر/

1- موقع الكاتب بكر ابو بكر

 2- زكي الميلاد / جريدة الغد الاردنية

 3- منتديات شبكة زعيم الامارات

 4- مدونات مكتوب

 5- شبكة الم الامارات

 6- رضا المختاري / مؤسّسة إحياء التراث‏/ايران

 7-  زكي الميلاد / مركز العهد الثقافي

 8- أ.د حيدر كمونة/ جريدة المدى العراقية

 9- موقع الدكتور يوسف زيدان للتراث والمخطوطات

 10- عبد المجيد بوقربة/ مجلة فكر ونقد

 11- شبكة التراث الشعبي

 12- نظام مارديني / جريدة الحياة اللندنية   

 13- عبد الله ابراهيم/  مجلة الفكر العربي العدد 95/1999

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 12 نيسان/2008 - 5/ربيع الثاني/1429