عندما يراقب المهتم بالشؤون العراقية سير الاحداث في هذا البلد في
الوقت الحاضر يتبين له – وبما لايدع مجالا للشك – ان مايمر به العراق
هو مرحلة انتقالية لم تصل الى نهايتها بعد، فلازالت القوى السياسية
تتصارع وتتحاور للخروج من هذه المرحلة واحيانا لاتعرف كيف تحقق ذلك،
عندما تبدو لها الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مغرقة بالفوضى
وعدم التخطيط، وذلك عند تحليله العقلاني يعد امرا طبيعيا في اي بلد
يواجه ماواجهه العراق، ولكن على مستوى الحركة الشاملة بأتجاه المستقبل،
نرى انها تبعث على التفاؤل، وتخبئ الخير الكثير لشعب تحمل الكثير، وكل
بناء يحمل في طياته عناصر النجاح والتفوق او الفشل والانهيار، وبناء
دولة عصرية ديمقراطية و(فدرالية)، لايشذ عن هذه القاعدة.
وقد تطرقنا في مقالات سابقة - وبلغة النقد البناء – الى كثير من
الاسافين التي يمكن ان تحشر في عجلات العملية السياسية العراقية وتهدد
قطارها بالانحراف عن السكة الصحيحة، وطالبنا النخب السياسية بتدارك
الامر قبل استفحاله، وكانت الاحزاب السياسية العراقية بولاءاتها
وتشكيلها وقياداتها وممارساتها تعد من اخطر عوامل الانحراف، ولانريد في
هذه الاسطر تكرار النقد، بل نحاول رسم سبل الارتقاء بالتجربة الحزبية
ليتجاوز كل حزب سلبياته واخطاءه ليكون عامل بناء ونهوض لاعامل تراجع
وهدم.
نعم يسعى كل حزب سياسي منذ لحظة تأسيسه الى الوصول الى السلطة،
وضمان البقاء فيها لاطول فترة ممكنة، ولاعيب ان تطلب احزابنا بمختلف
اتجاهاتها السلطة وتجاهر بهدفها هذا، لكن يجب ان يدرك قادة كل حزب
تاريخ بلدهم ومامر به شعبهم من محن وويلات، ومآسي وآهات، وما يواجهه
وطنهم من تحديات واخطار قد تهدده بالانقسام والتشرذم والاستباحة،
فيكونوا قادة ساعتهم من خلال تفكيرهم وسلوكهم ليترافق سعيهم الى السلطة
مع وضعهم البرامج والايديولوجيات المناسبة لتقديم بلادهم الى الامام،
واي تمحور حول السلطة فقط هو خطأ لابما يجره من اخطار تصيب البلد، بل
هو خطر – ايضا – على الحزب الذي يعمل في الساحة السياسية، عندما تحمل
بقية القوى السياسية ذات العقلية.
ففي هكذا اجواء لايوجد رابح بل الكل يخسر، واكبر الخاسرين سيكون
الشعب العراقي، ولعل نظرة سريعة على الواقع العراقي تدفع الى تحديد
حاجاته بالشكل الاتي:
- اعادة الاعتبار للهوية العراقية من خلال تأكيد روح المواطنة
وتغليبها على الولاءات الضيقة.
- حفظ سيادة واستقلال العراق.
- تأهيل الدولة العراقية لتأخذ موقعها الطبيعي اقليميا ودوليا.
- النهوض بالواقع الاقتصادي العراقي من خلال تطوير قطاعات الزراعة
والصناعة والتجارة ووضع نظام مالي صحيح يحقق توزيع عادل للثروة والتخلص
من آفة البطالة الموجودة في قطاع العمل.
- الارتقاء بالوعي السياسي للفرد العراقي بشكل يقود الى نبذ العنف
والارهاب وتغليب الحوار والتسامح والقبول بالحلول الوسط.
- معالجة الفساد المالي والاداري الذي احتل فيه العراق المرتبة
الثالثة عالميا بعد ماينمار والصومال.
- حماية حقوق الانسان العراقي وحرياته التي طالما كانت هدفا لانتهاك
السلطة الحاكمة لها بمختلف مسمياتها.
وبتحديد هذه الاحتياجات تتحدد الاليات المطلوبة من الاحزاب السياسية
لمعالجتها اذا كانت صادقة في خدمتها للوطن والمواطن، ومن هذه الاليات:
- اتفاق القوى السياسية كافة على مشروع وطني لانقاذ البلاد من
محنتها، فعلى الرغم من مرور فترة خمس سنوات على التغيير لم تطلع علينا
القوى العراقية بمشروع سياسي، اقتصادي، ثقافي –اجتماعي واضح المعالم
تلتف حوله الجماهير، واستمرت وبشكل متفاقم حالة الارباك والفوضى لتخترق
كامل الهرم الحكومي من قمته الى قاعدته، مما اوجد فجوة تتسع يوما بعد
اخر بين الحكومة وشعبها من جانب، وبين القوى السياسية ذاتها من جانب
اخر، فحصد السياسيون مازرعوا من خلال انتكاسة الوضع الامني الحاضر في
كثير من مناطق البلاد، وارتفاع حدة الصراع بينهم، ويجب ان لانعتقد
باقتصار الموضوع على العلاقة بين التيار الصدري والحكومة بل المشكلة
اعمق من ذلك بكثير، والحل ليس مستحيلا وانما قد يكون صعبا من خلال
الالتفاف حول مشروع وطني صحيح لبناء الدولة العراقية، وعدم الانجرار
وراء مشاريع واجندات داخلية وخارجية متصارعة.
ومن خلال هذا المشروع يمكن تبني اهداف وقيم وسلوكيات تعزز
المواطنة والولاء للوطن، وترسم سبل تعزيز الاستقلال والسيادة الوطنية
بحدود – لان السيادة والاستقلال المطلق بلغة الدولة القومية في القرن
التاسع عشر اصبحت مستحيلة وعبثية – من خلال معالجة مشكلة الوجود
الاجنبي في العراق حلا عقلانيا صحيحا.
- ان عسكرة النظام والدولة ليس امرا جديدا على العراقيين، فقد حرصت
حكومات العراق المتعاقبة وبعض احزابه على ذلك، لكنها ماخرجت الا بمزيد
الخيبة والضعف، وكذلك بمزيد من نفور الشعب وتمرده عليها، فيجب على قادة
العراق في الوقت الحاضر ان لايكرروا اخطاء الماضي القريب، واول خطوات
التصحيح والاصلاح تكون من خلال ميثاق وطني تبرمه كل القوى السياسية
يتم بموجبه الغاء الاجنحة العسكرية والامنية في تنظيماتها وتحويلها الى
اجنحة سياسية تسير بهدي برامج واجندات سلمية غير عنيفة ولايكفي ان
يبادر بهذه الخطوة تيار او حزب واحد مع بقاء قوى واحزاب تمارس العنف
وكأنها دولة داخل الدولة، اذ ما الداعي لوجود الاجنحة العسكرية مع توفر
الاجواء الاجواء السياسية التي تسمح بحرية العمل السياسي؟
والجواب هو ان ذلك يدل على انعدام الثقة بشكل دراماتيكي بين من يجب
ان يتحاوروا لقيادة وبناء العراق، فكيف اذا يخلقون الثقة بين افراد
الشعب؟. ان وجود الاجنحة العسكرية لم يعد له مبرر في العراق فبقائها
يشكل خطر على الجميع، ولايتوقع من يستخدم القوة تجاه الاخرين انه سيكون
بعيدا عن استهدافه بالقوة ايضا.
- في بعض المراحل من العمل السياسي قد تحتاج الاحزاب الى الكم
العددي من المناصرين لاثبات احقيتها في الوصول الى السلطة وفرض نفوذها
على الاخرين، ولكن في التجربة الحزبية العراقية اليوم الامر مختلف
تماما، اذ يجب ان يتم التركيز على النوعية في انتخاب الافراد الفاعلين
والمناصرين لاي حزب لان مهمة الاحزاب ليس فقط الوصول الى السلطة، بل
اعادة تأهيل شعب ودولة ونظام حكم بعد عهود طغيان واستبداد وفرعونية
مقيتة، وهذه المهمة تحتاج الى نمط خاص من الكوادر الحزبية الجيدة التي
تستطيع اقناع شعبها باختلافها عن السابقين من الحكام والاحزاب،
بماتطرحه من برامج وتتبناه من ايديولوجيات وتعكسه من سلوك يؤثر في
الرأي العام العراقي المتهيب والخائف من السلطة، فالاستمرار في تبني
كوادر غير مؤهلة لن يساعد احزابنا في النجاح بمهمتها، بل ستكرر اخطاء
الماضي بحذافيرها.
- الموقف من حقوق الانسان العراقي وحرياته العامة لايقتصر على
الشعارات التي تكذبها الوقائع، فمنظومة الحقوق والحريات متكاملة ومن
غير الصحيح الاجتزاء منها فتسمح بحرية الرأي وتحارب حرية السفر، او
تسمح بحق التملك وتصادر حق الحياة وحق المساواة وحق المشاركة
السياسية.. لذا لابد ان تدرك الاحزاب – قيادتها وقاعدتها – ان المطلوب
منها كفالة توفير هذه المنظومة بكاملها وبعد ذلك يمكن لها ان تقول انها
احزاب ديمقراطية او شوروية حقيقية، ولايمكن التهاون في هذا الامر اذ هو
استحقاق شعبي يجب تبنيه والمناداة به، اما ان تقول انك حزب ديمقراطي او
شوروي في الوقت الذي تقصي الاخرين وتستبيح كل كرامتهم وتنتهك انسانيتهم
فهذا شي يجب عدم السماح به لكي لايحصل افتراق وتناقض بين النظرية
والتطبيق.
- ممارسة الاحزاب لدورها الرقابي في معالجة آفة الفساد المالي
والاداري المستشري في البلد والذي قاد الى انتفاخ بطون وجوع بطون اخرى،
من خلال معرفة اسباب الازمة ومظاهرها وطرق علاجها ومن ثم الضغط على
السلطة للقيام بثورة ادارية لمعالجتها، اما ان تكون بعض الاحزاب شريكة
في هذا الفساد فتلك الطامة الكبرى التي زلزلت وستزلزل شرعيتها في العمل
السياسي.
- قضية الجمود والتحجر من اخطر الامراض التي تبتلي بها الاحزاب
السياسية عندما تتوقف عجلة التطور فيها بالانطواء على افكارمعينة
وكأنها قرآن منزل، وعلى قيادات بعينها وكأنها قيادة رسولية معصومة،
والاجدر بالاحزاب الحية ان تواكب التطورات بطرح وتعديل بعض افكارها،
وتبني افكار جديدة، وتغيير قياداتها بما يتناسب والمرحلة التي تمر
بها،لان الاحزاب اطول عمرا من قياداتها، فلايجب ان يعكس الامر وكأن
بقاء الاحزاب مرهون بعمر القيادات، لذا يجب التفات الاحزاب العراقية
الى هذه القضية لما نلمسه من بوادر للجمود والتحجر في بعضها قد تكفل
تدهورها وتراجعها.
- تعزيز سلطة القانون لايعني تعزيز نفوذ الاحزاب في مفاصل السلطة اذ
البون شاسع بين الاثنين، وهو امر يحتاج الى مزيد من التحليل والتدقيق
في التجربة الحزبية الجارية في العراق.
- وطنية اي حزب تكون من خلال انتماءه وتبنيه لمصلحة شعبه، واذ
لانشكك بوطنية اي حزب عراقي، نطالب بحذر الاحزاب من الوقوع في احابيل
الصراع الاقليمي والدولي فتظهر نفسها امام شعبها وكأنها امتدادات
لاجندات ومصالح خارجية، لان هذا الامر يؤذن بفقدانها للتأييد الشعبي،
وسريان عقلية التآمر والتسقيط في العمل السياسي.
وهذه الاليات المذكورة آنفا للنهوض بدور وعمل الاحزاب العراقية
مطلوبة بقوة بعد ماجرى من تطور امني خطير في البلد قد يدخله في مسالك
لايعلم نتيجتها، لأن الامور لم تصل الى هذا المستوى الا بسبب بعد بعض
الاحزاب عن اعتماد هذه الاليات وتبني ما يخالفها، لكن تصحيح سير العملة
السياسية لم يفت اوانه وبناء مستقبل مشرق للعراق لازال في متناول اليد
فلا يجب اهدار فرصته بأفكار وسلوكيات لاتخدم مرحلتها.
مركز الفرات للتنمية الدراسات
الاستراتيجية
http://fcdrs.com |