قبل عامين من الآن أكدت التقارير الرسمية أن الأوضاع في البصرة تسير
في طريق التحسن المستمر، وأعيد هذا الهدوء النسبي آنذاك إلى خبرة
القوات البريطانية في التعامل مع المنطقة العربية، في مقابل ضعف الخبرة
الأميركية والذي بدا جليا من خلال استمرار تفجر الأزمات في المناطق
التي تسيطر عليها القوات الأميركية، فرغم كل المصاعب التي كانت يعيشها
سكان البصرة بين فترة وأخرى، إلا أنها لم تتدنّ إلى مستوى المناطق
الخاضعة للسيطرة الأميركية، وأصبح مألوفا- وإن بشكل متعمد- أن ترى
أفرادا من القوات الاسكندنافية يلعبون الكرة مع أطفال البصرة أو
يشاركون رجالهم في تنظيم المرور وتشييد المدارس.
لكن ذلك لا يعني أن القوات البريطانية نجحت في تحقيق الأمن، فهي
أيضا أخفقت، وظهرت تلك الإخفاقات في جدل الداخل البريطاني والحكومي حول
جدوى استمرار القوات البريطانية في العراق، وبدأ الجميع يتحدث عن فشل
القوات البريطانية في تحقيق تقدم حقيقي على الأرض، وإلى تورطها في
مشروع أميركي فاشل وغير محدد النتائج، وعن الحاجة إلى إيجاد مخرج ملائم
للانسحاب بأسرع وقت ممكن، ويزداد هذا الإلحاح مع اشتعال الاشتباكات
العسكرية مع العراقيين، وهو ما يؤكد أن كل صور وأشكال الاحتلال، ومهما
أبدت من مرونة وتفهم تبقى محتلة وغريبة وقابلة للانفجار في أي لحظة.
ثمة رأي آخر، وهو اقرب إلى الصواب، يحيل أسباب الهدوء النسبي الذي
ساد البصرة ومدنها في فترات متقطعة إلى مشاركة العراقيين المتواضعة في
الحفاظ على الأمن، ويستدل أصحاب هذا الرأي بالهدوء النسبي الذي عمّ
مناطق مثل النجف وكربلاء والناصرية، والاستقرار الأمني المتقدم في
كردستان العراق وفي مدن الأنبار، فهذه المناطق جميعها خاضعة لسيطرة
العراقيين، وهم أصحاب السيادة فيها، وهي مقارنة بغيرها تعد أفضل من
غيرها كمناطق آمنة.
ويفنّد استقرار الأوضاع في هذه المدن المبرر الذي يتكئ عليه أنصار
بقاء القوات الأميركية والبريطانية في العراق لحفظ الأمن، حيث تشير
الحسبة السياسية والأمنية على أرض العراق إلى عكس هذا التصور تماما،
فكلما ابتعدت القوات المحتلة عن المدن تعزز الأمن والاستقرار داخلها،
بينما يؤدي اقترابها إلى تفجر الأوضاع الأمنية واضطراب المناطق
العراقية برمتها، وهو ما دعا بعض المراقبين إلى إدانة الولايات المتحدة
واتهامها برعاية الإرهاب داخل العراق، معتبرين أن المنظمات الإرهابية
التي تمارس أعمال عنف داخل البلاد ما هي إلا أدوات ضغط أميركية تستهدف
إدامة وجود قوات الاحتلال في العراق.
منافذ الحوار الداخلي
يعزز هذا القول توريط الولايات المتحدة أخيرا حكومة المالكي في
الصدام المسلح مع جيش المهدي، والذي أسفر عن سقوط المئات من الضحايا
والجرحى، وكأن العراق لا يزال فيه قدرة على تقديم المزيد من الضحايا
والقتلى والأبرياء، فالصدام الشيعي الشيعي قوّض أمل الاستقرار، وأعاد
العراق إلى منطقة مفتوحة على كل الاحتمالات، وللأسف فهي كلها احتمالات
موغلة بالمأساوية، وأتاح الفرصة مجددا للحديث عن ضرورة عودة القوات
البريطانية إلى البصرة، وإلى ضرورة استمرار الاحتلال الأميركي للعراق
لفرض الأمن وتثبيت الاستقرار، وإيهام الشعب العراقي بصعوبة الحياة
بعيدا عن الوصاية الأميركية. قدرة العراقيين على إدارة أمنهم ليست ضربا
من الخيال، ولا حلما يصعب تنفيذه على الأرض، بل هو عمل ممكن وطبيعي
تلجأ إليه كل المجتمعات وتدفع نحوه باستمرار، ذلك أن المجتمعات تنزع في
الأحوال الطبيعية إلى الاستقرار والحلول التوافقية، وإلى توفير فرص
العمل والإنتاج والاستهلاك، أما الحرب والقتال والصدام فهي ظروف طارئة
واستثنائية، يلجأ إليها المجتمع عندما يبلغ مرحلة الاحتقان، ومن المؤكد
أن وجود قوات احتلال داخل الأراضي العراقية هو مورد استفزاز دائم،
ومدعاة لاستمرار حالة الاحتقان في الحياة السياسية.
فالتعصب الطائفي أو المذهبي والقتل على الهوية، ليس جزءا من هوية
الشعب العراقي، وليست مفردة من مفردات ثقافته العتيقة، وإن أراد البعض
أن يلبسه ذلك الثوب لأسباب كثيرة لست في وارد شرحها، ولكنه في الحقيقة
جاء نتيجة اختفاء الحد الأدنى من التوازن الداخلي، والشعور الدائم
باستلاب الهوية والتاريخ وربما الجغرافيا أيضا، واعتقد أن استمرار
الشعور بهيمنة الآخر سوف يعزز من التطرف، وسيدعو العراقيين إلى التحرك
في مسارات متشددة خارجة عن طبيعتهم، سواء ضد بعضهم البعض، أو ضد ضيوفهم
الثقال.
لا يحتاج العراق في هذه اللحظة الحاسمة والمفصلية إلى حكومة تقود
عملية “صولة الفرسان” وتعلن الحرب على العراقيين، وإن خرجوا على
القانون، بقدر حاجته إلى حكومة تقود “حوار الفرسان” بين كل أطياف الشعب
العراقي نحو تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، وهو ما يستدعي الاعتراف
باختلاف وجهات النظر وتباين الرأي بين العراقيين، والعمل كفريق واحد
للوصول إلى نقاط الالتقاء، واحتواء وتجاوز نقاط الافتراق، ويبدو لي أن
التوصل إلى تسوية وتفاهم بين العراقيين يمرّ بالضرورة بخروج القوات
الأميركية من العراق .
إن مطالبة حكومة المالكي بنزع سلاح الميليشيا أمر مفهوم ومبرر، لكنه
لن يحظى بقبول الأطراف الأخرى دون أن يتزامن مع الحديث عن وقف تعاون
حكومة المالكي مع نظام الاحتلال، ودون الحديث عن تسوية شاملة تتضمن
انسحاب القوات الأميركية والبريطانية تماما من العراق، وهي التسوية
التي تمهد لتفاهم حقيقي بين الأطراف العراقية تضمن الحد الأدنى من
انجرار البلاد إلى فتن جديدة بفعل سياسات خارجة عن إرادة الإنسان
العراقي، فاستمرار الاحتلال يعني تفكك النظام الاجتماعي أكثر داخل
العراق، وهو ما يعني بالتأكيد تلاشي حلم التوافق الوطني كشرط أساسي نحو
تحقيق السلام الداخلي وبناء الدولة الحديثة.
* كاتب كويتي
ahmed.shehab@awan.com |